شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
إذا قررتم لعْن عبد الناصر فتذكروا أصول

إذا قررتم لعْن عبد الناصر فتذكروا أصول "التأليف"... الذاكرة تكشف العورة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الجمعة 8 أبريل 202203:15 م

لست ناصرياً، ولا أستهدف الدفاع عن عبد الناصر أو الهجوم عليه. عاش الرجل 52 عاماً وتوفي منذ 52 عاماً. وبعد، حين سينال نصيباً مستحقاً من التقييم الموضوعي، بالإنصاف أو اللعنات. لم يكن مجرد شخص، أيّاً كان الرأي فيه، وإنما هو ظاهرة محيّرة، يصعب إزاءها اتخاذ موقف محايد. انطلاقاً من ثقافة إخوانية، ظللتُ حتى سن الرابعة والعشرين ألعنه، وأوقنُ بكفره. ثم تقصّيتُ وجهه الآخر، وجوهه الأخرى، في مصر وخارجها.

آخر مظاهر الحيرة والإرباك أن يتسبب عبد الناصر في ضعف ذاكرة الذين ولّوا وجوههم شطر أنور السادات وحسني مبارك. وأكتفي بثلاثة نماذج تنطوي فيها القلوب على بعض الغرض. وكلامي يخص تأليف الكتب.

مات عبد الناصر في 28 أيلول/سبتمبر 1970 فكتب أنيس منصور في صحيفة "الأخبار" مقالاً عنوانه "... وكانت الصحة الغالية هي الثمن!". بدأه بوضع "زعيمنا ابن الثانية والخمسين" في السجل التاريخي للعظماء: "كانت أفكاره موجزة: الحرية والوحدة والاشتراكية... وكانت قدراته غير عادية". وأنهى المقال: "يرحم الله جمال عبد الناصر فقد كان خسارة لمصر وللشعوب العربية... مائة مليون خسارة".

أنيس منصور غير البوصلة، وقدم عربون خدمة للسادات، بمقالات ضمها كتابه "عبد الناصر المفترى عليه والمفتري علينا". تسلح بأسطورة قول سيد قطب قبل إعدامه: "اللهم اجعل دمي لعنة عليه إلى يوم القيامة... اللهم هذا الطاغوت تكبر وتجبر"

كان عدد مواطني العالم العربي آنذاك 115 مليوناً تقريبا، ونال كل عربي أقل قليلاً من خسارة واحدة، وفقاً لحسابات الكاتب. وفي 9 تشرين الأول/أكتوبر 1970 كتب أيضاً في عموده "مواقف" في صحيفة "الأخبار": "عبد الناصر ليس ماضينا المجيد فقط، إنه حاضرنا وهو مستقبلنا أيضاً".

أنيس غير البوصلة، وقدم عربون خدمة للسادات، بمقالات ضمها كتابه "عبد الناصر المفترى عليه والمفتري علينا". تسلح بأسطورة قول سيد قطب قبل إعدامه: "اللهم اجعل دمي لعنة عليه إلى يوم القيامة... اللهم هذا الطاغوت تكبر وتجبر". أنيس وصف قطب بالعالم الجليل "والشهيد الكريم، صديقي في حب الأستاذ العقاد والإعجاب به، أحد الأنوار الكاشفة للإيمان والغضب النبيل من أجل الله... كان علماً وقرآناً.. لم يكن بشراً، لقد كان جبلاً من الإيمان والصبر واليقين". لا أدري ماذا كتب أنيس عن قطب بعد ذلك "الاستعمال"، ولكنه ذكر في الكتاب أن عبد الناصر "خدعه سكوت مئات الألوف من الشهداء، فاعتقد أن السكوت علامة الرضا!".

تزامن صدور الكتاب مع موجة ساداتية تنتقم من عبد الناصر. وأسدل أنيس ستاراً على مدائحه للزعيم. وزعم عام 1975 أن مدير المخابرات صلاح نصر هدده بالسجن عام 1970، لقوله في مقاله "... وكانت الصحة الغالية هي الثمن!" إن مرض عبد الناصر اسمه مرض اليهود. لكن المقال لا يضمن هذه الجملة التي ادعى أنه كتبها، اعتماداً على صعوبة إتاحة نص المقال لعموم القراء، وكان رموز عصر عبد الناصر وراء الأسوار، منذ اعتقلهم السادات في انقلاب مايو 1971. ونسي أنيس أن صلاح نصر كان مسجوناً منذ عام 1967. غفلةٌ تنسف البناء، ونسيانٌ أصاب أيضاً الصحفي عبده مباشر، مؤلف أكثر من 20 كتاباً.

