شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
أتخيّل

أتخيّل "شنكال" بعد 10 سنوات... لسن سوى بياضٍ على قوائم الهجرة 

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والفئات المهمشة

السبت 15 مارس 202510:28 ص

يُنشر هذا النصّ ضمن "لنتخيّل"، وهو ملفّ مفتوح يضم نصوصاً، مدوّنات، قصصاً، مقابلات وتقارير صحافيةً نتخيّل من خلالها المستقبل الذي نوّد أن نعيش فيه، أو ذلك الذي سيُفرض علينا.  


سقطت الصور تلو الأخرى من ذاكرتي، كرملٍ يسقط على إسفلت الساعة، حتّى بلغت نهاية المدينة. كوليدٍ أبصرَ موته فور ولادته، سِرت في "شنكال" مرةً أخرى بعد عشر سنوات، وملأت رأسي صور جديدة لمدينةٍ قديمة ترتدي الأحمر. كيف صارت "شنكال" بعد عشر سنوات؟ أسأل، ويتردد صدى سؤالي. 

"لو أنهم تركونا وحدنا فقط، لا نريد شيئاً آخر من أحد!"؛ تقول لي جارتنا، والثوب الأبيض الذي اصفرَّ بفعل العمل يغطّي جسدها، فيما تقتعد الأرض عند نهاية جدار غير مكتمل. وعلى اليسار، في غرفة طينية آيلة إلى السقوط، بعد أن سقطت مراراً وأُعيدت إلى الحياة بالطين، يرفع زوجها عينيه نحوي. عيناه هما كل ما يستطيع تحريكه من جسده، الذي أصابته جلطات عدة، كالغرفة الطينية، غير أنهم فهموا: لا يمكن إعادة ترميم الإنسان. "أصابته الجلطة الأولى بعد سنتين من سكننا في المخيم. كان عاطلاً عن العمل، ومفلساً، ورجلاً! الثانية وصلت بوصول جثة ابننا الأصغر، الذي التحق بإحدى الجماعات المسلحة كي يعيننا على العيش في المخيم، براتب شهري يتأخر دائماً قدره 200 دولار. الثالثة عندما عرف أنّه بلغ الخمسين، في فجر يوم برده جحيمي، ولم يحقق في حياته شيئاً سوى النزوح من مكانٍ إلى آخر. عندئذٍ، قرر وللمرة الأولى، تغيير نايلون الخيمة البيضاء، لأنه يشبه الكفن حسب قوله، وأمر ببناء نصف جدار من طابوق جمعه ونظّفه ابننا الآخر من بقايا بنايات مهدمة، ثم صبغ نايلون الخيمة كي يغطّي نصفها بأعمدة نصف دائرية تسند سقف الخيمة". 

"سقطت الصور تلو الأخرى من ذاكرتي، كرملٍ يسقط على إسفلت الساعة، حتّى بلغت نهاية المدينة. كوليدٍ أبصرَ موته فور ولادته، سِرت في "شنكال" مرةً أخرى بعد عشر سنوات، وملأت رأسي صور جديدة لمدينةٍ قديمة ترتدي الأحمر. كيف صارت "شنكال" بعد عشر سنوات؟"


نظرت إلى الرجل مرةً أخيرةً، كانت عيناه تلاحقانني في كل حركة أقوم بها. عينان تقولان كل شيء ولا شيء في الحين ذاته. عينان ستصيران في ما بعد، نافذتين أطلّ منهما على كوابيسي. 

شبابيك غرفهم مغطاة بالنايلون، والأبواب ببطانيات حمراء مطبوعة عليها كلمة "أحبك"، وعليها قلوب حمراء، وقد أثقلتها الرطوبة! "كل شيء مكلف، ها ها، إلى درجة تشعرك بأنّ أعمارنا هي أرخص ما يمكن إيجاده في السوق!".

"أتخيل الفتيات الصغيرات يلهثن وهن يلعبن "الغمّيضة"، عوضاً عن لهاثهنّ تحت عناصر داعش الذين يغتصبونهنّ ويبيعونهنّ"

تقدّمت إليّ باستكانة شاي، وصحن "كليجة" بالتمر وجوز الهند، وبدأت تحدّثني عن أربعة ملايين دينار عراقي (نحو 3 آلاف دولار)، خصصتها الحكومة لأولئك الذين قرروا "العودة الطوعية" من مخيمات النزوح، وكيف أنها لا تكفي لبناء غرف يقون بها أجسادهم من الشتاء الذي يلوح في الأفق. وأفهم جوعاً يفترس الأفق، ويدنو منّا حتّى تصير ببطوننا الفارغة خبزاً يلتهمه. وقبل أن أرحل، يمدّ ابن جارنا كأس ماء لأبيه، ويبلغ متقطعاً أسماعي صوت العجوز وهي تقول: "لا أقترب منه لأنني أرتدي الأبيض. يكره البياض. يقول إنّ الخيام ببياضها القبريّ تشبه الأكفان". وختمت حديثها بالتذمّر من التعويض الذي تأخّر صرفه! إذ إنهم أحضروا اللجان المسؤولة عن تشخيص الأضرار التي لحقت بالمنازل على أمل استلام تعويض مالي يمكّنهم من إعادة تأهيل البيت، لكن "الحرب حدثت قبل عشر سنوات، ولم يعد هناك مَن يكترث بأمرنا، صِرنا إكسباير". وأرحل عنهم سائراً في الأزقة، بحثاً عن صورٍ تغذّي ذاكرتي، وأترك لقدميّ حرية أن تقوداني إلى بقايا منزلٍ مفخخ، بالمتفجرات أو بالذكريات. 

