يُعدّ الرقص من الأنماط التعبيرية الأصيلة في الثقافة الموريتانية، وتتعدّد أشكاله وأنواعه، من الجماعي إلى الفردي. ويحضر بوضوح في المناسبات الاجتماعية مثل الأعراس، حيث يتحرر الناس أكثر من القيود المجتمعية، فتجد الرجل يبدع ويحلّق في رقصه متخطياً القوالب المجتمعية الصارمة أحياناً، وكذلك المرأة التي تجاريه في الميدان وترسم معه معالم المشهد الاحتفالي، ليكمِل فعلُ الرَّقص حالة البهجة التي تخلقها الموسيقى وأصوات الفنانين.
ويحتضن التراث الموريتاني مجموعةً من الرقصات والألعاب التقليدية المميزة واللافتة، وتختلف باختلاف المناطق والشرائح الاجتماعية والعرقية.
رقصة همبة
في ولاية تكانت وسط موريتانيا، وتحديداً في مدينة الرشيد، نجد بعض ملامح الرقص الموريتاني الثري، المتمثل في رقصة أو لعبة احتفالية، تُسمّى همبة.
يقول عنها الباحث أحمد ولد حمادي، لرصيف22: "رقصة همبة أو لعبة همبة كما يسمونها محلياً، هي منتج محلي مئة في المئة لأهل الرشيد ومدينة الرشيد التاريخية، وهي لون فني جميل، يخلط بين الرقص والغناء، فهي تتميز بأنها مزيج من اللّونين".
يشرح الباحث طريقة الرقص قائلاً: "يحدث أنَّ مجموعة من الشباب تتشابك بالمناكب، وتظل تتقدم وتتأخر، ثم تتمايل يمنةً ويسرةً، وتنحني تارةً إلى الأمام، ثم ترفع رؤوسها إلى الأعلى، وهي تطلق أصواتاً قويةً من حناجرها كزئير الأسود في أداء رجولي جماعي رائع يتماشى والإيقاع الموسيقي والغناء في غير نشاز ولا خروج عن المقام الموسيقي، وهو ما يطرب السامع، ويجعل المشاهد يقفز من مكانه. إنه حقاً مزيج من رقص بهيّ وغناء شجيّ".
يحدث أنَّ مجموعة من الشباب تتشابك بالمناكب، وتظل تتقدم وتتأخر، ثم تتمايل يمنةً ويسرةً، وتنحني تارةً إلى الأمام، ثم ترفع رؤوسها إلى الأعلى في رقصة همبة. فما هي قصة الرقصة التي تظل حكرا على الرجال؟
ويضيف ولد حمادي: "تتميز همبة بأنها رقصة جماعية رجالية، يشترك فيها كلّ من يملك ذوقاً فنياً عالياً، أي أنها لون فني جميل تؤدّيه جميع الفئات العمرية، وتكاد تكون محصورةً في مجموعة من أهل الرشيد تُسمى 'أهل لكصر'، معروفة بجمال الصوت وإتقان جميع الفنون".
ويؤكد ولد حمادي أن "همبة لون فني يغلب عليه الرجال، لحاجته إلى طول النفس وقوة التحمل والاندفاع، وهي أمور تجعل الرقصة هذه مختلفةً عن الدبكة الشامية مثلاً التي تقدّمها مجموعة مختلطة من الرجال والنساء. وترتبط همبة بنشاطات الفرقة الموسيقية الفلكلورية المحلية منذ زمن، وأهم قادتها وأشهر رموزها سيد أحمد ولد أعبيدهم، وإسويحي بنت لفظيل، وبنات معطى الله، وهي الفرق التي تنشط عادةً في المناسبات الاجتماعية أو المهرجانات أو في استقبال الوفود الرسمية أو حتى المناسبات الدينية وغيرها، مما يعبّر عن الحالة العامة للمجتمع من سعادة وفرح وغيرهما".
وحسب ولد حمادي: "ظهر هذا اللون الجميل كما يعتقد أهل الرشيد، بعد تأسيس المدينة في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وما تلا ذلك من ازدهار شمل جميع الفنون، من أدب وموسيقى وثقافة وحتى فن عمراني".
