شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
بطلي في المتاهة الفلسطينية 2067... نصفه إنسان ونصفه ثور!

بطلي في المتاهة الفلسطينية 2067... نصفه إنسان ونصفه ثور!

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الخميس 10 أبريل 202510:26 ص

يُنشر هذا النصّ ضمن "لنتخيّل"، وهو ملفّ مفتوح يضم نصوصاً، مدوّنات، قصصاً، مقابلات وتقارير صحافيةً نتخيّل من خلالها المستقبل الذي نوّد أن نعيش فيه، أو ذلك الذي سيُفرض علينا.  


قبل عقدين من الآن، ذهبت مع صديق مصوّر إلى مخيم شاتيلا للّاجئين الفلسطينيين في بيروت، لنصوّر فيلماً، ولم يكن في ذهنينا أي سيناريو أو حتى فكرة تعيننا على تنفيذ المشروع. الذي أذكره أنني طلبت في اليوم السابق من صديق ثالث، أن يقوم بعمل"كاستينغ" صغير من أجلي، ويؤمّن لـ"الفيلم" صبياً أسمر لشيء يلوح في الأفق، ولا أعرف ما هو حقاً. لكن هناك شيئاً يلوح كشبح في زاوية ما من عقلي، وهو يلحّ عليَّ لأقوم بإطلاق سراحه، أو تأمين قناة له يمكنها أن تحرره من تلك العتمة التي هيمنت عليَّ لفترة طويلة، بعد إنهاء خدمتي الإلزامية في صفوف جيش التحرير الفلسطيني، فأنا عاطل عن العمل، وأبحث عن كوّة ما، لأطلّ برأسي منها.

ذهبت إلى المخيم، ومعي حقيبة ممتلئة بأشرطة الكاسيت: أغنيات لعبد الحليم حافظ، شادية، وليلى مراد. كومة ممغنطة من المشاعر والأحاسيس لا أعرف كيف حصلت عليها. صعدنا إلى بناية مهدّمة على أطراف المخيم. قيل لنا إنها كانت تخصّ حركة فتح في زمن ما قبل الحرب التي شنّها نبيه بري، على المخيمات الفلسطينية سنة 1985، قبل أن تتحول إلى مركز"استعصاء وتجميل" للمخابرات السورية. كانت البناية مهجورةً، وقد تحوَّلت إلى مكبّ للنفايات مثل الكثير من الأبنية التي عانت ويلات الحروب المتتالية على المنطقة. كانت مهمتي أن أتخيل صورة الشريط القادم، قبل أن يضجر المصوّر الذي جاء برفقتي دون أن يعرف شيئاً عما يدور في ذهني، وقد زاد من التشويش عليه حضور الصبي الأسمر معنا في ذلك الصباح المبكر.

هناك شيئاً يلوح كشبح في زاوية ما من عقلي، وهو يلحّ عليَّ لأقوم بإطلاق سراحه، أو تأمين قناة له يمكنها أن تحرره من تلك العتمة التي هيمنت عليَّ لفترة طويلة، بعد إنهاء خدمتي الإلزامية في صفوف جيش التحرير الفلسطيني، فأنا عاطل عن العمل، وأبحث عن كوّة ما، لأطلّ برأسي منها.

أن أحمل الكاسيتات معي، وآلة تسجيل صغيرةً، هذا يعني أنني أفكر في شيء ما، وإلا لماذا أحضرت هذه الأشياء إلى البناية المهجورة، ومعها البطل الصغير؟ حقاً لماذا فعلت ذلك لو لم تكن هناك فكرة؟ حتى لو لم تكن واضحةً لي، ولكن ثمة شيئاً يدور في عقلي، لا أعرف كنهه، ويدور بحزم ويسبب قلقاً لي، ويمنعني من تناول فطائر الجبنة اللذيذة مع المصوّر والفتى الأسمر الجميل.

صعدنا ثلاثتنا إلى الطابق الأعلى، وأول شيء فعلته، أن قمت بإلقاء نظرة بانورامية قلقة وشاردة على المخيم المنكوب بفقرائه من ملل كثيرة، ففي الواقع لم يعد مخيماً للّاجئين الفلسطينيين فحسب، وصار في وسع زائره أن يلتقط شيفرات أقليات أخرى بين سكانه الأوائل، الذين تمددوا بدورهم إلى أمكنة أخرى في إسكندينافيا وسواها من بلدان قبلت بهم لاجئين على الدوام.

انتهى الاستطلاع بسرعة، ووجدت فسحةً لأضع "كاسيت" في آلة التسجيل، وأرفعه على حائط مهمل، وطلبت من الصبي أن يأخذ الشريط ويفلّه ويدور به في أصقاع كثيرة. هكذا وجدت فكرتي إلى فيلم "متاهة". نعم هذا الشريط العتيق يمكنه أن يمدّ لي يد العون كما في المتاهة الإغريقية: لا بد من شريط يحلّ محل الخيط الأحمر الذي وُلد من رأس ملكة، ويقود الفتى الأسمر إلى خارج المتاهة التي صنعها له أبوه وجدّه من قبله، بتفريطهما في السيرة المألوفة من سيرة الصبا الحديدية.

الميكانيكي الحاذق ديدالوس، القادم من حلكة كريت، هو من بنى المتاهة للملك الإغريقي المنطفئ للتو على أدراج البناية، كأنه يهتف من داخل المتاهة مثل بطل منتصر: "أنا ابن فتح ما هتفت لغيرها، ولجيشها المقدام صانع عودتي".