مدرسة 

ثم كانت المدرسة، حيثُ تأبطتُ أحلام أهلي بأن أصبح مهندساً، وارتدتها بلا هوادة، ملقياً روحي على المقاعد الدراسية التي تزدحم بها أعداد الطلبة. كانت المدرسة فارغةً، ربما لأنّ كل شيء قيل سابقاً لم يكن ذا معنى، الكلمة تنطفئ حين لا يسمعها أحد. كانت المدرسة قد تحولت إلى مقبرة للكلمات والأحلام. 

وهناك الحديقة المسمّاة على اسم شهيد في خانصور، تتوزع فيها أشجار النيم، وأحلام شبّانٍ وشاباتٍ يلتقطون الصور مع تمثال غزالة افترسها أسد اللاحياة، فيها مصطبات مزدوجة يقتعدها الحاضرون والغائبون، كُلٌ بطريقةٍ يعود إلى الحياة، إما ككومة عظامٍ في مقبرةٍ جماعيةٍ أو كصورةٍ سريعةٍ وراء الجفنَين! ليست في "شنكال" طرق مختصرة للموت، عليك أن تسير نحو الجبل في يوم صيفيٍّ يتجسد فيه الجحيم بأبهى نيرانه، وأن تسير متأبّطاً سماواتٍ مهجورةً من الآلهة، كي تحفظ أرواح موتاك، فكل سماء فيها إله، أدارت ظهرها لك، وغطّت وجهها بسُحُبٍ سوداء. أن تسير على أرضٍ يحيط بك فيها سراب من أنفاس المدفونين في أثناء سيركم نحو الجبل، والذين لم تنتظرهم أيّ ملائكة في "شنكال". أن تحتمي في جبل "شنكال" مع مئات العائلات بأسلحة صدئة، لأنّ أدعيتهم قُتلت في طريقها بتكبيرات داعش وهم يحتلون مدينتكم. لأنّ دماءكم وأرواحكم كانت من رمادٍ نفثتها ريح الإيمان التي أطلقتها وحدة الله، وأن لا إله إلّاه! 

"شنكال" بعد عقد من الزمن معقودة كحبل حول رِقاب الموتى، نبتت قرب أجساد القتلى المذبوحين أعشاب خلود تناولتها أيام صعبة، وظلّت إلى أبد الآبدين. تجبر وزارة الهجرة والمهجّرين النازحين على "العودة الطوعية" في الصباح، وتمنعهم من العودة في المساء، وتقدّم تعويضات وبعض الحاجيات لإقناع الناس بالعودة كي تبيّض وجه السلطة، وتُحسب هذه النقطة في "توفير البيئة المناسبة لعودة النازحين"، لكنها تغيّر توجهها ولا تسمح لهم بالعودة. 

تقول إنّ الوضع آمن، وهو كذلك، لولا وجود الجماعات المسلحة والقصف التركي على المدينة وعشوائية الحياة والموت وعبثية الزمن وغبار الماضي. 

أسأل عمّا صارت عليه النساء الإيزيديات اللواتي خطفهنّ داعش، ولم يعدن حتّى الآن. أعرف وضعي ووضع أهلي: أرقام على قوائم الهجرة، ويتحقق كابوسي: لسن سوى بياضٍ على قوائم الهجرة. 

حياتهنّ مُحيت، كانت مكتوبةً بعذرية اخترقتها أعضاء الدواعش الذكرية، فصارت بيضاء. اللواتي لم يعدن، صرن غيمةً بيضاء تلوّث زرقة السماء. 

"أسأل عمّا صارت عليه النساء الإيزيديات اللواتي خطفهنّ داعش، ولم يعدن حتّى الآن. أعرف وضعي ووضع أهلي: أرقام على قوائم الهجرة، ويتحقق كابوسي: لسن سوى بياضٍ على قوائم الهجرة"

أهل المخيمات

عمدت الحكومة العراقية خلال سنوات، إلى تكريس جهود لا تضاهى في محاولات استعادة العراقيين في مخيم الهول، وهناك شبهات كثيرة حول انتماء العديد من هؤلاء إلى تنظيم داعش، والتسمية المحلية التي تطلَق عليهم: "عوائل داعش". تشرف على إعادة هؤلاء بحافلات وحماية حكومية حتّى وصولهم إلى مخيم الجدعة في الموصل، ومن ثم تحويلهم إلى مناطقهم السابقة. 

