في كتاب "إسلام بلا مذاهب"، بطبعاته المتعددة، أرسى الدكتور مصطفى الشكعة قاعدة أصيلة في مهابة تأليف الكتب، كعملية إنتاج مستمرة، كلما صدرت طبعة جديدة. قراءة مقدمات طبعات الكتاب متعة لا تخلو من فوائد، درسٌ من مؤلف يحترم كِتابه ويتعهّده، حتى بعد أن تجاوز الكتاب سن الرشد، يظل الكتاب ابناً لا يُقتل أبوه. المؤلف لا يموت.

ليس مهمًّاً أن يضيف "مؤلّف" إلى اسمه مزيداً من عناوين الكتب، سواء المؤلّفة والمولّفة. التأليف إبداع وجداني وذهني، مهنة شاقة، عناء أشدّ من الولادة. التوليف إجراء احترافي، آلي، يمارسه المولّف في أي وقت، لا تختلف درجة حرارة الكتابة أيًّاً كان المحتوى، لا فرق بين تجريف مدينة المولّف، وانقراض حيوان في نيوزيلاندا أو صعود العنصرية في أوروبا. للمولّف قدرات خاصة، يصبّ الجُمل ذات الطابع التايواني في قوالب بلاستيكية، خالية من النبض، لا أثر فيها لسخونة الدماء.
المؤلّف كائن قلِق، صفة يمتاز بها، فضيلة كأنها قدرٌ لا اختيار. والمولّف واثق دائماً، ماضٍ في طريقه، لا يشغله القلق ولا اليقين، بل مراكمة العناوين إلى سيرته. كاتب عربي كبير، لعله الشاعر سعدي يوسف، قابله كاتب مصري في القاهرة، وعرّف نفسه بأن له أكثر من أربعين كتاباً. سعدي المشهور بحدّته لم يستطع كتمان السخرية، ولا تأجيلها. أدهشه ألا يسمع بكاتب غزير، كيف لم ينتبه إلى هذا الناقد ولم يصادفه عنوان لأيٍّ من الكتب الأربعين؟ قال له: "لله ثلاثة كتب فقط، فكيف ومتى كتبت أربعين كتاباً؟".
التوليف إجراء احترافي، آلي، يمارسه المولّف في أي وقت، لا تختلف درجة حرارة الكتابة أيًّاً كان المحتوى، لا فرق بين تجريف مدينة المولّف، وانقراض حيوان في نيوزيلاندا أو صعود العنصرية في أوروبا
لا بدّ أن أسجل أن الغزارة ليست دائماً تهمة، والندرة أيضاً ليست عنوان الجودة، فقد تعني الكسل والبلادة. عندي مثال قديم على الندرة البليدة. ظل هذا المثال يزعجني، حتى طمأنني الدكتورة مصطفى الشكعة بكتابه "إسلام بلا مذاهب"، والدكتور عبد الوهاب المسيري بسيرته التي صدرت طبعتها الأولى عام 2001، عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، بعنوان "رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمر... سيرة غير ذاتية غير موضوعية". لم يُلْقها المسيري وديعة بين يدي القراء، لانشغاله بكتب أخرى ضمن مشروع وهبَه حياته، وإنما تولى رعاية سيرته بالمراجعة والتعديل، فأضاف الكثير إلى الطبعة الثانية، المنشورة في دار الشروق عام 2005، بل إنه غيّر العنوان فأصبح "رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمار"، وحذف العنوان الفرعي، الشارح. قلت له إن سيرته هي أهم أعماله، بما فيها موسوعة "اليهود واليهودية والصهيونية". صَمَتَ كأنه يفكر، ثم ابتسم، وقال إن صديقاً آخر سبقني إلى هذا الرأي.

من أمثلة الإضافات أنه، تحت تأثير المخدّر بعد إجراء جراحة، كان يتحدث بالفصحى، وبزوال أثر المخدّر تحدث بالعامية. في الطبعة الجديدة تذكّر إضافة، هي تكرار حلم محدَّد في الليالي التالية للجراحة. وتحت عنوان "الدين والهوية" أضاف أنه حين عاد من الولايات المتحدة عام 1969، أحبّ مصر الجديدة، بسبب المعمار "الإسلامي البلجيكي" المميز للحي، وكذلك الكنائس المتنوعة والميادين والنافورات. وفي موضع آخر أضاف شكوكه في الديمقراطية الأمريكية. كما أضاف أن "دعاة التطبيع والعولمة يدّعون دائماً أنهم من الواقعيين، وهم في حقيقة الأمر وقائعيون، أما الواقعيون الحقيقيون، فهم المجاهدون في جنوبي لبنان والمنتفضون في فلسطين والثوار في العراق". ومن الإضافات أيضاً كلامه عن الخريطة الإدراكية وعلاقتها بالعقل السلبي، «والموضوعية الفوتوغرافية المتلقية".
لم يذكر المسيري ولا الشكعة أن الطبعات التالية من كتابيهما "منقّحة". في الكتب الفكرية يكون التنقيح أمراً بديهياً، لا يحتاج إلى إعلان. طبعة جديدة تعني تدارُك فكرة، وإضافة فصول، وإعادة كتابة بعض الفصول استناداً إلى ما أتيح للمؤلف من خبرات ووثائق ومعارف. وكما لا ينزل الإنسان النهرَ نفسه مرتين، لأن النهر يتجدد، فإن الكاتب المتجدد لا ينشر الكتاب نفسه مرتين، ففي كل طبعة كان المؤلف مختلفاً، ربما استغرب أشياء لم تعد تناسب وعيه، فأجرى عليها تعديلات بشجاعة.
أما المثال القديم الدال على الندرة البليدة، حتى لو أن للمؤلف كتاباً واحداً، فيرجع إلى عام 1985، في السنة الأولى بالجامعة. درّس لنا عميد الكلية مادة "الدعاية"، ومن حقه ومن حق غيره من عمداء الكليات أن يستمروا في التدريس، في أوقات الفراغ من المهام الإدارية. الكتاب المقرر صدرت طبعته الأولى عام 1974. والطبعة الثانية، التي بين يديّ، نشرتها دار المعارف عام 1985، مع توثيق أنها "منقّحة". لا تنقيح ولا مقدمة للطبعة الجديدة. بمقدمة الطبعة الأولى يبدأ الكتاب الذي ينقسم إلى قسمين متساويين تقريباً؛ الأول نظريّ عن حروب الدعاية وأساليب كشفها، وتحليل المضمون. والقسم الثاني أكبر قليلاً، ويضم نصوص التعليقات السياسية للتلفزيون الإسرائيلي، بين شهرَي تموز/يوليو وتشرين الأول/أكتوبر 1972.
يناسب الكتاب أجواء عام 1972 فقط، حيث أجواء فضيحة ووترجيت، وتشويه العلاقات المصرية السوفياتية، وتشويه طابع الوحدة العربية. وليس منطقياً إعادة نشر طبعته الأولى، كما هي، في ظل طبعة جديدة من عالم عاصف تلوح فيه البروسترويكا، وقبلها الْتباسات العلاقات المصرية مع العدو الصهيوني، منذ فكّ الاشتباك وصولاً إلى زيارة أنور السادات للقدس، وتوقيع معاهدة السلام عام 1979. ذلك العام الذي كتب نهاية القرن العشرين، تسونامي شمل العالم كله، بصعود الخميني في إيران، واحتلال أفغانستان، وتحالف العرب بالأموال والمجاهدين لتنفيذ مخطط أمريكي هلهل الاتحاد السوفياتي تحت رايات إسلامية. هذا كله يخلو تماماً من طبعة "منقّحة"، في كتاب عن الدعاية السياسية. ولا أظن أن كتاباً عن الدعاية تيبّست فصوله قبل حرب 1973 يهمّ القراء، لكنه كوثيقة متحفية ربما يفيد باحثاً. وربنا يرحم المؤلف ويرحمنا.
أما الدكتور مصطفى الشكعة فكتابه لا يسعى إلى طمأنة القارئ، قد يطمئنه ثم يحرّضه على البحث، ويحيله إلى مصادر ومراجع. وقد شجعتني حيوية الرجل على دوام الاتصال به، كلما الْتبس عليّ إشكال لغويّ ونحويّ. فعلت هذا أيضاً مع الدكاترة رمضان عبد التواب وعبد الصبور شاهين وكمال البشر الذي استغرب سؤالي عن وضع علامة التنوين بالفتح، على الألف أمْ على الحرف السابق؟ فقال لي: "ريّح نفسك، اِنسَ كتابة التنوين". كان الشكعة أكبرهم سنًّاً، وقد رحل في نيسان/أبريل 2011 عن 94 عاماً. لم أنتبه إلى وفاته، في زحمة الأحلام بصعود الثورة. ولو عقل المهووسون بالتفوق المذهبي، من تنظيم الإخوان ومن السلفيين الكارهين للشيعة، لأدركوا أن كتاب "إسلام بلا مذاهب" هو المنقذ من الضلال. وهنا أكتفي بالتوقف أمام فلسفة مقدمات الكتاب، اعتماداً على الطبعة التاسعة عشرة المنشورة في الدار المصرية اللبنانية بالقاهرة، عام 2008.
الشكعة أنهى الكتاب عام 1960، وصدر في القاهرة. وفي عام 1971 صدرت الطبعة الثانية في لبنان حيث كان يعمل أستاذاً بجامعة بيروت العربية. وأضاف فصلاً ـ أراه مقحماً ـ عن مكانة المرأة في الإسلام، وفصلاً عن أئمة أهل السنة، كما أغنى الفصل الخاص بالمذهب الدرزي، "بعدما ظهر فيه من تآليف لاحقة للطبعة الأولى"، فحتى عام 1960 "لم يكن المتخصصون من إخواننا الدروز قد دخلوا إلى ساحة الكتابة عن مذهبهم والتأليف فيه، وكانت الكتابات التي ظهرت في هذا الميدان إما من أبناء غير المذهب، أو من أبنائه الذين ليست لهم دراية كاملة به، فكانت كتاباتهم أقرب إلى أن تكون تاريخية اجتماعية منها إلى أن تكون مذهبية دينية، أما وقد ظهرت بعض الكتب التي تتناول القضايا الدينية من خلال المفهوم الدرزي فلم يكن هناك مفرّ لكاتب يحترم نفسه ويحتفي بقرائه من أن يعرض لما كتب سابقاً، ويراجعه في ضوء ما ألّفه غيره لاحقاً، ويعيد النظر فيه"، لتصحيح المفاهيم بأفكار جديدة توصل إليها المؤلف.

ما يثيره الكتاب الجيد من جدل إيجابي يسهم في إثراء طبعاته اللاحقة. والجدل الشفاهي قد يشبه اللغو. ذكر الشكعة أن مفكرين ينتمون إلى مدارس إسلامية تنتهج "في عقيدتها شيئاً من الغلو" ناقشوه في ما كتبه عن مذاهبهم، فطلب إليهم موافاته الكتابية بما يريدون تصويبه، ووعدهم بنشر "ملاحظاتهم كاملة". ولم يصله ردٌّ واحدٌ.
في كانون الأول/ديسمبر 1971 أنهى المؤلف كتابة مقدمة الطبعة الثالثة التي أضاف إليها فصلاً عن التصوف في الإسلام. وأعاد التأكيد على أن ما أضافه إلى الطبعة الثانية، بخصوص الدروز، يُقدَّم "لقراء العربية، ربما لأول مرة في تاريخ الدروز أنفسهم".
المؤلّف كائن قلِق، صفة يمتاز بها، فضيلة كأنها قدرٌ لا اختيار. والمولّف واثق دائماً، ماضٍ في طريقه، لا يشغله القلق ولا اليقين، بل مراكمة العناوين إلى سيرته. كاتب عربي كبير
وبعد سنة جاءت الطبعة الرابعة بإضافة "ذات شأن"، لإلقاء مزيد من الأضواء على "إخواننا العلويين"، وكانت رحلة شاقة بسبب قلة المراجع.
