برغم الظروف الصعبة التي تعيشها غزّة، قررت عشرات العائلات السورية اللجوء إلى القطاع المحاصر، خلال العامين الماضيين، هرباً من جحيم الحرب الدائرة في بلادهم، وبحثاً عن مكان آمن قد يصلح للعيش فيه موقّتاً في انتظار استقرار الأوضاع في سوريا. إلا أن معاناتهم استمرت، وأحلام العودة تبددت.
معظم العائلات السورية اللاجئة إلى غزّة وصلت بين بداية العام 2012 ومطلع العام 2013. حينذاك، كان معبر رفح الذي يربط القطاع بمصر يفتح أبوابه بشكل منتظم. وطبقاً لوزارة الشؤون الاجتماعية في غزّة، فإن عدد الأسر الفلسطينية القادمة من مخيّمات اللاجئين الفلسطينيين في سوريا إلى القطاع بلغ 228 أسرة تتألف من 884 فرداً. لكن، بحسب وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، يتجاوز الرقم الـ1000، إذ تشير إلى وجود أكثر من 200 شخص من التابعية السورية.
اللجوء الغريب
قد يبدو غريباً أن يلجأ أحدهم إلى مكان، كقطاع غزّة، يعاني من حصار إسرائيلي قاسٍ منذ ثماني سنوات، ويستشري فيه الفقر ويعاني معظم سكانه من البطالة، ويعدّ من أكثر الأماكن على وجه الأرض ازدحاماً بالسكان.
بالفعل، ولسوء حظ تلك العائلات، فإنها عاشت حربين قاسيتين شنّتهما إسرائيل، وفاقمتا من معاناة الغزّاويين، وتالياً معاناة ضيوفهم القادمين من سوريا. وقد قتلت آلة الحرب الإسرائيلية بعض اللاجئين أثناء الحرب الأخيرة على القطاع."لم يجبرنا على المرّ إلّا ما هو أمرّ منه". بهذه العبارة لخّص محمد الحشاش لرصيف22 مبرراته وأسرته للمجيء إلى قطاع غزّة قبل نحو عامين.
يقول أن الدنيا ضاقت بهم وهذا ما دفعهم إلى اتخاذ هذه "الخطوة المجنونة". فبعد أن نجوا من الحرب المستعرة في سوريا، لم يجدوا في مصر، التي كانوا يخططون للإقامة فيها، ما يشجعهم على ذلك.
يروي محمد، وهو شاب عشريني، قصة أسرته التي كانت تقيم بالقرب من مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين جنوبي العاصمة دمشق. ويقول أنه، مع اشتداد حدّة الأزمة وتدهور الأوضاع، قررت العائلة المكونة من أب فلسطيني وأم سورية وأبنائهما الخمسة، اتخاذ القرار الأصعب، والسفر إلى مصر لعلهم يجدون فيها طوق النجاة. ويضيف: "لم نجد في مصر ما توقعناه. ولم نشعر أنه مرحبٌ بنا. كان والدي يخطط لإقامة مشروع بسيط قد يساعدنا على توفير متطلبات الحياة، لكن تسارع الأحداث في مصر دفعنا للقيام بمغامرة ثانية، تمثلت في السفر إلى غزّة، التي يقطن فيها عدد من أقارب والدي".
ولكن، لم تجد الأسرة التي كانت تعيش حياة مستقرة في سوريا ما تمنّته في غزّة. فالوالد الذي كان مدرّساً صار يعمل في مجال الزراعة مقابل أجر زهيد. والأبناء الذين كان بعضهم قد التحق للتو بالجامعة راحوا يعلمون بدوام جزئي مع أقاربهم في مهن متواضعة. هكذا، اضطرت العائلة إلى الإقامة في منزل بسيط أعاره لهم صاحبه موقّتاً.
حين سؤاله هل ندموا على ترك سوريا والمجيء إلى غزّة، يتعلثم محمد في الإجابة لكنه يؤكد "أن الأوضاع كانت مأسوية، ولم يكن ينفع وقتذاك إلا الهجرة إلى أي بلد آخر"، ويشير إلى أن المعاناة التي تكبدوها ولا يزالون، تجعلهم يشعرون بالحنين إلى سوريا، غير أن تذكّر أصوات القذائف والعذاب اليومي هناك، سرعان ما يعيدهم إلى أرض الواقع من جديد.
قصة نجاح
الأمر يبدو مختلفاً تماماً بالنسبة إلى مهند. هذا الشاب من أوائل السوريين الذين وصلوا إلى غزّة. وبعزيمة كبيرة، حقق نجاحاً جعله نموذجاً لـ"السوري الناجح" في القطاع، إذ تمكن من استثمار موهبته وخبراته في إعداد الأطعمة الشامية ليفتتح مطعماً، بات الوجهة المفضلة للكثيرين من أهالي غزّة. وهو كان يقطن في حي الصالحية في دمشق، وعمل منذ صغره في مطاعم المأكولات الشامية. وبعد تدهور الأوضاع الأمنية في بلده سافر إلى مصر وافتتح مطعماً شامياً بصحبة صديق سوري من أصول فلسطينية.
يقول مهنّد الذي يقضي جُل يومه في إعداد المعجنات، لرصيف22، أنه وافق على اقتراح صديقه بالسفر إلى غزّة، وافتتاح مطعم فيها على سبيل التجربة. ويشير إلى أنهما حققا نجاحاً مذهلاً وغير متوقع، وراح مطعمهما يستقطب مئات الزبائن يومياً. فقررا التوسّع واختارا مكاناً آخر للمطعم، في موقع حيوي وسط مدينة غزّة، وشغّلا عدداً من العمال الفلسطينيين معهما. مرّ على وجود مهند في غزّة نحو ثلاث سنوات كانت حافلة بالأحداث الدامية. برغم ذلك، لا يعتزم مغادرة القطاع حالياً، يقول: "بتّ أشعر كما لو أنني فلسطيني". يعيش الشاب وحيداً وبعيداً عن أهله المقيمين في سوريا. لكنه يؤكد "أن الأصدقاء والمحبين عوضوني عن الأهل، وتكيفت تماماً مع الوضع الجديد".
مهن السوريين في غزّة
الجامع المشترك بين معظم العائلات السورية المقيمة في غزّة هو العمل في مجال الأطعمة والحلويات الشامية. فغسان حسونة، وهو شاب فلسطيني ولد في سوريا، ماهر في صنع الحلويات، وفور وصوله مع أفراد أسرته الصغيرة عرض خدماته على صاحب أحد محالّ الحلويات الشهيرة في مدينة خانيونس. والآن صار يُعدّ أحد أعمدة ذلك المحل الأساسية.
يشرح غسان رحلة معاناته الطويلة لرصيف22: "قبل أكثر من ثلاث سنوات نزحت مع زوجتي وأطفالي الثلاثة من مدينة درعا إلى الأردن، وأقمت في مخيم الزعتري بعض الوقت قبل أن أنتقل للعمل في عمّان في مصنع للحلويات. غير أن الوضع لم يرقني، فسافرت مع سوريين كثيرين إلى مصر التي كانت وجهة مفضلة قبل حوالى عامين".قضى غسان نحو خمسة أشهر في القاهرة، حيث عمل أيضاً في محل للحلويات السورية. لكن مردود عمله لم يكفِه ليعيش حياة كريمة مع أسرته، فقرر السفر إلى غزّة، علّه يجد المساعدة من أقارب لم يسبق أن التقاهم. ويضيف الشاب الثلاثيني: "استقبلني أقاربي بالترحاب. لكن أوضاعهم لم تكن أفضل من أوضاعي. فمعظمهم عاطلون عن العمل. وفي نهاية الأمر توجهت إلى أحد المصانع المحلية في مدينة خانيونس، والمعروفة على مستوى قطاع غزّة، وعرضت خدماتي على صاحب المصنع فقبلها، ومع مرور الوقت، وبفضل مهارتي وخبرتي، ضمنت لنفسي وظيفة ثابتة براتب جيد".
معظم من تحدثوا لرصيف22، سواء كانوا من النازحين السوريين أو من اللاجئين الفلسطينيين في سوريا، بدا واضحاً عليهم الشعور بالحنين والرغبة في العودة إلى سوريا. لا يكبح جماح رغباتهم إلا تدهور الأوضاع هناك فيعضّون على جراحهم للبقاء هنا على أمل العودة يوماً ما.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...