أجلس في صالون التجميل الصغير في إحدى ضواحي القاهرة النائية، لأجد على الشاشة مسلسلاً يبدو مرآةً لما يحدث حولي؛ لكن بدلاً من "مدام لولا"، صاحبة الكوافير في "80 باكو"، تجلس امرأة في الموضع نفسه بجوار الباب لتُشرِف على الداخلات والخارجات، وتَكشِف العاملات وتنظّم حركتهنّ بين العميلات.
وبدلاً من بوسي وعبير وفاتن، بطة وسوزان ورانيا ولميس ومروة وأخريات يعملن بدقّة في تقليم الأظافر، وصبغ شعر نساء أخريات وكيّه وتقصيره وتفتيحه. لكل منهنّ، سواء كانت عاملةً أو عميلةً، قصتها الخاصة التي لا تخجل من قصّ شذرات منها على مسمع من السيدات كلهنّ، فنعرف عن التي يغضبها شريكها، غير أنها تصبغ شعرها باللون الأشقر الآن من أجله، وعن العاملة التي تحارب من أجل لقمة عيش أولادها، وحكايات أخرى لا تنتهي.
تمتزج القصص على الشاشة مع تلك الحقيقية، فيذوب ذلك الجدار الواهي بين الواقع والخيال، ويظهر مدى ثراء عالم النساء اللواتي يبدون من الخارج كما لو أنهنّ مجموعة من نساء يتمتعن براحة بال، ويقضين ليالي رمضان في التزيّن والتجمّل، بينما كل واحدة منهنّ تقتنص لحظةً لنفسها بعيداً عن كل مشاغلها الأخرى، وعقلها مشغول بأزماتها، سواء كانت كبيرةً أو صغيرة.
أليس في كوافير العجائب
زارت ابنتي الكوافيرة للمرة الأولى قبل سنوات قليلة، عندما شعرت بالملل من البقاء مع والدها بينما استغرقت وقتاً طويلاً في صالون التجميل، فأجبرته على إحضارها إليّ.
خلال قضائي الوقت في إزالة الشعيرات الزائدة من وجهي، ورسم حاجبي بيدي، طالبت صغيرتي ببعض من الاهتمام "الأنثوي"، فاختارت من سلّة طلاء الأظافر ألواناً عدة، وجعلت عاملةً أخرى تصبغ أظافرها بها في لوحة فنية متناهية الصغر.
يظهر مدى ثراء عالم النساء اللواتي يبدون من الخارج كما لو أنهنّ مجموعة من نساء يتمتعن براحة بال، ويقضين ليالي رمضان في التزيّن والتجمّل، بينما كل واحدة منهنّ تقتنص لحظةً لنفسها بعيداً عن كل مشاغلها الأخرى، وعقلها مشغول بأزماتها
ما إن خرجنا، حتى أعلنت الطفلة عن وقوعها في عشق صالونات التجميل، ووصفت بكلمات بسيطة تلك الحميمية النسوية التي شعرت بها بين العاملات والعميلات على حدّ سواء، وقد ساعدنها على اختيار اللون والتصميم، وفي الحقيقة كنّ يساعدنني أنا عبر جذب انتباهها فلا تعكر صفوي خلال إجرائي التجميلي الخاص.
هؤلاء النساء لا يقمن بذلك معي فحسب، بل مع كثيرات. على سبيل المثال، كثيراً ما تجد عميلةً تحمل طفل امرأة أخرى لا تعرفها حتى تنتهي من كيّ شعرها، أو أخرى تقوم باستفتاء حول أفضل لون شعر يليق ببشرتها وتحصل على إجابات مخلصة من هؤلاء الغريبات.
يبدو صالون التجميل للصغيرة كالحفرة التي دلفت منها أليس إلى بلاد العجائب، غير أنّ كوافير العجائب هذا تخرج منه النساء جميلات وأكثر ثقةً بأنفسهنّ وارتياحاً مع أجسادهنّ.
تلك الخبرة لم تمرّ بها ابنتي فحسب، إذ تصف الكاتبة كاميليا حسين، زيارتها الأولى لصالون التجميل في صغرها، قائلةً لرصيف22: "أول مرة فردت فيها شعري، كنا في زيارة لبعض أقاربنا. قبلها لم أكن أعرف أنّ هناك ما يُسمّى كيّ الشعر، لأنّ أمّي لم تقُم بذلك، ولا توجد في دائرتنا الصغيرة سوى نساء محجبات. كنت أظنّ أنّ ممثلات السينما والتلفاز ذوات شعر مفرود بصورة طبيعية".
وتضيف: "أدخلتني أمّي الصالون، حيث وضعن شيئاً على الكرسي ليصبح أعلى. جلست وانبهرت بالمكواة الحديدية التي تُسخَّن على النار، تلك التي لم تعد موجودةً الآن، وسُعدت للغاية لأني كنت معقّدةً من شعري، وحتى الآن أتذكر ونحن عائدتَين إلى المنزل والهواء يطيّر شعري على وجهي وأنا في غاية السعادة".
يمثّل كوافير لولا في "80 باكو"، حفرةً سحريةً تجذب النساء بعيداً عن عالمهنّ. ففيه تجد العاملة عبير (رحمة أحمد)، بعض الأمان بعيداً عن زوجها المؤذي، وترى بوسي (هدى المفتي)، نفسها ناجحةً وقويةً، تمتلك ما يميزها في صنعتها، بل قادرة على مساعدة غيرها من النساء، بينما في منزلها هي اليتيمة المستضعفة والفقيرة التي يُحصي عليها عمّها وزوجته عدد ملاعق الطعام التي تتناولها يومياً.
وتسيطر مدام لولا (انتصار)، على عالمها كقبطان سفينة متمرس، بينما تخضع للابتزاز والاستغلال من عائلتها ما إن تخطو خارج الصالون.
تضامن النساء؟
في الكثير من الأحوال، تجمع بين النساء وعاملات صالونات التجميل علاقات خاصة، تتخطى حاجز المهنية. نوع من المؤازرة والصداقة. تحكي دينا الأشرم، عن صداقة بدأت بينها وبين عاملة الكوافير التي زيّنتها يوم زفافها، فتقول لرصيف22: "كانت كوافيرة زفافي، وقالت لي عندما رأت العريس إنها غير مرتاحة إلى هذه الزيجة، وطلبت مني إيقافها، فقد امتلكت حدساً وفراسةً. بعد طلاقي، اعتدت الذهاب إليها كل فترة لإزالة الشعر الزائد من وجهي، ورويداً رويداً أصبحنا صديقتين، نزور بعضنا من وقت إلى آخر، ثم تعارفت أمّهاتنا على بعضهن البعض، وعرفت بعد ذلك أنها خريجة كلية التربية قسم إنكليزي، وقد تطلقت مثلي، ووقت زواجي كانت متزوجةً للمرة الثانية ومعها طفلة رضيعة".
تتابع: "تحوّل الكوافير إلى بيت أمان، كلما شعرت بالضيق أنزل وأجلس معها ونأكل وجباتنا معاً، وعندما تأتيها زبونة تقوم لتعمل، بينما أجلس أنا أقرأ أو أشاهد فيلماً".
يمثّل كوافير لولا في "80 باكو"، حفرةً سحريةً تجذب النساء بعيداً عن عالمهنّ. ففيه تجد عبير (رحمة أحمد)، بعض الأمان بعيداً عن زوجها المؤذي، وترى بوسي (هدى المفتي)، نفسها ناجحةً وقويةً، بينما في منزلها هي اليتيمة المستضعفة التي يُحصي عليها عمّها وزوجته عدد ملاعق الطعام التي تتناولها
وتضيف: "ساندتني في وفاة أهلي، وجراحة أذني، بينما وقفت بجانبها في مشكلاتها المختلفة سواء مع أولادها أو زوجها".
مرت إيناس كمال، بتجربة مختلفة، إنما إيجابية بالدرجة نفسها، فعندما انتقلت إلى منطقة سكنية جديدة رغبت في التعرف إلى أهل هذه المنطقة، وفي الوقت عينه تعريفهم بنغسها، طلباً للأمان خصوصاً أنها تعيش وحدها، فكان سبيلها إلى ذلك صالون التجميل الصغير بالقرب منها. تحكي لرصيف22، عن تلك التجربة قائلةً: "عندما سكنت في شارع مراد في الجيزة، رغبت في التعرف إلى أهل المنطقة، خاصةً أنها منطقة غير مألوف فيها أن تعيش بنت غريبة وحيدةً، وسبيلي إلى ذلك كان الذهاب إلى الكوافير، وعلى الرغم من أنّ شعري كيرلي ولا أقوم بكيّه، إلا أنني ذهبت لأعرف المزيد عن العمارة التي أسكنها، وبالفعل نشأت علاقة بيني وبين صاحب الكوافير وزوجته".
ولتقديم وجهة نظر عاملات صالونات التجميل، قصدت الصالون يوم الأحد في آخر أيام رمضان. ما إن دلفت حتى فوجئت بالزحام الشديد ولم أجد موطئاً لقدم، والمدام تجلس على منضدتها وتضع على ساقَيها طفلةً صغيرةً، عرفت أنها ابنة عميلة تقوم بفرد شعرها بمادة البروتين. خافت صاحبة الصالون على الصغيرة من رائحة المادة، بشكل أمومي تماماً، يتناسب مع صرامتها المغلّفة بالرقّة في تعاملها مع العميلات والعاملات على حدّ سواء.
تحمست العاملات وكانت كل واحدة منهنّ ترغب في سرد رأيها في القصة، وفي مسلسل "80 باكو"، ومدى قربه أو بعده عن الحقيقة. قالت "بطة": "المسلسل حقيقي للغاية، ومن العادي أن تصبح زبونة صديقتي، وتحكي لي الكثير من تفاصيل حياتها، وأنا أحكي لها كذلك عن حياتي".
الأمر نفسه أكّدته كلّ من سوزان ورانيا ولميس، معتبرات أنّ العلاقة تتحول مع الوقت إلى تأثير متبادل، ومشددات على جانب الواقعية في المسلسل، وأنه يعكس ما يحدث في صالونات التجميل.
أمسكت المعلمة "مديحة"، وهي إحدى العميلات، بطرف الحديث لتتحدث عن تأثير صالون التجميل النفسي عليها، والأهم عن هذا التضامن النسائي الذي تشعر به داخل الكوافير: "قبل دقائق من حضورك، كنا نتناقش مع سيدة أكبر منّا سنّاً حول أهمية أن تجمّل المرأة نفسها لنفسها، وليس للرجل في حياتها. أنا أرغب في أن أكون جميلةً أحلّي نفسي لنفسي لا لأيّ شخص آخر".
عالم صالونات التجميل
تستحضر كلّ من الكاتبة غادة عبد العال والمخرجة كوثر يونس، في "80 باكو"، صورةً واقعيةً لصالونات التجميل، تجد فيها المتفرجة نفسها بشكل أو بآخر، كتجربة مرت بها في أحد هذه الصالونات، أو قصة عابرة سمعتها عنها، ليظهر المسلسل مركزية هذا المكان كمرآة لعالم النساء الغني بكل من الحميمية والقهر معاً.
"80 باكو" ليس الأول في استخدام مركزية صالونات التجميل كمدخل لتفكيك قصص حياة النساء. نَذكر مثلاً فيلم "سكر بنات" Caramel، للمخرجة نادين لبكي، إنتاج عام 2007، وبطلاته عاملات في صالون للتجميل، لكل منهنّ قصة مختلفة، حيث تتشابك هذه القصص في عكس صورة لمعضلات عدد كبير من النساء، ويشتبك الفيلم مع أزمات كبيرة مثل العذرية التي فقدتها نسرين (ياسمين المصري)، وتخشى فضح سرّها ليلة عرسها، أو هلع جمال (جيزيل عواد)، من فقدانها شبابها وعدم تقبّلها علامات التقدم في العمر لدرجة تفقدها توازنها، أو عشق ليال (نادين لبكي)، لرجل متزوج، وفي الخلفية قصة شائكة حول الميول الجنسية لريما (جوانا مكرزل)، التي تشتهي النساء اللواتي تزيل عن أرجلهنّ الشعر الزائد، ولا تستطيع التعبير عن مشاعرها هذه سوى بالنظرات.
تستحضر كلّ من الكاتبة غادة عبد العال والمخرجة كوثر يونس، في "80 باكو"، صورةً واقعيةً لصالونات التجميل، تجد فيها المتفرجة نفسها بشكل أو بآخر، كتجربة مرت بها في أحد هذه الصالونات، أو قصة عابرة سمعتها عنها، ليظهر المسلسل مركزية هذا المكان كمرآة لعالم النساء الغني بكل من الحميمية والقهر معاً
وفي الأدب، كتبت الروائية نورا ناجي، "بنات الباشا"، التي صدرت في العام 2017، وتدور أحداثها في كوافير "الباشا" في طنطا، وفيها يكشف موت نادية المفاجئ قصص عاملات وعميلات الكوافير، وكيف تتقاطع قصصهنّ.
وعلى الرغم من كونها روايةً خياليةً، إلا أنّها تتقاطع كذلك مع حكايات ملايين النساء حول العالم، وليس من ساكنات طنطا فقط أو حتى المصريات. وتتراوح القصص بين العنف الأسري وعلاقات الحب السرّية والمثلية الجنسية وقهر الفقر الذي يُشكّل بسطوته حيواتهنّ، مثل منى المسيحية، الهاربة إلى طنطا، والتي تُخفي في قلبها ميولها الجنسية التي قد تجلب عليها الموت، وجيجي التي تحب الباشا صاحب الكوافير برغم زواجها من آخر، ونِهال مغنّية الأفراح وعاملة الجنس المهووسة بإزالة الشعر الزائد والحمامات المغربية، التي تظن لثوانٍ أنّها ستطهّرها من رائحة وملمس الرجال الذين تعاشرهنّ مكرهةً، لكن ما إن تنتهي هذه الحمامات حتى يعود إليها الشعور بالقذارة مرةً أخرى، وفلك، المرأة العجوز التي ترتدي فستان زفاف دون عريس لتحقق حلماً بزواج لم يتحقق، وياسمين السورية الهاربة من سوريا بعد 2011، والتي لا تتقن العمل في صالونات التجميل، غير أنّ الباشا يوظّفها لأنّ عاملةً سوريةً تُضفي على صالونه طابعاً أنيقاً جاذباً للعميلات.
باختصار، إنّ صالونات التجميل مكان سحري بالفعل، مغلق على النساء، الأمر الذي يتيح لهنّ تجربة التعرّي الجسدي والنفسي، فيخرجن منه متزيّنات من الخارج، وأخفّ وزناً من الداخل، أو على الأقل شاعرات بالمساندة ومشاركة التجربة نفسها مع غيرهنّ من النساء.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 17 ساعةأن تسخر التكنولوجيا من أجل الإنسان وأن نحمل اللغة العربية معنا في سفرنا نحو المستقبل هدفان...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يوملم تسميها "أعمالا عدائية" وهي كانت حربا؟
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أيامnews/2025/03/12/nx-s1-5323229/hpv-vaccine-cancer-rfk في هذا المقال بتاريخ لاحق يشدد الأطباء على...
جعفر أحمد الكردي -
منذ 3 أيامجهلك سافر يا هذا ، لو سألت أباك الذي تدعي أنه من أهل الدين والتدين لقال لك بأن شيخك المزعوم كان...
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامعلى رغم الحزن الي كلنا عمنعيشوا و الي انت كتبت عنه هون بس كثير حلو الي حكيته و اي نحن السوريين...
Souma AZZAM -
منذ 6 أيامالدروز ليسوا نموذجًا واحدًا في الاعتقاد والسلوك. اما في مستوى العقيدة، فهم لا يؤمنون بالسحر، وإن...