يحاول البرلمان العراقي تمرير ثلاثة قوانين جدلية؛ قانون إعادة العقارات الذي يصبّ في مصلحة الكرد، وقانون تعديل الأحوال الشخصية الذي يستفيد منه الشيعة، وأخيراً، قانون العفو العام الذي يقدّمه السنّة لتحقيق "العدالة" بين الأطراف الثلاثة. 

تبدو على الإيزيديين مظاهر الهلع من تطبيق قانون العفو العام، الذي يرجح أنّه يشمل عناصر داعش الذين ارتكبوا جرائم مروعةً بحقهم. برغم التطمينات بعدم شموله مرتكبي الجرائم بحق الإيزيديين، ولكن هناك تساؤلاً آخر: هل تم اعتقال أحد فعلاً بناءً على جريمته بحق الإيزيديين بشكل خاص؟ الإجابة على الأرجح ستكون "لا"، وتخنق نفسها. 

خيال 

أتخيّل حيوات الناس في "شنكال" بشكل طبيعي. ألا تتم خيانتهم بترك مخطوفاتهم ومخطوفيهم بعد عشر سنوات للانشغال بإعادة عائلات الدواعش وتحريرهم من السجون؟ أتخيّل بساتين التبغ في "كرسي" لا يدخنها الإله على أعلام داعش التي احتلت المدينة. أتخيل الفتيات الصغيرات يلهثن وهن يلعبن "الغمّيضة"، عوضاً عن لهاثهنّ تحت عناصر داعش الذين يغتصبونهنّ ويبيعونهنّ. أتخيل الفتيان الصغار يخبّئون الحلوى تحت قمصانهم في عيد "خدر إلياس"، بدلاً من تدريبهم ليصيروا أشبال الخلافة ويخبئوا المفخخات تحت قمصانهم. أتخيّل النسوة يخبزن الأرغفة في التنور في محل توديع فلذات أكبادهنّ في القبور المظلمة. 

أتخيّل الرجال يحملون أطفالهم على أكتافهم وتعلو ضحكاتهم حتّى تهدد عرش الموت، بدلاً من حملهم أخبار الجوع والقتل التي تحني ظهور أعتى الوحوش قوةً وجبروتاً. أتخيّل الأزقّة التي تملؤها روح البيوت الطينية، بيوت "شنكال" من تراب، ولكنها لا تعود إلى التراب، بل تسقط على نفسها، وتصير قبراً لأناس لم يعرفوا كيف يكون شكل البيوت بعدها، فالعالم تحوّل إلى مدينة خيام. 

أتخيل "فؤاد" يقرأ كتاب "الوطنية" متدفئاً بشمس صباح شتائيّ، ويثني عليه والده فخوراً بقدرته على قراءة العربية الفصحى بطريقة سليمة، بدلاً من كتابته عن وطنٍ قصّوا أجنحته وسجنوه في إطار صورةٍ بالأبيض والأسود، فيما ترتعش أطرافه برداً وتخطئ أصابعه مفاتيح لوحة الكتابة في مخيم للنازحين. 

"أتخيّل حيوات الناس في "شنكال" بشكل طبيعي. ألا تتم خيانتهم بترك مخطوفاتهم ومخطوفيهم بعد عشر سنوات للانشغال بإعادة عائلات الدواعش وتحريرهم من السجون؟ أتخيّل بساتين التبغ في "كرسي" لا يدخنها الإله على أعلام داعش التي احتلت المدينة"

أعيش كي أتخيل، وأموت في الواقع مراراً. أعتاش على إمكانية حدوث الحدث، ويضربني الحدث على وجهي. أتنفس هواء شجرة توت في باحة بيتي في "شنكال". لقد قُطعت من جذورها، ولن تكبر مرةً أخرى. ويخنقني نايلون الخيمة. أرتدي خيال ابتسامةٍ تبان كأسمالِ المشردين. أحمل معي بيتي وأدخل الخيمة. أتخيل نوماً قرب جدّتي على سطح البيت الطينيّ، وأنام كل الكوابيس الممكنة. أنتعل هويتي وأسير في شوارع المخيم أدهراً، كي يهدّئ دم التاريخ صقيع الجبل حول المخيم. أدخّن سجائر رخيصةً، رخص جسدي وانتمائي، والطريق أطول من تكبيرات عناصر داعش وهم يدخلون المدينة.  

أتخيّل نضج ثمار الأجساد التي دفنها داعش، في مقابر جماعية في "شنكال"، وتفتّحها كنرجس فوق الأرض التي بنوا عليها بيوتهم وبيوت الإله وحُفرت في باطنها قبورهم. 

وأغذّي خيالي كفلّاحٍ يجبر أرضه أن تثمر الزرع، "تتأفعى" وتتلوى رؤيتي، ويذبحها ضوء نهارٍ يطلّ على "شنكال" التي تبقى كما هي إلى أبد الآبدين. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image