أعرف جذوري جيداً، وجذور إخوتي. وكُنت أظن أنني أعرف جذور بيتي، طالما أنني أكبره سنّاً، وكنت شاهداً على بذرته الأولى… لكن ثمة ثقباً أسود ابتلع هذه الحقيقة، وترك في قصتي لُغزاً أبحث عن طرف له للإمساك به!
عقب التوقيع على اتفاقيات أوسلو -الاتفاق الفلسطيني الإسرائيلي- عام 1994، تمكّن والدي الذي يعمل ضمن قوات الأمن الوطني الفلسطيني، من العودة إلى أرض الوطن، ودخول غزّة، ليُمنح بعدها قطعة أرض في مشروع بيت لاهيا حيث باشر عملية بناء منزلنا.
كُنت أشاهد عمليات التأسيس والحفر و"صبّة" السقف والدرج. ومع أنني كُنت طفلةً لا تتّسع مخيلتها للفهم الدقيق للمعنى والتفصيل، إلا أنني كُنت أدرك أنّ هناك مرحليةً في هذا العمل يتم إنجازها بالتتابع، ما يعني أننا نقترب من بناء هذا العشّ!
أذكر كيف استقبلت أمي خبر الانتهاء من "صبّة" السّقف، وتركيب الشبابيك، ومدّ شبكات الصرف والمياه. الانتهاء من المظلّة، الطابق الأول، فالثاني، وأخيراً الانتقال إليه… تلك التفاصيل كلها جعلت منّي هذا الشاهد الواثق من عينيه، ومن سرديّته حول هذا البيت.
لكن ثمة ثقباً أسود ابتلع هذه الحقيقة، وترك في قصتي لُغزاً أبحث عن طرف له للإمساك به!
في ظلّ أحداث السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، وبعد نزوح أهلي قِسراً من بيتنا في مشروع بيت لاهيا إلى دير البلح، أُصيب المنزل بأضرار جزئية طفيفة عقب حزام ناري استهدف الحيّ؛ فانبعج باب المنزل، وتساقطت بعض حجارة السّور الخارجي، وتكسّر زجاج الشبابيك، وتطاير الأثاث، واشتعل الحريق في الطابق الثاني، لكنه ظلّ صامداً!
لاحقاً، حين تصاعدت الأمور وتم احتلال شمال غزّة، واستهداف مستشفى كمال عدوان الذي يبعد نحو 200 متر عن منزلنا، تلقّينا خبر استهداف المنطقة وتدميرها بالكامل. استغرق الأمر وقتاً لتتبّع الأخبار والحصول على الصور ورصد موقع منزلنا من كل هذا الركام الرماديّ اللون!
حين تم الإعلان عن الهدنة، تمكّن زوج أختي الذي يعمل طبيباً في مستشفى "العودة" في شمال غزّة، من الذهاب إلى المنزل، والتقاط بعض الصور والفيديوهات لركامه، بعد أن تمت تسويته بالأرض! شاهده الجيران ونقلوا معه روايتهم وشهاداتهم حول المنزل!
"كيف استُهدف منزلي؟ هل حقّاً كان هناك نفق أسفل المنزل؟ لمن تعود ملكية ما تحت الأرض؟ أين ينتهي العمق الذي أمتلكه في أرض هي لي بما عليها؟!"
يُقال إنّ ثمة نفقاً تحت المنزل، وإن ما لا يقل عن 10 شهداء من المقاومين مجهولي الهوية، لا تزال جثثهم عالقةً أسفل الردم، وإنّ هناك رائحةً سيئةً تنبعث من طرف المكان. كُنت أنكر الأمر في كل مرة، فأنا أعرف جذور هذا البيت، وأعرف كل الثقوب المؤدية إليه، وكل الحفر الموجودة بين جدرانه! لا شيء يتسرب من تحته سوى جذور شجرة الزيتون، وشجرة "البوملي"، والفلفل، وجذور الياسمين، والجوري، و"الجهنمية" التي لا تتجرأ على تجاوز حدّها والغوص عميقاً حتى قواعد البيت… فحتى في العمق هناك تراتبية لا يمكن تجاوزها!
فكيف يظهر هذا النفق كثقب أسود يتسبب في ابتلاع بيتي وذكرياتي ومتعلّقاتي؟ كمهندسة، أؤمن بأنّ العمارة آلية وسيطة، وجسر بين الضمني والملموس، ووعاء لسرديّاتنا وطقوسنا، ومستودع لأساطيرنا وحكاياتنا. لذا بدأت بتتبع هذا الأثر بحثاً عن حقيقة الأمر، وبحثاً عن إجابات لأسئلتي القاسية!
كيف استُهدف منزلي؟ هل حقّاً كان هناك نفق أسفل المنزل؟ لمن تعود ملكية ما تحت الأرض؟ أين ينتهي العمق الذي أمتلكه في أرض هي لي بما عليها؟! هل يحقّ لأيّ شخص أو سلطة أن يبنيا تحت منزلي نفقاً يصير لاحقا ثقباً يبتلعني؟!
تتبّعت الصور كلها ووضعيات السقوط وزوايا الرصد واحتمالات الاستهداف، وجميعها لم تنفِ هذا الاحتمال البائس!
إنّ هذا التجسيد الذي أصنعه، أقاوم به هشاشة السردية حول منزلي، والتي طالتها الفرضية والاحتمال وعدم اليقين…
ومهما كانت التفاصيل موجعةً، فإنها لا تستثني الصورة الأشمل حول محتلّ غاشم يحوّل بيوتنا إلى جحور، كي نهرب من عيونه التي تراقبنا على الأرض من السماء. إنه من يصنع ثقباً أسود لكل حكاية من وطني! إنه من يخلق حسّ الشبح المرعب والغامض الذي لا يلتهم بيوتنا وذكرياتنا وأبناءنا، بل مدينتنا وصورتها في المخيلة.
منذ أن تمّ إعلان تنفيذ سريان الهدنة، في صباح التاسع عشر من كانون الثاني/ يناير الماضي، بدأ النازحون بالاستعداد للعودة إلى بيوتهم باحثين عما يعيد إليهم ترميم شتات ذواتهم التي مزّقتها الحرب. يمشي الناس نحو بيوتهم في شبه إغماءة يستيقظون منها بضربة على الرأس، حين تتراءى لهم المدينة بزيٍّ شبحي يناقض ذكراها في مخيلتهم!
"يمشي الناس نحو بيوتهم في شبه إغماءة يستيقظون منها بضربة على الرأس، حين تتراءى لهم المدينة بزيٍّ شبحي يناقض ذكراها في مخيلتهم!"
فهل تحولت مدينتنا إلى مدينة أشباح فعلاً؟
وفقاً لشروط الهدنة، فقد أفضى مضمونها إلى إطلاق تحذير علني وواضح حول طرق العودة المتاحة، والتي تقتصر في البداية على العودة سيراً على الأقدام فحسب؛ وهو ما يعني الاختراق الأصعب للمدينة الذي يستدعي الخوض في التفاصيل كلها والعقبات جميعها، من ركام الأرض والشارع إلى التفاصيل النفسية الأعمق التي تُدخل وعينا وإدراكنا المكاني في حالة صدمة! فبعيداً عن الاعتبارات "الأمنية"، هناك حشوٌ مذلّ وحقير في هذا الشرط يسعى إلى تشويه بطيء لصورة المدينة والبيت والشارع والحيّ، في ذاكراتنا. إنها استكمال خفيّ للإبادة التي بدأها الاحتلال الاسرائيلي، ولا يرغب في إنهائها!
حين تكون مجبراً على العودة سيراً، تصير عندئذٍ ملزماً بتدقيق النظر أكثر؛ تارةً إلى الأفق الذي بات واضحاً وممتداً بعد أن كان مكدّساً بالمباني، وتارةً أخرى إلى الأرض حيث تدوس قدمك وتنزلق في قبر بيت أو جمجمة محطمة! ليس هناك طريق معبّد. هناك ممرّ تصنعه مساحة الركام الأقلّ أو مساحة الهامش من الدمار المكدّس في كل جانب.
شارع متدهور الحالة، مكسّر الهوامش، ومشوّه المتن؛ نمرّ عنه عابرين... فما يحمل أهالينا من جراح كافٍ لغضّ البصر عن كل ما حولهم… إنهم يحومون في عوالم الأشباح … عوالم لامرئية حتى الذكريات فيها فقدت ماديتها! هذا الطابع الشبحي للمدينة يكثّفه الصمت، وموت الصخب الذي اعتدنا عليه، ليصير هذا الهدوء مكبرات صوت تسمع من خلالها وقع قدميك وانبعاجهما في ركام لا ينتهي.
نشر الكاتب عيسى سعد الله، تحت عنوان لافت وعريض في جريدة الأيام: "كل الطرق لا تؤدي إلى جباليا"، موضحاً معاناة المواطنين في الوصول إلى قلب المخيم، لندرك حينها أنّ جزءاً من المدينة أصبح يعني أن هناك متاهةً معقدةً بطرق مغلقة قد لا تفضي إلى شيء… يُجبَر المواطنون على تسلّق أسقف المنازل الهامدة على الأرض لتجاوزها ومحاولة الوصول إلى داخل المخيم الذي اختفت جغرافيته تماماً… يتتبّع المواطنون بعض العلامات التي ما زالت تصمد برغم تشوّهها الكامل، ويحاولون التمحيص والتأمل أكثر في تفاصيل الركام، ليتعرفوا إلى أيّ جغرافيا وإحداثيات ينتمي هذا الأثر؟!
لكن الأثر أيضاً قد يختفي! وهو ما يجعلنا ندخل في هذيان وصدمة يؤججان في نفوسنا تعلّقاً قاسياً بين الماضي والحاضر… ففي عنوان آخر لعيسى سعد الله: "المواطن مطاوع يعجز عن العثور على ركام منزله المكوّن من خمسة طوابق، وكذلك على مبنى آخر مجاور له كان يضمّ محال تجاريةً". لقد تحولت المدينة بماديتها إلى طيف، وإلى ذكرى مُتخيّلة ليس هناك من أثر يثبت واقعها! فأين تكمن حقيقة الأمر؟ كيف نثبت حقيقة ذكرياتنا في مدينة فقدت كل موجوداتها المرئية التي نعرفها!
إنّ حالة التلاشي للماديات لا تقتصر على الركام والوجوديات الصامتة والصمّاء فحسب، بل أخذت معها أحياء كنا ننتظر العودة كي نحتضنهم من جديد، لكنهم تحوّلوا إلى أشباح يطوفون في مخيلتنا وحسب! فقد أعلن جهاز الدفاع المدني الفلسطيني أنّ هناك 2،840 شهيداً، تبخرت جثامينهم ولم يبقَ لهم أثر بفعل استخدام الاحتلال أسلحةً فتاكةً.
إن فكرة الأشباح هذه التي باتت تغلب على مدينتنا، تجرّنا إلى تناقض عقلي وعاطفي قاسٍ، فالمدينة ليست حاضرةً بالكامل ولا غائبة بالكامل، وهو ما يجعلها ساحرةً برغم كل بؤسها ويجعلنا أكثر تعلّقاً بها وتضامناً معها برغم لعنتها!
كنت دائماً أردد فكرة العودة، وأنظر في سيناريوهاتها المعقدة والمتخيلة، مؤكدةً أنها لن تكون دوماً طوباويةً.
"مع ذلك، فبرغم روايتي وسذاجتها إلا أنني أتعافى بها، فأقول: كان منزلنا تضحيةً في سبيل هذا الوطن، وثمناً نردّ به قدراً سيئاً عنّا... أما وقد نجونا، فلنا حياة نعود إليها ونعيد البيت من جديد!"
اليوم، ومع هذه العودة بمشهدها الأكثر بؤساً، أجد أنّ فكرة العودة تجاوزت مرورها الزمني إلى مسير فراغي داخل إحداثيات مشوّهة كانت تُعرف باسم المدينة. أما الآن، فهي مفعمة بالتخيّلات والذكريات اللامرئية التي يؤرقها الركام والدمار! إنّ عودتنا اليوم تتجاوز تناقض الثنائيات، وتدخل في عالم الحاضر-الغائب الموجود والخفيّ المادي القادرين على الإمساك به، والخفيّ العصي على تتبّعه. والركام وما تبقّى من أثر، قد يخضعان لإعادة تفسير مستمرة مع الكشف عن سرديات جديدة في كل مرّة، بعضها صادق، والآخر ممزوج بالأساطير والتخيلات التي قد يتدافع نحوها الناس لتنتشلهم من واقعهم! تماماً كما يحدث في كل القصص والروايات الخيالية عن مدن الأشباح! وتماماً كما حدث مع منزلي الذي طالته الروايات، وهشّمت ذكرياتي حوله!
ومع ذلك، فبرغم روايتي وسذاجتها إلا أنني أتعافى بها، فأقول: كان منزلنا تضحيةً في سبيل هذا الوطن، وثمناً نردّ به قدراً سيئاً عنّا... أما وقد نجونا، فلنا حياة نعود إليها ونعيد البيت من جديد!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
diala alghadhban -
منذ يومو انتي احلى سمرة
حاولت صور مثلك بس كان هدفي مو توثيق الاشياء يمكن كان هدفي كون جزء من حدث .....
ssznotes -
منذ يومشكرًا لمشاركتك هذا المحتوى القيم. Sarfegp هو منصة رائعة للحصول...
saeed nahhas -
منذ يومجميل وعميق
Mohamed Adel -
منذ أسبوعلدي ملاحظة في الدراما الحالية انها لا تعبر عن المستوى الاقتصادي للغالبية العظمى من المصريين وهي...
sergio sergio -
منذ أسبوعاذا كان امراءه قوية اكثر من رجل لكان للواقع رأي آخر
أمين شعباني -
منذ أسبوعهذا تذكيرٌ، فلا ننسى: في فلسطين، جثثٌ تحلق بلا أجنحة، وأرواحٌ دون وداعٍ ترتقي، بلا أمٍ يتعلم...