 

لنترك ما يثيره عطف اسميْ رئيسين على ضمير "أنا" عبده مباشر، في عنوان كتابه "أنا وعبد الناصر والسادات... سطور من السيرة الذاتية"، وقد انتهى من تأليفه في نهاية عام 2012. في الباب الأول "أنا... وعبد الناصر"، يذكر أن صحيفة "الأخبار" أوفدته إلى الحجاز، بعد توقيع عبد الناصر والملك فيصل اتفاقية جدة في آب/أغسطس 1965، لإنهاء الصراع العسكري في اليمن.

وفي جدة قابله الأمير عبد الله الفيصل الابن الأكبر للملك، وكمال أدهم شقيق زوجة الملك ومدير المخابرات السعودية، وقال له عبد الله الفيصل إنه مستعد لصرف آخر هللة من ماله، حتى يركع عبد الناصر. فقال له مباشر: "عبد الناصر لن يركع".

ويقول إن "المثير للدهشة" أن كمال أدهم أسمعه كلام عبد الله الفيصل نفسه. رد عليه المؤلف بالجملة نفسها: "عبد الناصر لن يركع". وكان الرجلان "حادين في عدائهما للرئيس عبد الناصر ولم يحاولا إخفاء هذا العداء ولم يناورا، وحمدت لهما شجاعتهما الأدبية".

وكان الملك قد رسم علاقات المملكة بإطارها الإقليمي، وزار إيران، "خلال الزيارة تقاسم الشاه وفيصل مناطق النفوذ في منطقة الخليج ولم يقف العاهل السعودي في وجه أطماع الشاه في المنطقة". الملك استقبل المؤلف الذي أعاد عليه ما سمعه من الفيصل وأدهم، "فاستنكر الملك ما قالا، ووصف الأول بأنه ولد، وقال عن الثاني إنه تركي لا علاقة له بسياسة المملكة".

استغرقت إجراءات التأشيرة ثلاثة أشهر. وفاز المؤلف بمقابلة الملك الذي تكلم للمرة الأولى منذ توقيع اتفاقيته مع عبد الناصر، وأشاد بالرئيس. وفي القاهرة رأى رئيس تحرير "الأخبار" مصطفى أمين "بخبربته وفطنته وحصافته وذكائه أنها (التصريحات) تدعم صورة الملك فيصل لدى المصريين والعرب، وتضيف إليها عدداً من الصفات الإيجابية، وأن ذلك سيكون خصماً من رصيد عبد الناصر ومن ثقة الجماهير فيه، كما أن النشر سيجعل من المقارنة، بين من يشتم ومن يمدح ومن تجري على لسانه الألفاظ النابية والملك العف اللسان، ما لا يريده الرئيس المصري حرصاً منه على صورته الجماهيرية ومكانته، وأيضاً على سياسته وتوجهاته التي تتصادم مع سياسة الملك".

شغلتني سنة قضاها فاروق جويدة في صحبة الأوراق، ثم تصدر في كتاب، وتلتبس على القراء أحياناً المسافة بين ما كتبه عبد الوهاب، وما يريده المحرر الذي يسجل ـ مثلاً ـ ما يفترض أنه رأي لعبد الوهاب في عبد الحليم حافظ 

ويقول إن الحوار أعجب مصطفى أمين، فقرر إرساله "كما كتبته" إلى الرئيس، لينظر ويقرر. وطالبه بالبقاء، ثم دعاه إلى سرعة التوجه إلى الرئاسة، واستقبله سكرتير الرئيس "بجفوة واضحة"، وانتقد الحديث واتهم الملك بقسوة، واتهم من يقابله بخدمة السياسة السعودية المعادية لمصر.

ثم أدخله إلى الرئيس الذي صافحه ونظر في عينيه "بعينيه النافذتين... الرجل قوي الشخصية بلا جدال ويمتلك قوة حضور طاغية، ولكنه آسر... وبودّ شديد وضع يده اليمنى على كتفي اليسرى ومدها لتصل إلى الكتف اليمنى وتبينت أن طول قامته ساعده في السيطرة على قدرتي على الحركة وبشكل يتيح له ضبط خطواتي وبدأ في السير بخطى بطيئة داخل حجرة المكتب".

طلب الرئيس معرفة قصة المقابلة، فقال إن السفر قرره مجلس التحرير، وإن التأشيرة تأخرت، وإنه قابل عبد الله الفيصل وكمال أدهم، ونقل إلى الملك كلامهما، "وظل الرئيس واضعاً يده على كتفي بمودة شديدة ونحن نقطع حجرة المكتب سيراً على الأقدام في خط دائري".

انتهى عبده مباشر من رواية القصة، فطلب الرئيس إعادتها مرتين. وفي المرات الثلاث "كان الرجل يستمع بتركيز شديد، ونادراً ما تدخل بسؤال استفساري. وكان كلما طلب أن أروي له القصة أرويها بحماس وإن خمنت أنه يبحث عن ثغرة أو تناقض أو تعارض فيما أرويه يمكنه منها أن يحطم روايتي ويكتشف كذبي لو كنت كاذباً". واتجه إلى المكتب.

دعاه إلى الجلوس، واستمع إلى الشريط، "فابتسم في النهاية وهو يشكرني على شجاعتي وأمانتي". الرئيس سأله عن عمله، وعن دراسته، ووصف الحديث بأنه ممتاز لشاب يحاور الملك كصحفي "فاهم شغله". وسأله هل يحزن كثيراً إذا لم ينشر؟ فأجاب بأن مصالح مصر أهم من أي حديث صحفي.

كان الرجلان "حادين في عدائهما للرئيس عبد الناصر ولم يحاولا إخفاء هذا العداء ولم يناورا، وحمدت لهما شجاعتهما الأدبية"

فقال الرئيس إنه يرى عدم النشر، وإنه سيحتفظ بالشريط، "وعندما وقف إيذاناً بانتهاء اللقاء ومد يده ليصافحني مودعاً سألته وإلى أين سأذهب؟ فابتسم وعلى وجهه ملامح حيرة وسألني ماذا أقصد؟". قال الشاب إن بعض الزملاء وعدوا بشراء خبز وحلاوة، إشارة إلى السجن، "فضحك الرجل وقال هذه المرة ستعود إلى عملك ومنزلك، وضحك من جديد".

بأمر الرئيس عاد عبده مباشر بإحدى سيارات الرئاسة. وقال إنه أبلغ مصطفى أمين قرار الرئيس. وفي الأيام التالية، قاوم ضغوط الكثيرين لمعرفة ما دار في لقائه بالرئيس، واكتفى بإبداء الحزن "لأنه رفض النشر، وكفى... أما مصطفى أمين فلم يسألني قط، ولا بد أنه لاحظ أنني تغيبت عن الجريدة لعدة أيام".

وهذه أصدق جملة في هذه الرواية: "أما مصطفى أمين فلم يسألني قط"، لأن ذلك كله جرى في كانون الأول/ديسمبر 1965، وكان مصطفى أمين مقبوضاً عليه، منذ 21 تموز/يوليو، متلبساً بالتجسس مع بروس تايلور أوديل، الضابط بوكالة المخابرات المركزية الأمريكية. فهل تابع المسجون بتهمة التخابر عمل المحرر الصحفي؟ وكيف رتب لقاءه بالرئيس؟

والنموذج الثالث هو كتاب محمد عبد الوهاب "رحلتي... الأوراق الخاصة جداً"، إعداد وتقديم فاروق جويدة. في مقدمة عنوانها "عبد الوهاب... وصداقة عشرين عاماً" قال المؤلف إن السيدة نهلة القدسي سلمته أكثر من 600 ورقة، من كراسات قديمة، وقصاصات وأوراق فنادق.

لم يشغلني خلو الكتاب من صورة لورقة بخط الرجل، ولا قوله إن عبد الناصر كان "يخطب في الجمهور وهو غير مؤمن بما يقول ويعلم أنه يخدع الجماهير... ومع ذلك تصدقه الجماهير بتحمس شديد. وكان أنور السادات يخطب في الجماهير وهو مؤمن بما يقول ولا يكذب ولا يخدع ومع ذلك كانت الجماهير لا تصدقه... وتقول عنه إنه ممثل... كذاب... سبحان الله".

وإنما شغلتني سنة قضاها فاروق جويدة في صحبة الأوراق، ثم تصدر في كتاب، وتلتبس على القراء أحياناً المسافة بين ما كتبه عبد الوهاب، وما يريده المحرر الذي يسجل ـ مثلاً ـ ما يفترض أنه رأي لعبد الوهاب في عبد الحليم حافظ: "لا يصدق إلا حينما يغني. كان عبد الحليم ضعفاً وقوة. ولم أجد في مسلسل العندليب إلا ضعفه". ولإنعاش الذاكرة: مات عبد الوهاب عام 1991. وعرض المسلسل التلفزيوني المصري "العندليب" عام 2006. وصدر كتاب محمد عبد الوهاب "رحلتي... الأوراق الخاصة جداً" إعداد وتقديم فاروق جويدة عام 2007. كيف يبدي الرجل رأيه في مسلسل أنتج بعد وفاته بخمسة عشر عاماً؟ كيف؟ 

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image