منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وأنا ألهث خلف أي وميض يمكن أن أنجو به من ظلام الحرب. لقد تمكنت قبل أسابيع قليلة من مغادرة لندن إلى القاهرة، ومحاولة إيجاد وسيلة لإجلاء الأهل من غزة وانقاذهم من وحش الحرب أولاً، ووحش المجاعة ثانياً. وكلاهما وجهان لموت واحد.
على مدار شهور عدة، كنت أنا وأخوتي نعتصر الجهود في غربتنا، التي باتت أوحش ونحن نعيش هذا القلق المستمر والعجز القاتل خلف شاشات التلفزة والتلفون. السياسة في كل مكان قذرة إلى حد أنها عمياء جداً أمام أوجاعنا الإنسانية، وهو ما يخلق شعوراً بأن الحرب على غزة ليست حرب المحتل وحسب، إنها حرب العالم كله علينا. وعلى الرغم من ذلك، فإن الاستسلام ليس خياراً وارداً. قد يجتاحنا اليأس والإحباط لكن النضال صار سمة لكينونتنا منذ خُلقنا.
وجودي على الحدود في هذه المسافة القريبة من مدينتي، غزة، المكلومة، هو أمر مرهق، يستنزفني تارة ويستفز عجزي تارة أخرى. ومع كثرة القصص التي يتداولها الناجون الذين أقابلهم صباح مساء، باتت لدي طاقة كبيرة للتحرك نحو شيء ما. شيء أجهله لكني أشعر أنه مُلح إلى حد ما. "تدخل" يفرضه موقعي الاجتماعي كباحثة من ناحية، وتفرضه وطنيتي التي يصيبها شعور العجز وتأنيب الضمير على مدار الساعة من ناحية أخرى. لذا، أبادر منذ أسابيع لحشد طاقتي وطاقة كل من هم حولي من أجل تقديم شيء في محاولة لإنقاذ هذه الذاكرة الجمعية من التآكل والاغتراب.
النجاة والذاكرة
منذ السابع من أكتوبر ونحن نواجه سيولة وفيضاً لا يتوقف من الأحداث الدرامية الصادمة التي يعيشها العالم بشأن ما يحدث في قطاع غزة من انتهاكات إنسانية. مشاهد جارحة ومؤلمة مشبعة بالعنف يتم تداولها على مدار الساعة بصورة تدفع بذاكرتنا نحو حالة من الإعياء والصدمة والتطرف.
وبالرغم من أن قصص الناجين المتداولة كانت حاضرة بالصوت والصورة في كثير من الأوقات، صريحةً وفجة، وقوية بما يكفي لتهز ذواتنا جميعاً. إلا أن الخطاب المستتر خلف حقيقة تداولها من قبل وسائل الإعلام لا يزال غير مرئي ويحتاج لمكاشفة حقيقية واعية كي لا يجرنا لاحقاً إلى مطارح مغايرة تماماً وكي لا ينزع عنها مضمونها الإنساني. وهو ما يستدعي لدي قول فوكو "الخطاب الظاهر ليس في نهاية المطاف سوى الحضور المانع لما لا يقوله".
اليوم وبعد أيام من وصولي لجمهورية مصر العربية، قابلت عدداً من الناجين وعدداً آخر ممن يطلبون النجاة لما تبقى من أحبتهم. قابلت الكثير من القصص والوجوه التي تدفعني للتساؤل عن المعنى الحقيقي للنجاة؟ ومعنى التذكر في وضعية الصدمة، وأشكال الاستجابة المتاحة وترجمتها اجتماعياً وإنسانياً. كيف تعمل الذاكرة الجمعية في هذا الحال من التشرذم بين هنا وهناك؟ بين الحياة/النجاة والموت؟ وكيف يمكننا أرشفة كل ذلك؟
أقترح السرد كواحدة من أنجع الوسائل العلاجية. إذ تشكل عمليات السرد في بعدها الفردي مواجهة نفسية ووسيلة للتفريغ النفسي
إن الخسارة التي نشعر بها جميعاً كناجين ليست مادية فقط، إنها ترتبط أكثر بالرواسخ والثوابت وأشياء كان هناك وعي قائم على وجودها الثابت الدائم؛ لتختفي فجأة. وهو ما يعني نفياً قسرياً لذكرياتنا التي مع كل هذا التعب لا نملك وقتا لاستدعائها. هذا بدوره يهدد بخسارتنا لهويتنا الجمعية والفردية على حد سواء.
أحاول بين فينة وأخرى لقاء المثقفين والفنانين والأدباء الناجين والنازحين من غزة إلى جمهورية مصر العربية والخوض في نقاش حول السبل التي يمكن بها ممارسة أدوراهم الطبيعية من خلال استدعاء ذكرياتهم حول أحداث الحرب ومشاركتها، ومن ثم تطويرها على شكل منتج إبداعي معجون بالتجربة الحيّة. إيماناً مني بأهمية وجودنا وتلاحمنا خلف الحدود، وممارسة التذكر كفعل نجاة حقيقي واستشفائي.
في هذه الفترة القصيرة، كنت على موعد مع سرديات مختلفة تظهر أشكال النزوح وتفاصيلها بشكل لافت ومستفز يدعو للكتابة وأرشفة هذه السرديات والخوض في نقاش نقدي حول حيثياتها. تُظهر السرديات الفردية "النزوح" كممارسة مكانية يعيد فيها الإنسان تعريف علاقته بالمساحات من حوله أو ابتكار نظام جديد وسياق مختلف لها يستدعي معه توظيف عملي طارئ للوعي الثقافي الذاتي والجمعي. واللاوعي هنا ليس في حِل من هذه التجربة، إذ يكشف النزوح بشكل مادي صريح عن مكنونات اللاوعي التي من الصعب جلبها أحياناً في المواقف العادية مع حالة من التحكم الذاتي والضبط الاجتماعي. لكن في هذا النزوح والهروب لا شيء يفلت من التجربة، كل شيء يقع تحت الاختبار. فالمسألة هنا تحكمها الغريزة الأقوى؛ غريزة البقاء.
النزوح إلى مصر
بالنسبة للغزيين، فإن النزوح إلى مصر هو تجربة موجعة من ناحية ومفعمة بالألفة من ناحية أخرى. وبغض النظر عن السياسة التي تتذبذب بين الشد والرخي، وبين المد والجزر، بين التحامل والتساهل، إلا أن الصورة العامة تثبت أن مصر هي الأكثر جدارة باحتضان القضية الفلسطينية وأصحابها. ليس لكونها أم الدنيا وحسب، بل لجغرافيتها القريبة مكانياً وعاطفياً على حد سواء..
وفي الوقت الذي يدخل إلى مصر عبر معبر رفح أكثر من 300 فلسطيني نازح يومياً، فإنه يتعذر حتى اللحظة الحصول على إحصائية تقديرية لإجمالي النازحين في مصر. هذا بدوره يعوق عمل الكثير من المؤسسات نحو إطلاق المشاريع والبرامج التمكينية التي تحتاج لإحصائيات وقواعد بيانات دقيقة تنطلق منها في رصد أهدافها ومساحات الأنشطة والقدرة الاستيعابية لديها فيما يتعلق بالفئة المستهدفة. يتضمن ذلك على سبيل المثال الخطط المتعلقة بالطلبة الفلسطينيين وسبل التحاقهم بالتعليم الجامعي والمدرسي في مصر لاستكمال دراستهم.
ولا يخلو الأمر من إشكاليات أخرى تتعلق بالاختلاف الثقافي وأنماط المساحات الاجتماعية والفضاءات العامة وسبل التواصل مع الآخر. لا يقتصر الأمر على الشباب وكبار السن، بل يمتد للأطفال الذين بالإضافة لتعرضهم للصدمة النفسية جراء عمليات الإبادة المستمرة في غزة، فإنهم يفتقدون هنا مساحة الشارع الآمنة التي اعتادوها هناك. إن تنشئة الطفل الغزي، تتغذى بطبيعتها، من بيئة المنزل والشارع على السواء، خاصة الطفل الذي ينشأ في مكان مثل المخيم حيث يمثل الشارع فضاء آمناً يفرّغ فيه طاقته بشكل فاعل وهو ما لا يمكن أن يجده هنا في الشارع المصري.