في مقدمة الطبعة الخامسة، 1976، قال: "بلغ الكتاب رشده في الطبعة الماضية التي ضمت فصلاً علمياً أميناً عن طائفة العلويين، وآخر عن طائفة الدروز، وأصارح القارئ العزيز أنه سوف يفتقد في هذه الطبعة الفصل الخاص بالطائفة الدرزية، وذلك لأسباب كثيرة، لعل أهمها اطلاعي على كتابهم مصحف المنفرد بذاته".
لم يذكر أن "مصحف المنفرد بذاته" أثار غضبه، فاستبعد فصل الدروز. وتضمنت مقدمة الطبعة السادسة، عام 1986، عتاب أصدقائه من الدروز على حذف فصل الدروز من الطبعة الخامسة، ذكروا له "أنهم يعتقدون ما تعتقده جمهرة المسلمين، مع خلاف لا يصلح أن يقوم أساساً لاستبعادهم من كتاب يتحدث عن المذاهب الإسلامية". ذكروا للمؤلف "أنهم غير مسؤولين عن الغلو الذي تورط فيه فريق منهم، وأنهم ـ أي الأصدقاء الذين كتبوا إليَّ ـ يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله، وأنهم يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة ويصومون رمضان، ويجدون البيت". ولذلك استجاب لهم. وفي ضوء المصادر الجديدة، أعاد كتابة فصل الدروز في نحو 60 صفحةـ
في خريف 1988 كتب أنه عزم على إصدار الطبعة السابعة، "بدون أن أخطّ فيها سطراً جديداً"، وبعد اقترابه من مصادر القاديانية والأحمدية، تراجع وأعاد كتابة الفصل الخاص بهذه الفرقة. كما أضاف تفاصيل إلى فصل الشيعة الإمامية، لإعلان المذهب الإمامي "عن أفكار لم تكن مطروحة من قبل"، وأثارها الخميني "بقوة -وربما بعنف- في كتبه".
في مقدمة الطبعة الثامنة، عام 1991، كتب أنه اطمأن إلى أن الطبعة السابقة، السابعة المزيدة المنقَّحة، "بلغت مقام الرضا منا ومن القارئ"، ثم رأى زيادة تفاصيل تاريخية إلى المذهب الإباضي والدول الخمس التي اعتمدت هذا المذهب في عمان، وامتداد هذا المذهب إلى بلاد المغرب، ممثلاً في الدولة الرستمية التي دامت نحو مئة وثلاثين سنة.
وفي مقدمة الطبعة التاسعة، 1992، أقرّ بأن فصل الطائفة الإسماعيلية "ربما كان بحاجة إلى مزيد... ومن ثم قمنا بإعادة كتابته، مسترشدين بمزيد من كتب المذهب وآراء كبار دعاته". وذكر في مقدمة الطبعة الثالثة عشرة، 1997، أنه أعاد صياغة فصل الإسماعيلية، استجابة لطلب قراء رغبوا في معرفة المزيد، فأضاف تفاصيل عن المذهب تاريخاً وتنظيماً وأئمة وأعلاماً وأقطاراً.
مسار كتاب الشكعة يؤكد أن التأليف عملية مستمرة، إحدى درجات الرهبة. أكتفي بهذا، وأختم بالرجوع إلى عنوان المقال، في مديح الإبداع الكتابي المسمى التأليف. أما التوليف فيعني، في المغرب، حرفة المونتاج.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Hossam Sami -
منذ 3 أيامالدراما المصرية فـ السبعينات الثمانينات و التسعينات كانت كارثة بمعنى الكلمة، النسبة الأغلبية...
diala alghadhban -
منذ 6 أيامو انتي احلى سمرة
حاولت صور مثلك بس كان هدفي مو توثيق الاشياء يمكن كان هدفي كون جزء من حدث .....
ssznotes -
منذ 6 أيامشكرًا لمشاركتك هذا المحتوى القيم. Sarfegp هو منصة رائعة للحصول...
saeed nahhas -
منذ 6 أيامجميل وعميق
Mohamed Adel -
منذ أسبوعلدي ملاحظة في الدراما الحالية انها لا تعبر عن المستوى الاقتصادي للغالبية العظمى من المصريين وهي...
sergio sergio -
منذ أسبوعاذا كان امراءه قوية اكثر من رجل لكان للواقع رأي آخر