في شهر رمضان، يلتفّ الموريتانيون، كغيرهم من الشعوب الإسلامية، حول شاشات التلفزيون، في انتظار أحدث الأعمال الدرامية. وكما في غالبية المجتمعات العربية، دائماً ما يدور الجدل حول ما إذا كانت الدراما التلفزيونية تمثّل "قيم المجتمع وأخلاقه". ومع كل قصة غير مألوفة، يواجه صنّاع المسلسلات اتهامات بإقحام قصص من نوع جديد في المشهد الدرامي في البلاد، ليست دائماً من النوع المرحّب به.
فـ"قصص الحب" تُعدّ توجهاً جديداً في الدراما الرمضانية الموريتانية، لم يكن ليُتصوَّر قبل سنوات قليلة، لكنه الآن أصبح جزءاً من صميم هذا الإنتاج. فهل هو تجديد فنّي يتماشى مع التغيّرات الاجتماعية أو أنه مجرد خروج عن التقاليد والقيم الراسخة في المجتمع الموريتاني؟
من الكلاسيكية إلى الرومانسية
في السنوات القريبة، كانت المسلسلات الرمضانية الموريتانية تركّز على موضوعات يومية متكاملة مع الحياة الاجتماعية التقليدية، مثل تربية الأطفال، والصراعات الأسرية، وتحديات الحياة البسيطة، كما في مسلسل "يوميات أسرة"، الذي أُنتج عام 2013.
مع بداية السنوات الثلاث الماضية، بدأت المسلسلات الموريتانية تشهد تحوّلاً لافتاً. مع ظهور نوع جديد من القصص. وتحديدًا قصص تتناول الحب والعلاقات العاطفية التي كانت من قبل تُعدّ من المواضيع المحظورة
كانت الدراما انعكاساً لعادات المجتمع، تلتزم بموازين القيم وعادات المجتمع البدوي المحافظ المنطوي على ما له علاقة بالحب بين شخصَين، دون أن تخرج عن الأطر المحددة التي حددتها طبيعة المجتمع آنفاً.
لكن مع بداية السنوات الثلاث الماضية، بدأت هذه المسلسلات تشهد تحوّلاً لافتاً. بدأ يظهر نوع جديد من القصص. قصص تتناول الحب والعلاقات العاطفية التي كانت من قبل تُعدّ من المواضيع المحظورة كما في مسلسل "ربيع العمر"، الذي أُنتج في رمضان الماضي عام 2023، ومسلسل "الحكاية" الذي أُنتج عام 2025.
مسلسل "ربيع العمر" (2023)، كان بمثابة جسر لهذه التغيّرات، إذ تجرأ على تسليط الضوء على قصة حبّ بين شخصين ينتميان إلى بيئتين مختلفتين ومتباعدتين في المستوى المادي، متحدّيَين التقاليد الاجتماعية السائدة.
وفي هذا العام، جاء مسلسل "الحكاية"، الذي يروي قصة حب بين شابّة وشاب في مدينة أطار الموريتانية، تمنيا في عزّ شبابهما الزواج من بعضهما البعض، لكن زواج المصلحة والفقر دفع والدة الفتاة إلى تزويجها من رجل غنيّ انتقلت معه إلى المدينة، إلا أنّ حبّها للشاب ما زال يعشعش في قلبها كما في قلبه.
ربما كان المسلسلان تأكيداً على أنّ هذه القصص ليست مجرد صدفة، بل هي تحول فنّي حقيقي.
انعكاس للتحولات الاجتماعية أو تقليد للدراما العربية؟
من الأسئلة التي تطرح نفسها بقوّة: هل هذه القصص مجرد انعكاس لتحوّلات اجتماعية تحدث في المجتمع الموريتاني؟ أو أنها محاكاة لما تقدّمه الدراما العربية التي غزت الشاشات العربية؟
في حديثه إلى رصيف22، يكشف الكاتب والصحافي الموريتاني الربيع ولد إدوم، كاتب سيناريو مسلسلَي "ربيع العمر" و"الحكاية"، أنّ الهدف من هذه الأعمال ليس مجرد محاكاة، وإنما المحاولة الجادّة للتعامل مع الواقع الموريتاني بمصداقية.
يقول ولد إدوم: "علينا مواجهة المجتمع بتناقضاته". وهذا التوجه يعني أنّ القصص ليست مجرد صور مستنسخة من الخارج، بل هي محاولة جريئة للتعامل مع واقع اجتماعي يرفض الحديث عن الحب والعلاقات بشكل صريح، لكن من خلاله يتم تحفيز التفكير والنقاش.

مفارقات مجتمعية
يواصل الربيع ولد إدوم، طرح تساؤلاته، فبين الحب والواقع الصعب في قلب هذه القصص يكمن سؤال أكبر: كيف يمكن أن يجتمع الحب مع واقع اجتماعي صارم؟ في مجتمع عانى في السبعينيات من جفاف قاسٍ، وتعرّض للعديد من التحدّيات الاقتصادية، أصبح البحث عن الحب أمراً بعيد المنال، فغدت معظم العلاقات تقتصر على "زواج المصلحة" الذي يحكمه المال والمصالح الاجتماعية.
يعتبر مسلسل "ربيع العمر"، الذي أُنتج في رمضان عام 2023، ومسلسل "الحكاية" الذي أُنتج عام 2025، من أوائل الأعمال التي تناولت العلاقات العاطفية، وأثارت جدلًا في المجتمع الموريتاني.
هذه التناقضات الاجتماعية بين الرغبة في الحب وبين الواقع المادي، جعلت القصص العاطفية في الدراما الموريتانية، في السنوات الأخيرة، تطرح سؤالاً محورياً: هل يمكن للحب أن ينجح في بيئة لا تعطيه مكاناً حقيقياً؟ هذه هي المعضلة التي تواجهها الشخصيات في "ربيع العمر"، حيث تتداخل أحلام الحب مع متطلبات المجتمع، وتخضع لعوامل اقتصادية وثقافية قد تقتل المشاعر نفسها.
يقول: "قصص الحب تموت في جميع أنحاء العالم منذ فجر التاريخ، لكن في مجتمع محافظ مثل مجتمعنا، نرى كيف أنّ الحب يتحطم لصالح زواج المصلحة". ويرى أنّه بالنسبة إلى الجمهور الموريتاني، فإنّ هذه القصص تثير الكثير من التفاعل، بعضها يعجبهم، والبعض الآخر يرون فيه تجاوزاً للحدود التقليدية.
على مواقع التواصل الاجتماعي، أشادت فئة كبيرة بالمسلسلات التي تناولت قصص الحب، عادّةً أنها تعكس صراعاً حقيقياً داخل المجتمع الموريتاني، الذي يجد نفسه بين مفاهيم قديمة وجديدة حول العلاقات الإنسانية.
يقول محمد سيدي عبد الله، وهو صحافي موريتاني مهتمّ بالدراما الرمضانية، لرصيف22: "نحن نسعد بمشاهدة نمط جديد في إنتاجنا الدرامي. إنّ المتابع لهذه المسلسلات يرى حقاً الواقع المرير في مجتمعنا، الذي تموت فيه قصص الحب العذري بين الشباب، نتيجة العادات المجتمعية التي تحرّم 'البوح'، وتقدّم زواج المصلحة".
في المقابل، عبّر آخرون عن اعتراضهم الشديد، معتبرين أنّ هذه الأعمال تروّج لقيم مناقضة للقيم الدينية والاجتماعية، وأنها قد تضرّ بالثقافة المحلية الموريتانية. تقول زينب أحمد سيدي (25 عاماً): "إنّ ما يتم بثّه خلال شهر رمضان، مخالف تماماً لعاداتنا التي تربّينا عليها، وهو برأيي من أسباب الانحلال الأخلاقي في صفوف الشباب".
بينما يقول الصحافي الموريتاني عبد الله علي: "في الحقيقة، تأدية الأدوار في الدراما الموريتانية لم تصل في غالبيتها إلى مرحلة الإتقان وتقمّص الشخصيات، مع وجود استثناءات في الأعمال المعروضة خلال الموسم الحالي، لكن نلاحظ وجود تطور كبير في الشكل العام للتمثيل في البلاد، وتحوّل من مرحلة الإسكتشات التي تعالج قضيةً في كل حلقة بشكل ساخر، إلى مسلسلات درامية ذات سيناريوهات تعالج قضايا عدة في السلسلة نفسها".
التحدّي الأكبر الذي يواجه هذه القصص في الدراما يكمن في المواجهة مع القيم الدينية والثقافية في موريتانيا. فالمجتمع الموريتاني، ذو التقاليد المحافظة والمتأثر بالقيم الإسلامية، حيث يرى في "الحب الزائد عن الحدّ" نوعاً من الانحراف عن الخطوط الحمراء. وقد اتهم البعض هذه الأعمال بأنّها تمثل تهديداً للأخلاق العامة
ويكمل: "كمتابع، أدرك تماماً العوائق المطروحة للمنتجين العاملين في المجال، ولكني أتطلع إلى المزيد، خاصةً بعد ظهور وجوه شابّة أكثر ديناميكيةً وأكثر جذباً للجمهور، وتؤدي الأدوار باحترافية نسبية تعطي انطباعاً عن المرحلة، وعمّا يمكن أن تكون عليه الدراما الموريتانية بعد عقد من محاولة التطور".
هل يواجه صنّاع الدراما المجتمع؟
على الرغم من الجدل الدائر حول هذا التحوّل، يرى صنّاع الدراما أنّ هذا التوجه ليس مجرد قفزة فنية جريئة فحسب، وإنّما ضرورة تقتضيها التطورات التي يشهدها المجتمع الموريتاني.
الربيع ولد إدوم، يؤكد أنّ الفنّ يجب أن يعكس حقيقة المجتمع، مع محاولة توجيه هذا المجتمع نحو التغيير، دون أن يشعر بأنّه مستهدف أو معارض. "الدراما لها دور مميز في التثقيف"، يقول، مشيراً إلى أنّ القصص التي تتناول الحب، يمكن أن تفتح النقاش حول بعض التناقضات التي قد يتجنّب المجتمع مواجهتها. ولكن في الوقت ذاته، هناك من يرى أنّ هذا التطور قد يكون بمثابة مخاطرة ربما تضرّ بسمعة الدراما الموريتانية، في حال لم يتم التعامل مع الموضوعات بحذر وواقعية.
تهديد للقيم أو نقد للواقع؟
التحدّي الأكبر الذي يواجه هذه القصص يكمن في المواجهة مع القيم الدينية والثقافية في موريتانيا. فالمجتمع الموريتاني، ذو التقاليد المحافظة والمتأثر بالقيم الإسلامية، يرى في الحب الزائد عن الحدّ نوعاً من الانحراف عن الخطوط الحمراء. وقد يتهم البعض هذه الأعمال بأنّها تمثل تهديداً للأخلاق العامة.
إلا أنّ آخرين يرون في ذلك نوعاً من التحدّي المقبول، قائلين إنّ المجتمعات لا بدّ أن تواكب التغيّرات التي تحدث في العالم. فالعولمة، على الرغم من تحدياتها، تفتح آفاقاً جديدةً للشباب الذين يبحثون عن طرق جديدة للتعبير عن أنفسهم.
يبدو أنّ قصص الحب في الدراما الرمضانية الموريتانية ليست مجرد تفريغ عاطفي، أو محاولة للترفيه، بل هي دعوة للتفكير وإعادة تقييم بعض المفاهيم التي تربط بين الحب والمجتمع.
وبينما يُثير هذا التوجه جدلاً بين مؤيّد ومعارض، فإنّ تأثيره لا يمكن تجاهله حسب البعض.
وفي وقت يستمرّ فيه الجدل حول موازنة الفن مع القيم، تظلّ الدراما هي الوسيلة التي تلعب دوراً في تحفيز النقاش حول ما يمكن أن يكون عليه المجتمع في المستقبل.
ووفق قول الربيع، فإنّ "دور الكاتب هو السير في حقول الألغام التي تشكّلها محاذير المجتمعات المحافظة".
مواجهة المجتمع ببعض تناقضاته، من أدوار الكتّاب التي لا يجب أن يتنازلوا عنها. إنه دور يحتاج إلى معرفة بالمجتمع، وصدق في محاولة التغيير، لذا عليك اعتماد المقولة الشهيرة: "الحقيقة لا تقال، والكذب أمر سيئ".
بين المساحتين، تحاول تمرير محاولة تغيير كيّسة لا تُشعر المجتمع بأنك ضدّه، بقدر ما تجعله في مواجهة حقائقه وتناقضاته التي تؤثر على حياة أفراده، خصوصاً من الجيل الجديد".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
mahmoud fahmy -
منذ ساعتينمادة قوية، والأسلوب ممتاز
Karami Meriam -
منذ 11 ساعةنيتمءتحءنخوماك الامام الخامنئي, ب58
Karami Meriam -
منذ 11 ساعةنيتمءتحءنخوماك الامام الخامنئي, ب58
Apple User -
منذ يوميناتمنى الرد يا استاذ ?
Apple User -
منذ يومينهل هناك مواقف كهذه لعلي بن ابي طالب ؟
Assad Abdo -
منذ 5 أيامشخصية جدلية