وهنا يمكن القول إن النزوح هو حالة قاسية، وقد تكون أكثر قسوة من الاغتراب. لكن هل يعتبر النزوح نجاة فعلية؟
إن ممارسة السرد والتذكر بشكل جماعي من خلال أصحابها يسمح بنقل الرواية على سجيتها الطبيعية؛ لتشكل لاحقاً ممارسة ثقافية تحصّن أصحابها وتحميهم من الذوبان
هل نجا النازحون فعلاً؟
لا يمكن القول إن هذا النزوح هو فعلاً هدف حقيقي في مرمى النجاة. إذ ما يبدو الأمر عليه هنا هو حالة من المهادنة مع الوقت وحسب، يشبه الأمر محطة توقف لاستكمال مسير نحو المجهول. مع حجم الاستنزاف المادي والمعنوي الذي عاشه النازحون من قطاع غزة إلى مصر جنباً إلى جنب مع آثار الصدمة النفسية، فإنه يمكن القول بأن الغزيين هنا أشبه بقنابل موقوتة قابلة للانفجار في أي لحظة، في حال لم يتم إسعافهم واحتضان أوجاعهم بما يليق بها. إنهم بحاجة لبرامج مكثفة من العلاج والتفريغ النفسي للكبار والأطفال على حد سواء. إنهم بحاجة لمساحة آمنة تجعلهم قادرين على البوح وتفريغ طاقاتهم التي كبحوا جماحها لشهور. إن القيام بهذا الأمر بشكل ممنهج ومدروس وموجه سيضمن سلامتهم وسلامة المجتمع الحاضن لهم. إن تبني هذه الخطوة يجسد شكلاً من أشكال التدخل الطارئ الذي سيحول دون حدوث أشكال التفريغ التي قد يتعذر السيطرة عليها أو تهذيبها لاحقاً كممارسة العنف المنزلي والعصبية والعنف ضد الأطفال والهلوسات والتفكير بالانتحار أو الانسياق خلف الإدمان والسلوكيات المدمرة. وفي هذا السياق، أقترح السرد كواحدة من أنجع الوسائل العلاجية. إذ تشكل عمليات السرد في بعدها الفردي مواجهة نفسية ووسيلة للتفريغ النفسي. ستدفع بأصحابها إلى مواجهة تلك اللحظات الدراماتيكية الفاصلة في تجربتهم والتي حملت معها أشكال الخوف والصدمة والصبر، والفقد، والموت، والإذلال. هذه المكاشفة الذاتية ستجعلهم أكثر تصالحاً مع ذواتهم حين مشاركتها مع الآخرين الذين خاضوا مواقف مماثلة وستمكنهم من كسب مسافة أقرب نحو التشافي والنجاة من عواقب الصدمة ومضاعفاتها.
إن تجربة الحرب والإبادة الجماعية في غزة تشكل حدثاً فاصلاً في التاريخ الفلسطيني وذاكرته. ومن هنا أصبح توثيق مجرياتها أمراً إلزامياً يؤصل عدالة هذه القضية وأصحابها. وعليه، فإن ممارسة السرد والتذكر بشكل جماعي من خلال أصحابها يسمح بنقل الرواية على سجيتها الطبيعية؛ لتشكل لاحقاً ممارسة ثقافية تحصّن أصحابها وتحميهم من الذوبان في منظومة التشويه أو الطمس أو الهيمنة التي تُملى عليهم من الخارج. وهو بدوره ما يجسد المعنى الحقيقي للنجاة، فهل لا يزال هناك متسع من الطاقة والأمل للعمل نحو النجاة؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه