يُنشر هذا النصّ ضمن "لنتخيّل"، وهو ملفّ مفتوح يضم نصوصاً، مدوّنات، قصصاً، مقابلات وتقارير صحافيةً نتخيّل من خلالها المستقبل الذي نوّد أن نعيش فيه، أو ذلك الذي سيُفرض علينا.
الأمرُ حقيقي، ها هي صوري تملأ الشوارع، ما الذي فعلته وكيف سأستمرُّ في هذا؟ يا إلهي، أريد أن تأخذني إليك قبل أن أذهبَ بمحض إرادتي إلى ذلك القصر.
في لحظةِ إدراكٍ يُمرر مبروك يده على شعره ومؤخرة عنقه وينطلق باتجاه سيارته وفي لحظاتٍ كان يقول لصديقه: "خلاص يا محمد، ألغِ كل شيء، انسحب، دبر أي حاجة، لا أريد الذهاب إلى هناك". يُنهي مبروك المكالمة دون أن ينتظر رداً من محمد، يرمي الجهاز في الكرسي المجاور وينطلق بسيارته متجاوزاً عشرات الصور التي يقف فيها مرتدياً بدلة سوداء ويبتسم بثقة، وقد خُيّل إليه أن هذه الوجوه التي تشبهه تبصق عليه وهو يسابق الريح.
دخل البيت وقد ترك باب السيارة مفتوحاً، وجد محمد صديقه بانتظاره ووجد ابنه وزوجته وقد ارتسمت على وجهها علامات استفهام لا حصر لها.
قال لنفسه: "الأمرُ حقيقي، ها هي صوري تملأ الشوارع، ما الذي فعلته وكيف سأستمرُّ في هذا؟ يا إلهي، أريد أن تأخذني إليك قبل أن أذهبَ بمحض إرادتي إلى ذلك القصر".
"لماذا تنسحب ولماذا الآن وقد ضمنتَ مكانك في القصر الرئاسي ولم يبقَ إلا خطوات تمنعك عن تحقيق حلمك وأحلامنا؟" نظر إليهم بصمت ثم أخذته خطواته المترنحة إلى أريكة قريبة ارتمى عليها بثقل، حاول أن يستعيد نفسه ويعيد ترتيب الكلمات على لسانه، تردد قليلاً ثم نطق: لا أستطيع.
لكنه حلمك الذي سعيتَ إليه منذ التقينا وقبل أن نلتقي، قالت زوجته برجاء.
نظر إليها وكأنه يعود عبر كلماتها للوراء، عندما قرر أن يدرس القانون والعلوم السياسية ليكون سفيراً أو وزيراً ربما، يخوض غمار السياسة وتأخذه أجنحتها ليحلق في عواصم العالم، رغم قدرته على ذلك وقد أصبح جواز سفره مصباح علاء الدين في كل مطارات الدنيا.
نجح في دراسته وعاصر عشرات الرؤساء وهو يعيش في بلد مدة الحكم فيها سنة غير قابلة للتجديد، وماذا سيفعل رئيس لدولة مزدهرة ومرفهة غير زيادة ومضاعفة هذا الازدهار وهذه الرفاهية.
الأمر بهذه البساطة إذن، تدرج وظيفي ناجح وكفاءة ليست غريبة في بلاده، عاش مبروك كل المراحل بثقة وثبات ولم ينتظر طويلاً فكل ما عليه كان ترشيحاً لنفسه يتقدم به لمكتب الرئيس مباشرة مع سيرته الذاتية ولأن الجميع سعداء في بلاده ويعيشون سكينة حقيقية تليق بالبشر فإن عدد المتقدمين لشغل منصب الرئيس لم يكن كبيراً، فقط بضع عشرات تكون المفاضلة بينهم صعبة ويكون الفيصل هو رغبة الرئيس السابق في تقديم اسم على بقية الأسماء، وعادة يتمتع كل المتقدمين لهذا المنصب بصفات متشابهة، ناجحون في وظائفهم السابقة ومشهود لهم بالأمانة والإخلاص والعطاء الوفير.
عاد مبروك بذهنه إلى الأريكة حيث يجلس ويحيط به محمد صديقه وآخرون، نظر إلى محمد الذي قال مستفهماً: ماذا حدث؟ أخبرني الآن أرجوك، لا وقت لدينا، في المساء سيعلن الرئيس رسمياً أنك خليفته.
نظر إليه بتأمل وقال: لا أريد.
"لكنها سنة واحدة" قال محمد وأردف: كل ما عليك هو أن تمضيها في القصر الرئاسي لتعود في مثل هذا الوقت من العام القادم إلى هنا، إلى بيتك وحياتك الطبيعية، ووظيفتك إذا شئت.
نظر مبروك إلى ساعته، إنها الثالثة مساء، وفي الثامنة ستكون مراسم تسليم السلطة في القصر الرئاسي، سينقلها التلفزيون الرسمي، والكثير من القنوات الفضائية التي تهتم بهذا الحدث السنوي النادر في العالم، في ليبيا فقط يحدث هذا ومنها دائماً يأتي الجديد، منذ العام 2030 عندما وصل "مفتاح المبروك" إلى السلطة فقلب كل شيء في بلاده وكان فتحاً حقيقياً فيها.
"لماذا تنسحب ولماذا الآن وقد ضمنتَ مكانك في القصر الرئاسي ولم يبقَ إلا خطوات تمنعك عن تحقيق حلمك وأحلامنا؟" نظر إليهم بصمت ثم أخذته خطواته المترنحة إلى أريكة قريبة ارتمى عليها بثقل، حاول أن يستعيد نفسه ويعيد ترتيب الكلمات على لسانه، تردد قليلاً ثم نطق: لا أستطيع
يتفاءل الليبيون بهذا الاسم حتى الآن بعد مرور عشرات السنين ويطلقونه على أبنائهم وأحفادهم، مبروك أيضاً كان اسم والده مفتاح لكنه قطع هذه السلسلة السحرية عندما أطلق اسماً آخر على ابنه.
لنعد إلى مفتاح المبروك "الأول"، فقد كان مختلفاً عن كل من حكموا ليبيا قبله، كانت ولادته عسيرة في مرتين، فأمه أنجبته في مصحة حديثة عام 2000، وقد تسبب خطأ طبي في بقائه فيها شهراً كاملاً حتى اضطر والده لاقتراض المال من كل من يعرفهم، كان الدينار الليبي وقتها يترنح قبل أن يستقر في الحضيض في السنوات التالية، باعت أمه خاتم زواجها القطعة الذهبية الوحيدة التي تملكها وغرق والده في الديون وبعد أن غادر المستشفى اندلعت حرب جديدة في البلاد، بل باغتته الحرب وهو يرقد طفلاً ضعيفاً شبه ميت في حضانة الأطفال، وكم روت له أمه تفاصيل تلك الليلة عندما حاصرتهم أصوات القذائف فاتصلت بوالده الذي كان وصل إلى المشفى محاطاً بالرصاص والموت، فنزلت مع ابنها وانطلقوا إلى البيت الذي وصلوه بمعجزة إلهية.
ويبدو أن الأب الخائف من فقد زوجته وابنه قد نسي كيف خرج وأين وضع مفتاح باب بيته، بحث في كل مكان والخطر يتربص بهم وقد تحول حيهم كله إلى فوضى حقيقية، أصوات القذائف ورائحة النار وأنين السيارات المسرعة، كان المشهد مرعباً، وضعت الأم مهد ابنها بجانب الباب لتحميه وأخذت تنتقل مع زوجها بين الأصص الفخارية بمدخل بيتهم المكشوف تماماً للموت، تنقلا بحذر شديد رفعا الأصص أكثر من مرة والأحذية لكن لا شيء، وعندما اقتربت من طفلها لتطمئن عليه وجدت الباب موارباً، نظرت بدهشة لزوجها وابتلعت ما كانت ستقوله له لأنها تأكدت بنفسها أكثر من مرة أن الباب موصد بإحكام.
لاذ الجميع بالبيت الحصين، واتفقا على أن يكون طفلهم "المفتاح" الذي سيفتح أمامهم كل الأبواب على مصراعيها، وكما وجد الزوجان باب الأمان مفتوحاً في حضرته، ابتسمت لهما الدنيا فتوقفت الاشتباكات في اليوم التالي، لم تنسَ والدته حتى رحيلها كيف سمعت ضحكاته الصغيرة في الصباح التالي، وكيف توالت عليهم الأخبار السعيدة بمرور الأيام مع هذا الطفل الذي قلب حياتهم رأساً على عقب منذ أن كان رضيعاً وقلب حياة بلاد بأسرها عندما كبر فولد فيها وبها للمرة الثانية.
لم يكن اسمه معروفاً إلا في قريته، وحتى عندما أحضره القدر إلى السلطة لم يتفاءل به أحد، فالليبيون كرهوا الأسماء التي عرفوها وحتى تلك التي لم يعرفوها، هناك من يقول إن معمر القذافي كان الوحيد الذي عرف كيف يحكم ليبيا وهناك آخرون يقولون إن الملك السنوسي هو الوحيد الذي كان كذلك، ولم يتفق ليبيان على اسم ثالث قد يكون فعل.
لنعد إلى مفتاح المبروك "الأول"، فقد كان مختلفاً عن كل من حكموا ليبيا قبله، كانت ولادته عسيرة في مرتين، فأمه أنجبته في مصحة حديثة عام 2000، وقد تسبب خطأ طبي في بقائه فيها شهراً كاملاً حتى اضطر والده لاقتراض المال من كل من يعرفهم، كان الدينار الليبي وقتها يترنح قبل أن يستقر في الحضيض في السنوات التالية
مفتاح أوصلته الصدفة إلى مجلس رئاسي مؤقت، والمؤقت في ليبيا قد يكون أبدياً، تماهت معنوياتهم مع الدينار الليبي ورافقته للحضيض، لذلك لم يعن لهم وجوده في السلطة شيئاً، هو اسم سيضاف لكل الأسماء الفاسدة التي تناوبت على حكمهم والتي صنعت فجوة كبيرة بينها وبينهم في كل مرة.
الآن اختلف كل شيء منذ البداية، في اليوم التالي لوصول مفتاح إلى القصر الرئاسي اجتمع بالوزراء وقال لهم عبارات مختصرة، من سينفذ تعليماتي سيبقى في الحكومة ومن سيرفض أو حتى سيماطل ليقدم استقالته الآن وفوراً.
وزير ليبي يستقيل! لم تحدث يوماً ولن تحدث الآن لذلك التزم الجميع بالسمع والطاعة، وفي شهر واحد كانت لمساته واضحة بإخلاص وزرائه الذين كانوا ينفذون ما يقول ليس إيماناً به ولكن خشية أن يقيلهم ويبعدهم عما كانوا يعتبرونه مغارة علي بابا المليئة بالكنوز.
وفي أقل من ثلاث سنوات حدثت المعجزة، وغير مفتاح وجه ليبيا إلى الأبد، نعم في ثلاث سنوات لم يعد هناك ليبي فوق القانون ولا تحت خط الفقر، لم ينجح تلميذ ليبي بالغش بعد ذلك ولم يتجول في البلاد عامل أجنبي دون رخصة إقامة وشهادة صحية، وكم تساءل الليبيون تحت تأثير الصدمة: هل كان الأمر بهذه السهولة؟ أم أن هذا الرجل كان مختلفاً حد خلق المعجزات؟
لم يستأثر مفتاح بالسلطة المطلقة إلا عندما وضع بنفسه دستور البلاد فكانت المادة الأولى منه، لا رئيس لليبيا لأكثر من عام واحد، استقال بعد ذلك كأول رجل يفعل على امتداد التاريخ الليبي الطويل، ولأنه منع وضع صوره على أي حائط في البلاد حتى لو كان بيته، فقد ظلت صورته في قلوب الليبيين ولم يرض رئيس بعد ذلك بأقل من صورة تشبه صورة مفتاح.
وبمجرد التزام الرئيس التالي بفترة الحكم الدستورية لم يجرؤ أحد بعد ذلك على خرق الدستور بكل بنوده فتقاسم العشرات البطولة وأصبح منصب الرئيس عادياً يشبه مدير المؤسسة الذي يحرص على مغادرتها برصيد جيد من القرارات الحكيمة وبالتالي المزيد من الإنجازات.
في اليوم التالي لوصول مفتاح إلى القصر الرئاسي اجتمع بالوزراء وقال لهم مَن سينفذ تعليماتي سيبقى ومن سيرفض ليقدم استقالته الآن وفوراً. وزير ليبي يستقيل! لم تحدث يوماً ولن تحدث الآن لذلك التزم الجميع بالسمع والطاعة.
ومبروك اليوم يقف إزاء حلم قديم، لا زال شاردًا على الأريكة وقد غادر الجميع بعد أن طلب منهم ذلك، تذكر كل شيء وتساءل ماذا سأقدم لليبيا وكيف سأغادر عملي وأكون مسؤولاً عن شعب بأسره، عن أحلام الليبيين ومستقبلهم وصحة أطفالهم، كيف سأواصل مكافأة عجائزهم والاستمرار في تقديم رفاهية يستحقونها، هل سأنجح؟ أو سأكون من يوقف دواليب السعادة التي تدور في البلاد كلها؟
تساءل مبروك بصوت أضعفه الشك، لكنه سرعان ما استعاد بريق عينيه وثقتهما، نهض بثبات ونادى على محمد صديقه فدخل الجميع وكأنهم كانوا ينتظرون أن ينطق.
قال مبروك: ليجهز الجميع سنغادر إلى القصر الرئاسي ونلتحق بالمراسم.
ابتهج محمد وقال بسرعة: سأنتظرك هنا لمراجعة كلمتك، فرد مبروك: لا أحتاج ورقة فقد حفظنا هذه الطقوس.
وافقه محمد لأنه يثق بطلاقة لسان صديقه وبأنه سيختصر كلامه في سطور قصيرة تفي بالغرض.
في نصف ساعة كان الجميع أمام القصر الرئاسي وليبيا تنتظر رئيسها القادم وكأنه مفاجأة سنوية يخبئها لهم القدر، ودون بروتوكولات معقدة التقى مبروك بالرئيس الذي صافحه وابتسم له وتمنى له التوفيق، ثم طلب منه أن يلقي كلمته، ابتسم له مبروك واتجه بخطواته الواثقة إلى طاولة صغيرة عليها شعار الدولة الليبية، تناول المايك وقال بثقة:
"أيها الشعب الليبي العظيم، أنا أستقيل."
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 18 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع