شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
الغريب الذي قرر أنه يعرفني أكثر من نفسي!

الغريب الذي قرر أنه يعرفني أكثر من نفسي!

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والنساء

الاثنين 14 أبريل 202510:42 ص

خرجتُ من المبنى الحكومي أخيراً. الهواء في الخارج بدا مختلفاً. الحياة نفسها بدأت تفرك عن وجهها الصدأ الذي تمدد حتى عظامي. عبرتُ فجوةً زمنيةً بين مكان عالق في قبو الذاكرة والشارع الذي لا يزال يتدفق بالحركة وتجري فيه دماء الأحياء. 

لم أتأمل كثيراً الطريق. كنت أبحث عن أقرب محطة مترو. سألت ساعي المصلحة، وبعكس موظفي المكان، تعامل مع طلبي ببساطة وأخبرني بأنه على يميني في آخر الشارع، وأجزل لي العطاء بأن أشار مشكوراً بيده. لم أكن أفكر سوى في العودة إلى المنزل، وفي كوب شاي دافئ بالنعناع، وأحلام بسيطة يتخللها عصفوران يغرّدان فوق رأسي. 

"كم أنا متعبة!". 

أردت الانتهاء من هذه المهمة الثقيلة التي لم يكن لها أن تستغرق بضع دقائق لكنها امتدت لساعات بين المكاتب.

لكن بدلاً من التوجه إلى محطة المترو، وجدتُ نفسي أخطو في قصة أخرى.

الرجل الذي قرر أنني مشروع محتمل

سمعته أولاً قبل أن أراه. خطوات متقاربة، ليست سريعةً ولا بطيئةً، لكن ثابتة، كأنه يتعمد الظهور بطريقة مسرحية. لم أهتمّ، الشارع شبه خاوٍ، فلماذا قد يتعثر أحدهم بي؟ تجاوزني قليلاً، ثم عاد ليوازي خطواتي.

-"إزّيك، شوفتك بتدوّري على المترو، أنا كمان رايح هناك".

لم أنظر إليه مباشرةً. الرد العاقل كان التجاهل، وأن أكمل طريقي، لكنه لم يتوقف.

-"أنا لقيتك دايخة بين الموظفين، كان نفسي أساعد، بس للأسف كنت هناك زيّي زيّك". 

لم ألتفت. واصلتُ السير كأنني لم أسمع، وكأنّ هذا الصوت لم يُوجَّه إليّ تحديداً.

-"أنا بتكلم معاكِ، عيب مترديش".

رصيف22 من أكبر المؤسسات الإعلامية في المنطقة. كتبنا في العقد الماضي، وعلى نطاق واسع، عن قضايا المرأة من مختلف الزوايا، وعن حقوق لم تنلها، وعن قيود فُرضت عليها، وعن مشاعر يُمنَع البوح بها في مجتمعاتنا، وعن عنف نفسي وجسدي تتعرض له، لمجرد قولها "لا" أحياناً. عنفٌ يطالها في الشارع كما داخل المنزل، حيث الأمان المُفترض... ونؤمن بأن بلادنا لا يمكن أن تكون حرّةً إذا كانت النساء فيها مقموعات سياسياً واجتماعياً. ولهذا، فنحن مستمرون في نقل المسكوت عنه، والتذكير يومياً بما هو مكشوف ومتجاهَل، على أملٍ بواقع أكثر عدالةً ورضا! لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم، وأخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا!.

كان الصوت أقرب الآن، فيه نبرة ادعاء الاستحقاق، ويوبّخني على صمتي.

-"بصراحة، أنا حابب أتعرف عليكِ… نتكلم شوية، مستحيل أسيب الجمال ده يمشي كده... أنا أرمل، عندي شقّتين، تحبّي تشوفيهم... طب ممكن نتجوز؟".

سمعته أولاً قبل أن أراه. خطوات متقاربة، ليست سريعةً ولا بطيئةً، لكن ثابتة، كأنه يتعمد الظهور بطريقة مسرحية. لم أهتمّ، الشارع شبه خاوٍ، فلماذا قد يتعثر أحدهم بي؟ تجاوزني قليلاً، ثم عاد ليوازي خطواتي

ذئب كل شيء 

لم أُجِب. أعرف هذا السيناريو. دائماً يتكرر، بطرائق مختلفة وأشخاص متشابهين، حتى لو صاحبه هذا السؤال المباشر، والجملة التي تبدو لطيفةً لكنها تخفي وراءها ذئب كل شيء.

تجمدت مشاعري بين الغضب والسخرية من عبثية اللحظة. كان طلبه ملحّاً، لكنه لم يكن دعوةً صادقةً، بل مجرد مناورة. شيء آخر منتحل، تجربة، اختبار لي ولما يمكن أن يحدث. الرجل رمى كلمةً، وأراد أن يستمتع بتأثير صداها داخلي، وفي أرجاء حياتي.

أعرف أنه لا يتوقع إجابةً جادةً. لم يكن ينتظر أن أتوقف وأقول له: "ماشي، يلا بينا نتكلم عن ترتيبات الزواج، تحب حضرتك نتجوز فين؟ عندي ولا عندك؟"، وخلفها بالطبع ضحكة مغوية وغمزة يعرفها وينتظرها. كان يرمي الكلمات كصيادٍ يلقي شبكته، ويرى مَن سيقع في الفخ، أو ربما كان يراهن على احتمال أن أكون مستعدّةً لمجاراة لعبته.

لكن لماذا أكون ذلك الاحتمال وتلك الفرصة؟

لم أبحث في هيئتي، وملامحي، وملابسي عن سبب، لأبرر له تصرفه، وثقته التي جعلته يعتقد أنني قد أكون مهتمةً أو حتى مترددةً ومستعدةً للمساومة، لأنني أعلم أن الخطأ ليس فيَّ، ولا أريد أن أجعل من نفسي جزءاً من ثغرة مررها المجتمع لتبرير التحرش والتعدّي على النساء. كنت متعبةً، بعد معركة امتدّت لساعتين بين مكاتب الموظفين بغبارها المقيت ورتابة نظراتهم الخالية من المشاعر، ومن التعلق بوجوه المتعاملين. نجوت ربما من معركة لم يعرف أطرافها أنني موجودة أصلاً، ولم تكن تلك إحدى إشراقاتي الفاتنة، ولا كنت مشروعاً متاحاً لأي تجربة عابرة. وكأنني انتقلت من سجن إداري إلى سجن اجتماعي.

لم أبحث في هيئتي، وملامحي، وملابسي عن سبب، لأبرر له تصرفه، وثقته التي جعلته يعتقد أنني قد أكون مهتمةً أو حتى مترددةً ومستعدةً للمساومة، لأنني أعلم أن الخطأ ليس فيَّ، ولا أريد أن أجعل من نفسي جزءاً من ثغرة مررها المجتمع لتبرير التحرش والتعدّي على النساء

الفريسة التي تزيّن صفحة الفضائح

هل يعتقد أنه يعرفني أكثر مما أعرف نفسي؟ ظلّ هذا السؤال يلاحقني. ربما رآني امرأةً تسير وحدها، منهكةً، مستعجلةً، أو حتى تائهةً 'يا حرام'، تبحث عن محطة المترو الرابضة في أقصى حدود الجغرافيا المعروفة، وربما يمكنها التوقف لشيء آخر. لم يكن الرجل يعرفني، لكنه ظنّ أنه يعرف "نوعي"، أو أنني أقع ضمن فئة معيّنة يمكن التعامل معها بهذه الطريقة، أو بمعنى أصحّ أنني "سقط طريق".

ظنّه أنني فريسة سهلة، أرّقني لأيام. شعرت بأنني كنت في مخيلته، مشروعاً مفتوحاً، امرأةً مقصوصة الجناحين، تتغنّج وسط ريشها الدامي، على سرير مذهّب يتوسط غرفة نومه بإضاءتها الحمراء الزاعقة، وهي دائماً حمراء في مشهد إيروتيكي مبتذل يتكرر في الأفلام التجارية، وأنني بين أحضانه طيره الداجن، لحم رخيص، وجبة سريعة وقعت في غرام رجولة بسلامته وحسنه الفتاك.

الإصرار ليس مجاملة… بل عنف ناعم

هناك فرق بين محادثة عابرة، وبين الإلحاح القسري. حين لا تستجيب المرأة، ويظلّ الرجل يطاردها، فهذا ليس لطفاً، بل محاولة فرض سيطرة، تجربة متانة الشباك. لسنا بحاجة لنذكّر بأن ليس كل مكان مناسباً لمثل هذه المحادثات، وليس كل شخص متاحاً لعرض زواج من دون معرفة أو علاقة سابقة.

هل لو كنت بصحبة أخي أو أبي كان سيجرؤ على سؤاله هذا؟ تذكرت أن أحدهم كرّر العرض نفسه عليَّ وأنا بصحبة أمّي في أثناء خروجنا من مستشفى قبل أعوام، وتألمت. 

ربما كان يراهن على احتمالات مختلفة تنحصر في ذهنه بين التجاوب على مضض بتكرار الإلحاح، أو الرفض القاطع، لكنه لم يفكر أبداً في أن الفكرة كلها مرفوضة على مستوى أعمق من مجرد الرفض الشخصي.

ربما رآني امرأةً تسير وحدها، منهكةً، مستعجلةً، أو حتى تائهةً 'يا حرام'، تبحث عن محطة المترو الرابضة في أقصى حدود الجغرافيا المعروفة، وربما يمكنها التوقف لشيء آخر. لم يكن الرجل يعرفني، لكنه ظنّ أنه يعرف "نوعي"، أو أنني أقع ضمن فئة معيّنة يمكن التعامل معها بهذه الطريقة، أو بمعنى أصحّ أنني "سقط طريق"

كيف يُبنى وهم الاستحقاق؟

المجتمع مليء بالقصص التي تخشى فيها النساء أن يصبحن مجرد احتمالات في الشوارع، أهدافاً لا تميّزها أسماء، أو ملامح، أو ملابس، بقدر ما تختلف في فرضية أن التهديد صار رغبةً ملحةً في ذهن الرجل، وأن كل أنثى مباحة وخاضعة لسطوته.

ربما تربّى على أنّ المرأة التي تسير وحدها مشروع مفتوح، وأنّ الحديث المفاجئ في منتصف الطريق مغامرة مشروعة، وأنّ التجربة لا ضرر فيها، وأنه يمكنه أن يجرّب الحظ، ويراهن على شيء لن يكلفه إلا بضع كلمات بين مهامه اليومية التي تطحنه هو الآخر وتقهر طموحاته، فعلاقة عابرة تُعدّ هديةً، إنجازاً بلا تعب، وترضيةً بسيطة لجهوده العظيمة في خدمة مشروع حياته؛ أن يكون رجل هذا الشارع، وأن يترك أثره في هذه الرقعة من الطريق كما تفعل الكلاب الضالة لإثبات ملكيتها ولو لخرابة أو مزبلة. هذه المحاولة تعني لذّةً مستحقةً. 

يريد ترك علامته عليّ ولو لم ينلني.

لكني لم أكن تجربةً، بل مجرد امرأة تريد الوصول إلى بيتها.

حين ترفض امرأة مثل هذا، يظهر مَن يسأل: "ما المشكلة في أن يحاول أحدهم التعرف إليكِ، لماذا كل هذه الحساسية تجاه الأمر؟"

ليه بتاخدي الأمور بحساسية؟

حين ترفض امرأة مثل هذا، يظهر مَن يسأل: "ما المشكلة في أن يحاول أحدهم التعرف إليكِ، لماذا كل هذه الحساسية تجاه الأمر؟".

لكن السؤال الحقيقي ليس لماذا أرفض، بل لماذا يُفترض بي القبول؟ لماذا يُنظر إلى وجودي في الشارع على أنه فرصة بدلاً من كونه مجرد وجود عادي؟ هل يتوقع أي رجل يسير في الشارع أن يُوقفه أحد ليعرض عليه التعارف؟

حين تجاهلته، ربما ظنّ أنّ تجاهلي دعوة للتفاوض، ربما عليّ أن أبرر لنفسي صمتي، وأحلل السيناريوهات المحتملة، وأجلد نفسي بالتفكير في هذا الموقف، كوني المذنب التي يجب أن يدافع عن نفسه، وتوجّه إليه كل هذه الأسئلة، بينما هو، نسي عبوري في حياته منذ اللحظة التالية، لأنه لم يكن مضطراً إلى التفكير في شعور أن يكون مطارداً في الشارع.

الأمان… أن تمشي دون أن تبرر وجودك

غيّرتُ طريقي، وخسرتُ وسيلة مواصلات أسرع، فقط لأتجنّب سخافةً لم أكن مضطرةً إلى تحمّلها. طوال الطريق، عنّفت نفسي؛ لأنني اضطررت إلى الخضوع لسطوته، ولو بالهرب إلى أول ميكروباص وجدته. تساءلت: لماذا عليّ أن أكون حذرةً؟ لماذا يتحول المشي في الشارع -الذي من المفترض أن يكون آمناً- إلى مساحة تحتاج إلى تحليل؟ لماذا يجب أن أنتبه إلى كل حركة حولي؟ أن أخطط لمساري؟ أن أغيّر خططي بسبب عابر طريق لا أعرفه؟ لماذا عليّ أن أفكر في كيفية إنهاء هذا التفاعل بأقل الخسائر الممكنة؟

الأمان ليس مجرد غياب الخطر، بل أن أمشي دون أن أكون في حالة استعداد دائم، وألا أضطر إلى تحليل نبرة صوت شخص غريب، أو أخمن إن كان سيتوقف عن ملاحقتي أم لا.

لكن الأمر لا يتعلق بي وحدي، بل في اعتقاد البعض أن بإمكانهم اقتحام حياة شخص آخر بهذه السهولة.

الذي جعل الأمر مرعباً، أن معرفتي بنفسي لا تكفي دائماً لحمايتي من افتراضات الآخرين.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image