ويضيف أنه "انتشر في جميع مدن الرشيد الكبير، التي تضم إدارياً اليوم بلديتين، هما بلدية الرشيد الواحات، وأشاريم، وهما من أهم وأقدم مدن المنطقة التي وُلد فيها فن همبة، ولا تزالان تتمسكان به حتى الآن، كفنّ جميل وأصيل وجزء من تراث المنطقة يعبّر عن هويتها الثقافية والحضارية، ولا يزال شباب الرشيد يحافظون عليها، ويشجعون على التمسك بها وبالأشوار الزُمْنِيةِ (المعزوفة القديمة)، التي ترافقها والمرتبطة بها حتماً، مثل: تمقورت-الله إدومو، وتطوير كل الفنون الثقافية المحلية المهددة بالاختفاء والنسيان".
ويشرح المتحدث أن الحفاظ على التراث يمرّ من خلال مهرجان "أيام الرشيد" السنوي الذي يسعى إلى نفض الغبار عن تاريخ المدينة وفنونها.
ظهر هذا اللون الجميل (رقصة همبة) كما يعتقد أهل الرشيد، بعد تأسيس المدينة في النصف الثاني من القرن الثامن عشر
ووفق المتحدث فإنه ليس مستغرباً وجود الفنون والاهتمام بها في مجتمع الرشيد، لما يتميز به من ذائقة فنية راقية، ويقول: "لا شك أن مجتمعاً أنجب أدباء رفيعين كمحمد ولد آدب، وأحمد ولد أج، وواده ولد سيدي كازا، واحتضن مدرسة أهل آبه العريقة، هو مجتمع قد وصل إلى درجة عالية من الرقيّ والتقدم تنعكس على أنماط الثقافة الأخرى".
ويخلص إلى القول إن مجتمع أهل الرشيد الذي نشأت في أوساطه رقصة همبة "عاش منذ القدم، وحتى اليوم، حالةً من الاسترخاء والانسجام، جعلته أحد أكثر مجتمعات المنطقة استقراراً وترابطاً، وحرصاً على العيش المشترك بهدوء وأمان، وهي حالة عبّروا عنها بالغناء والشعر والرقص".
رقصات أخرى
يحتضن التراث الموريتاني رقصات أخرى كذلك، تعبّر عن الحالة الإبداعية لناس تلك الرقعة الجغرافية، ويؤديها الرجال مثل رقصة "تگر" التي يرقُصها سكان ولاية الحوض الشرقي في موريتانيا.
وقد تحدث السالك فال ولد حمودي، عنها لرصيف22، قائلاً إن "تگر رقصة وعينا نحن أهل مدينة النعمة (عاصمة الحوض الشرقي)، عليها عند أسرة اسمها أهل أمبابة، وهي تُرقص على وزن بمباري، وتُعزف على آلة التيدنيت، ويرقصها الرجال فقط".
ويشرح ولد حمودي أنه "تؤدَّى الرقصة في المناسبات الاجتماعية من أعياد وأعراس، وتكون خاصةً بأصحاب العريس، وأحياناً ترقصها النساء لكنها غير مألوفة في أوساطهن".
ويضيف المتحدث قائلاً: "لدينا رقصات أخرى، تُرقص على أشوار. والشَّوْرْ في عزف "التيدينيت"، هو المعزوفة الثابتة القديمة، ومنها أكنو ولبليدة، وأنجط.
ويمكن القول إن هناك العديد من الرقصات المتنوعة التي تمثل كل بقاع موريتانيا، ومن أشهرها رقصة "دگداگة"، المعروفة عند سكان مدينة ودان التاريخية الواقعة في ولاية أدرار شمال موريتانيا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومعن أي نظام تتكلم عن السيدة الكاتبة ، النظام الجديد موجود منذ سنوات ،وهذه الحروب هدفها تمكين هذا...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ اسبوعينعزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ 3 اسابيعلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...