منذ ظهورها في خمسينيات القرن التاسع عشر، أثارت نظرية التطور عاصفة من الجدل في وجه الأغلبية الغالبة من الأديان والمذاهب الفكرية المحافظة. ضربت النظرية الاعتقاد الإنساني الراسخ بعلو كعبه وتفوقه على باقي الكائنات الحية. كما عصفت في الوقت ذاته بمختلف السرديات الدينية التراثية التي تمحورت حول فكرة خلق الإنسان من طين.
على الرغم من الرفض الإسلامي الجمعي لتلك النظرية، تعالت بعض الأصوات التي حاولت أن تعقد حالة من حالات الوفاق بين المكتشفات العلمية والقصص الدينية التي تناولت قصة الخلق، من ذلك ما ذكره مفتي مصر الأسبق محمد عبده في "تفسير المنار"، وما أورده الأكاديمي المصري عبد الصبور شاهين في كتابه المثير للجدل "أبي آدم" المنشور في منتصف تسعينيات القرن الماضي، وسلسلة الحلقات التي نشرها المفكر الإسلامي عدنان إبراهيم على بعض صفحات مواقع التواصل الاجتماعي. في هذا السياق، نسلط الضوء في هذا المقال على كتاب "هل يمكن أن يكون المسلم تطورياً؟" للمفكر التركي جانر تسلمان.
نظرية التطور والرفض الديني
يُطلق اسم "التطور" أو "النشوء والارتقاء" على النظرية الشهيرة التي طرحها العالم البريطاني تشارلز داروين في كتابه الشهير "أصل الأنواع" المنشور سنة 1859. في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، شارك داروين في رحلة استكشافية على متن سفينة البيجل. استمرت تلك الرحلة لما يقرب من الخمس سنوات، وزارت أماكن متعددة في أمريكا الجنوبية، والمحيط الهادي وجزر غالاباغوس، قبل أن تعود أدراجها عبر أستراليا وموريشيوس وجنوب إفريقيا. خلال الرحلة، سجل داروين العديد من الملاحظات الجيولوجية والحيوانية والنباتية. وخلص في نهاية المطاف إلى طرح نظريته المثيرة للجدل حول التطور.
شهدت السنوات الأخيرة، ظهور العديد من المحاولات للتوفيق بين الإسلام ونظرية التطور. تُعدّ أطروحة الأكاديمي التركي جانر تسلمان، والذي يعمل كأستاذ محاضر في جامعتي طوكيو وأوكسفورد، واحدة من أبرز تلك المحاولات وأكثرها أهمية ونضجاً
بشكل مبسط، تؤكد النظرية على أن الحياة على كوكب الأرض قد بدأت منذ ما يقرب من 3.5 مليار سنة. وأن كل الكائنات الحية الموجودة حالياً ترجع إلى سلف واحد مشترك عاش في تلك الحقبة الغابرة. ويعتقد التطوريون أن الصور المختلفة من الحياة قد تشكلت على صورتها الحالية من خلال عمليات متعددة ومعقدة من التطور. فهناك التطور الأصغر والذي نتج عنه وقوع تغيرات بسيطة داخل النوع الواحد، والتطور الأكبر الذي تسبب في وقوع تغييرات جسيمة عبر فترات زمنية طويلة، مما أدى للانتقال من نوع لآخر. أما عن كيفية وقوع التطور، فيطرح التطوريون مجموعة من الآليات العلمية، ومنها كل من الاصطفاء الطبيعي، والانحراف الوراثي، والطفرات.
من جهتهم، عارض رجال الدين الإبراهيميون (اليهود، والمسيحيون، والمسلمون) نظرية التطور، وعدوها نوعاً من أنواع الخرافة والتجديف، وذلك بسبب تعارضها مع الروايات التقليدية عن خلق الله للإنسان من طين، والتي وردت في مختلف النصوص المقدسة. في هذا السياق، شنت مختلف المؤسسات الدينية الإسلامية الهجوم على النظرية وصاحبها. على سبيل المثال، قال الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، إن نظرية داروين فى التطور "مضطربة"، مضيفاً أنه لم يظهر حتى الآن اكتشاف واحد علمي يقيني يثبت أن نظرية داروين على حق، بعد مرور 150 عامًا على ظهور النظرية. أما مفتي المملكة العربية السعودية السابق، عبد العزيز ابن باز، فقد وصف النظرية بأنها "قول منكر وباطل ومخالف لكتاب الله عز وجل وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام ولإجماع سلف الأمة". كذلك، صدرت بعض الفتاوى عن جامع الزيتونة في تونس، والتي أكدت أن "هذه النظرية من اعتقدها أو شكّ في احتمال كونها صحيحة، فهذا والعياذُ بالله مكذبٌ لدين الله خارج عن ملة المسلمين".
هل يمكن أن يكون المسلم تطورياً؟
شهدت السنوات الأخيرة، ظهور العديد من المحاولات للتوفيق بين الإسلام ونظرية التطور. تُعدّ أطروحة الأكاديمي التركي جانر تسلمان، والذي يعمل كأستاذ محاضر في جامعتي طوكيو وأوكسفورد، واحدة من أبرز تلك المحاولات وأكثرها أهمية ونضجاً. في سنة 2017، رسم تسلمان الخطوط العريضة لأطروحته في كتابه "؟Bir Müslüman Evrimci Olabilir Mi". وهو الكتاب الذي صدرت نسخته العربية تحت عنوان "هل يمكن أن يكون المسلم تطورياً؟" في 2023 على يد الباحث والمترجم المصري المتخصص في ترجمات نظرية المعرفة وفلسفة الدين والحوار بين الأديان، إسلام سعد.
بدأ تسلمان طرحه بلفت النظر إلى مغالطة شائعة، وهي تلك التي تربط بين الاعتقاد بصدق نظرية التطور من جهة، والإلحاد من جهة أخرى. ذكر تسلمان أسماء الكثير من العلماء التأليهيين (بمعنى أنهم يعتقدون بوجود الله) الذين آمنوا بالتطور، وخلص إلى أن "التصنيف الثنائي للناس باعتبارهم تطوريين- ملحدين"، أو "مناهضين للتطور- تأليهيين"، تبسيطي ومضلل.
بعدها، وتأسيساً على المعطيات الواردة في النص القرآني وحده، طرح المفكر التركي سؤاله الأول "هل تتطلب نظرية التطور حقاً رفض الاعتقاد في وجود الله؟". يجيب تسلمان على هذا السؤال بالنفي. ويضيف بأن السبب في ظهور هذا السؤال يعود بالمقام الأول لفكرة "إله الفجوات"، وهي الفكرة التي تتسبب في إنتاج تصور جمعي مغلوط عن الله. بحسب التقليد الديني فإن "الأدلة الرئيسية على وجود الله هي المجاهيل المتعلقة بالكون والحياة"، ومن ثم فإن كل نظرية علمية تقدم تفسيراً لإحدى الفجوات المتعلقة بالخلق ونشأة الكون، تمثل تهديداً على الإيمان بالله. يؤكد تسلمان على خطأ ذلك التصور، فالله هو "إله الخلق"، وكل معرفة جديدة عن الحياة من شأنها أن تزيد استيعاب البشر قوة وإبداع الخالق.