وضعت تتراً صغيراً في مقدّمة الفيلم: مخيم شاتيلا 2067. لم اخترت هذا التاريخ، وهل فيه إشارة إلى نكسة جيوش عربية مستحدثة من أجل حماية عروش وأنظمة ودورات دموية فاسدة في مواجهة الميناتور الإسرائيلي سنة 1967؟

هل يمكنني أن أتخيل بعد ذلك الميناتور المتوحش المسجون في هذه البناية، وهو يحمل سيخاً معدنياً وينتزع الاعتراف تلو من الاعتراف من ضحاياه الذين كانوا يقعون تباعاً أمامه، قبل أن تقع الملكة أريانا في غرامه الموصوف، وتقيم علاقةً آثمةً معه، وتعطيه خيط الخروج الشبقي من المتاهة. هذا خيال خارج المألوف، والأفضل أن أعطي الشريط الغنائي للفتى حتى يفلّه، ويعين نفسه على الخروج من المتاهة الفلسطينية التي وضعته فيها: كان الكاسيت يصدح بصوت شادية، ولكن هذا لا يهمّ، إذ يمكنني أن أضع الصوت الذي أريده بعد المونتاج، وما يهمني هو أن يبدأ الفتى بالدوران في أزقة المخيم الضيقة، فللخروج منها يلزم مرشد أو دليل لمن يدخل للمرة الأولى، وليس سهلاً أن تنفتح الدروب أمامه إن كان عصبياً أو متوتراً مثلي بعض الشيء. نعم، تعينني هذه الأزقة على تنفيذ فكرة المتاهة الإغريقية من دون بهارات ثقافية زائدة. لقد وقعت على الفكرة، ولم يعد مهماً كيف ستنتهي طالما أنّ الشريط الممغنط قد حلّ محل خيط أريانا، التي أُعجبت بوحش نصفه ثور ونصفه إنسان. إنه فرية فوسيدون بمعنى من المعاني، وليس أمام الملكة الشبقة إلا الخضوع لنزواتها، وتحرير الوحش من الأسطورة، أو من براثن الثورة المستحيلة!

وضعت متاهة ديدالوس، أمام العندليب الأسمر (الصغير)، ولم يعد أمامه سوى أن ينهي جولته في أزقتها الضيقة، وهو يلفّ الشريط تلو الشريط، حتى فرغت الحقيبة، وماتت الأغنيات التي حفظتها خمس أو ست أو عشر سنوات، فأنا لا أتذكر مصدرها الآن، وإن كانت ما زالت تقيم معي من ذاكرة أسيانة وبعيدة.

تبدَّلت أغنيات حركة فتح مراراً في ذاكرتي المجرَّحة، ولم نعثر بعد على طريقة نسوّي بها أمر كل متاهة نجحنا كفلسطينيين في الخروج منها. ها هو ذا الصبي الأسمر يزنّر نفسه بالشريط الممغنط بدل الخروج من المتاهة المستحدثة في إدراكي أنا كمؤلف للفيلم، كما لو أنه يزنّر نفسه بعبوة ناسفة، ويبحث عن نشيد وطني مختلف. حسناً، أنا لست ديدالوس، صانع المتاهة الماهر، ولا يشبه النشيد الذي أمامي أياً من أناشيد "فتح" أيام زمان. أنا أريد أن أسرح بعيداً وأتخيّل ما لا يمكن فعله: لم لا أستخدم الحركة الرابعة من السيمفونية التاسعة للودفيغ فان بيتهوفن، حين يرتفع صوت الكورال البشري ليخرق قواعد التأليف السيمفوني؟! ألم يكن بيتهوفن، ثورياً بما فيه الكفاية ليثور على البرجوازيين، حين كانوا يرقصون على موسيقاه، فيسرّع من أنغامه هنا أو هناك. ألم يتراجع عن إهداء السيمفونية الثالثة لبطله نابليون بونابرت، حين قصف مدينة طولون بالمدافع؟! لم لا أكون ثورياً مثله وأخرّب سيمفونيته طالما أنّ بطلي لن يخرج من متاهته؟ فأنا وضعت تتراً صغيراً في مقدّمة الفيلم: مخيم شاتيلا 2067. لم اخترت هذا التاريخ، وهل فيه إشارة إلى نكسة جيوش عربية مستحدثة من أجل حماية عروش وأنظمة ودورات دموية فاسدة في مواجهة الميناتور الإسرائيلي سنة 1967؟ لست متأكداً من إشارتي، ولا من سبب اختياري لهذا التاريخ، ولكنني على يقين من أنني أردت أن أتخيّل كيف يمكن أن يكون شكل بطل فيلمي في التاريخ المقترح. ولكن من قال إنه سينجو بفعل خيط أريانا، أو شريط الملكة شادية أو حتى أغنية من "زمن فتح الذي لا يُقهر"؟!

ليست هناك جلسة مونتاج إضافية، طالما أنّ توماس مان، قال -متسرّعاً- إن الله قد خلق السيمفونية التاسعة حتى يسمعها جميع البشر، وربما ما كان يجب أن أتجنب تخريب الصوت في الفيلم لأقول إنه ما من قدسية لأي شيء طالما المتاهة الفلسطينية مستمرة بهذا العناد الأسطوري. هل يمكن بعد ذلك الاقتداء بخيال جامح أو مريض ليعرف بطلي شكله الأخير حين ينجو من متاهة مخيم شاتيلا على الأقل، ويعرف أن دخولها لا يشبه الخروج منها حتى لو كان الأمر مجرد فيلم قصير جداً عن فكرة وُلدت بعد أول قضمة من فطيرة جبنة بيضاء رعوية؟

أنا أتخيَّل شكل بطلي في 2067. 

فتى فلسطيني أسمر نصفه بشر، ونصفه ثور!


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image