بعد ذلك، يستحضر تسلمان عدداً كبيراً من الآيات القرآنية التي وردت فيها عبارة "كن فيكون"، والتي يستند إليها رافضو التطور لما فيها من دلالات موحية بالخلق اللحظي للعنصر البشري. يرى الفيلسوف التركي أن جميع الآيات القرآنية التي اشتملت على تلك العبارة، قد قصدت عملية الخلق التراكمي، والذي يمتد لفترة زمنية طويلة نوعاً ما. على سبيل المثال، يستشهد تسلمان بالآية 59 من سورة آل عمران، والتي عقدت المقارنة بين خلق عيسى وخلق آدم. يرى تسلمان أن المقاربة القرآنية في تلك الآية تنفي التصور القائم على الخلق الآني اللحظي، فلا جدال في أن السيدة مريم قد حملت لشهور في طفلها، قبل أن تضعه. ولم يقل أحد من المفسرين المسلمين إن ذلك يتعارض مع "كن فيكون" التي فُسرت بها عملية خلقه. ومن هنا، يذهب تسلمان إلى أن المعترضين على نظرية التطور لأنها تتطلب حدوث الخلق على مراحل "يتجاهلون كلاً من القول الواضح للقرآن الكريم عن الخلق، وخلق الله الذي نشهده حولنا. بمعنى آخر، باستخدام مثل هذه الحجج لمعارضة نظرية التطور، يعارض هؤلاء المعترضون في الواقع الإسلام عبر معارضة كلمة الله وعالمه".
تأثيرات كتابية وتأويلات لغوية
بعد أن قدم تسلمان الأُطر العامة لأطروحته في النصف الأول من الكتاب، عمل بعد ذلك على تفنيد العديد من الشكوك الإسلامية الموجهة لنظرية التطور من خلال فض الالتباس الواقع بين النصوص الكتابية اليهودية والمسيحية من جهة، والنص القرآني الإسلامي من جهة أخرى. يرى تسلمان أن رجال الدين المسلمين سارعوا إلى تصديق العديد من الروايات الكتابية التي تتعارض بشكل صريح مع نظرية التطور. وتسبب ذلك في رفض النظرية من قِبل السواد الأعظم من المسلمين، رغم أن القرآن نفسه لا يعترف بتلك القصص. على سبيل المثال، حدد النص التوراتي توقيتات دقيقة لخلق الأرض ولأعمار الأجيال الإنسانية المتعاقبة، وتعارضت تلك التوقيتات مع الرأي العلمي الذي يذهب إلى أن عمر الأرض يُقدر بما يقرب من 4.5 مليار سنة. على النقيض من ذلك، يذكر القرآن أن الله خلق الأرض في ستة أيام، ويفسح المعنى اللغوي لكلمة "يوم" في اللغة العربية المجال لظهور تأويلات متعددة لفترة الخلق، مما يدعم التوافق مع المستجدات العلمية.
يؤكد تسلمان على أن التصور الشائع حول خلق أدم وحواء في الجنة، لا يقوم بالأساس على مُعطيات قرآنية، بقدر ما يستمد قوته وزخمه من روايات تراثية تتباين في درجات موثوقيتها. إذا ما رجعنا للفظ الذي استخدمه القرآن لوصف المكان الذي وقعت فيه عملية الخلق، فسنجده "الجنة"
من المسائل المتصلة بتلك النقطة، الاختلاف حول التصور الديني للموت. بحسب التقليد المسيحي فإن الله لم يخلق أدم للموت، بل إن الموت، للبشر والحيوانات على حد سواء، كان أمراً طارئاً مستجداً، وقد وقع عقب السقوط في الخطيئة الأولى بعدما أكل آدم من الشجرة المحرمة. يتعارض ذلك التقليد مع الأدلة الأركيولوجية الكثيرة التي تثبت موت الكائنات الحية التي عاشت على الأرض منذ ملايين السنين. يرى تسلمان أن النص القرآني يقدم تصوراً مختلفاً عن الموت، عندما يرفض ربطه بالخطيئة أو السقوط، الأمر الذي من شأنه أن يفسح المجال للتوافق مع المكتشفات العلمية ونتائج الحفريات.
من جهة أخرى، يؤكد تسلمان على أن التصور الشائع حول خلق أدم وحواء في الجنة، لا يقوم بالأساس على مُعطيات قرآنية، بقدر ما يستمد قوته وزخمه من روايات تراثية تتباين في درجات موثوقيتها. إذا ما رجعنا للفظ الذي استخدمه القرآن لوصف المكان الذي وقعت فيه عملية الخلق، فسنجده "الجنة". على الرغم من استعمال ذلك اللفظ في سياق الإشارة للدار الآخرة في الكثير من الآيات القرآنية، فإن القرآن قد استعمل اللفظ نفسه لوصف الحدائق والبساتين الموجودة على الأرض، ومن ذلك ما ورد في الآية رقم 32 من سورة الكهف، والآية رقم 91 من سورة الإسراء، والآية رقم 17 من سورة القلم. كذلك، يستعين تسلمان بالمقاربة اللغوية البلاغية عند تفسيره لكلمة "اهبطوا" الواردة في الآية رقم 36 من سورة البقرة، في سياق الأمر الإلهي بإخراج آدم وزوجه من الجنة عقب قيامهما بارتكاب المعصية. يرى الفيلسوف التركي أنه من الممكن تفسير تلك الكلمة بما يتوافق مع النظرة التطورية للخلق. بمقتضى هذا التفسير، نفهم الكلمة باعتبارها نزولاً في المكانة، وليست نزولاً جسدياً من السماء للأرض.
كذلك، تطرق تسلمان لواحدة من أشهر الانتقادات الموجهة لنظرية التطور من قِبل الإسلامين، والمُتمثلة في القول بأن الاعتقاد بأن الإنسان والقرد من أصل واحد يتعارض مع صريح الآيات القرآنية والتي أكدت على أن الإنسان قد خُلق في أحسن تقويم، وذلك بحسب ما ورد في الآية الرابعة من سورة التين. يرفض المفكر التركي ذلك الانتقاد، ويعدّه مغالطة "خاطئة علمياً، ومضللة لاهوتياً".
يحاجج تسلمان بأن النمو البشري يستلزم هضم كميات كبيرة من الأغذية والنباتات، والتي تصير مع الوقت جزءاً لا يتجزأ من الإنسان. كما أن الجسد البشري يحتوي على ملايين البكتيريا، ولا يتعارض ذلك مع أن الإنسان في أحسن تقويم. من جهة أخرى، يؤكد تسلمان على أن الخطاب القرآني قد أبدى رفضه مراراً للربط بين القرابة والكرامة. كان أبو لهب عماً للنبي، ولم يؤثر ذلك في شرف النبي وكرامته. من هنا، يخلص تسلمان في نهاية المطاف للقول بأنه: "لا يعرض تأسيس علاقة سلفية -موروثة عن أسلاف- بين البشر والحيوانات الكرامة الإنسانية للخطر أو التهديد. في القرآن الكريم، لاقى الشيطان نقداً وتقريعاً لغطرسته حينما زعم أن أصوله أرقى من أصول الإنسان، وبالتالي عصى الله. من هذه السرديات عن الشيطان نفهم إدانة الغطرسة السلفية -الموروثة عن أسلاف- في القرآن الكريم. بالتالي، تجذير الكرامة الإنسانية في السلف ينقضه التأسيس القرآني".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 6 ساعاتهذا ليس طبيعيا، وهو ينشئ في الحالات القصوى من اضطرابات ومشاكل نفسية. الإنسان العاقل عندما يواجه...
مستخدم مجهول -
منذ 6 ساعاتAnyone that studies human psychology and biological functioning of the body and it's interactions...
مستخدم مجهول -
منذ 6 ساعات'لا يسخر قوم من قوم', لا أذكر هذه العنصرية عندما كنت في المدرسة في الجنوب.
للأسف أن المعتقد...
Mohammed Liswi -
منذ يومينعجبني الموضوع والفكرة
Ahmed Alaa -
منذ 3 أياملا حول ولا قوة إلا بالله
Hossam Sami -
منذ أسبوعالدراما المصرية فـ السبعينات الثمانينات و التسعينات كانت كارثة بمعنى الكلمة، النسبة الأغلبية...