في كتابها بعنوان "I Feel Bad About My Neck"، قالت الكاتبة الأميركية نورا إيفرون، إن النسوية غلوريا ستاينم تساءلت عن السر الكامن وراء تجدّد شباب النساء حديثاً، والذي ربطته بالتحرّر الذي وصلن إليه، في حين ردت الكاتبة ساخرة أن السبب هو صبغة الشعر.
والحقيقة أن نورا إيفرون، إحدى نساء الموجة النسوية الثالثة التي ظهرت في بداية التسعينيات مع أوج ما سُميّ "فشل الموجة النسوية الثانية"، كانت مثل الكثيرات من بنات جيلها، يستمتعن بمكتسبات الموجتين النسويتين الأولى والثانية برحابة صدر، ولكن في ذات الوقت يسخرن من بعض مطالباتهنّ وشعارتهنّ كما لو أنها محض مبالغات.
وفي كتابها هذا وكتبها اللاحقة، تحدثت باستفاضة حول العمليات التي أسمتها "صيانة" جمال المرأة، ومنها صبغ شعرها بشكل شهري منتظم، وإلا ظن الجميع إنها تبدو مثل عجوز، لكن هل صبغة الشعر ضرورية مثلما تعتقد إيفرون؟ ولماذا لا نترك النساء بحالهنّ ونحترم خصوصيتهنّ وقراراتهنّ من دون التدخل في مظهرنّ الخارجي؟
صناعة للنساء فقط
إن صبغ الشعر بمركبات كيميائية مختلفة قديم قدم التاريخ تقريباً، سواء في الحضارة المصرية القديمة أو الحضارة السلتية، حيث تم استخدام الحناء والسنا والكركم وقشر الجوز الأسود والكراث، بينما تم اكتشاف الصبغات الاصطناعية في ستينيات القرن التاسع باستخدام تفاعل بارا-فينيلين ديامين (PPD) مع الهواء.
واشتهر يوجين شويلر، مؤسس شركة لوريال، بإنتاج أول صبغة صناعية في العام 1907، وفي منتصف القرن العشرين أطلقت الشركة الألمانية شوارزكوف أول صبغة يمكن استخدامها في المنزل.
لماذا لا نترك النساء بحالهنّ ونحترم خصوصيتهنّ وقراراتهنّ من دون التدخل في مظهرنّ الخارجي؟
صباغة الشعر اليوم هي صناعة تقدر قيمتها بمليارات الدولارت، سواء تلك التي تستخدم فيها الأصباغ المشتقة من النباتات أو الصبغات الاصطناعية أو الكيميائية، فطبقاً لدراسة أجرتها جامعة كوبنهاغن، 75% من النساء يقمن بصبغ شعرهنّ و 18% فقط من الرجال بالمقابل في سن السابعة والثلاثين، لذا فإن هذه الصناعة ترتكز بصورة أساسية على المرأة المستهلكة، والتي يجب تغذيتها بالأفكار التي تفقدها ثقتها حتى تضطر لاستخدام هذا المنتج.
يتضمن تلوين الشعر استخدام مواد كيميائية قادرة على إزالة، استبدال و/أو إخفاء الصبغات الموجودة بشكل طبيعي داخل جذع الشعر، ويمكن أن يؤدي استخدام مثل هذه المواد الكيميائية إلى مجموعة من الآثار الضارة، بما في ذلك تهيج الجلد والحساسية، تكسر الشعر، تغير لون الجلد، بالإضافة إلى نتائج لون الشعر غير المتوقعة.
ووفقاً للوكالة الدولية لأبحاث السرطان (IARC)، أظهرت الدراسات في المختبر وفي الجسم الحيّ (في المجموعات البشرية المعرضة) أن بعض صبغات الشعر والعديد من المواد الكيميائية المستخدمة في عملية صبغ الشعر يمكن اعتبارها مطفرة ومسرطنة.
نساء الخصل الفضية
هناك نساء كثيرات تمردن على صبغ خصلات شعرهنّ الأبيض، ويوجد على موقع فيسبوك مجموعة تحت اسم "خصلة فضة" للسيدات اللواتي قررن الاستمتاع بشعرهنّ الفضي بلونه الطبيعي ومراقبة تطوره بعد ذلك للشعر الأبيض، رافضات إخفائه تحت طبقات من الصبغة التي تؤذي شعرهنّ بموادها الكيميائية، ولا يمكن التحكم في لونها بصورة تامة.
وجاء في تعريف هذه المجموعة على الفيسبوك: "الحكاية ابتدت بواحدة قررت تسيب شعرها أبيض، فاخذت صورة لطيفة وحطتها على جروب فيه آلاف الستات... الحاجة الوحيدة اللي جمعتهم انهم بيحبوا شعرهم، في خلال 7 دقايق بالضبط البوست كان عليه 400 like وعشرات الـ comments كلها بناءة جداً و مشجعة... وبيزيدوا كل دقيقة… لغاية لما فات ساعة ووصل التفاعل من الناس لفوق الـ 6000 مشاركة! من هنا حست الست دي إن في ناس شبهها بتجمعها بيهم بساطة وشغف وتقدير، وحست إن ليها دور ولو بسيط أنها تفضل إيجابية وملهمة للي حواليها، و ده post بداية حكاية (خصلة فضة)".
هناك نساء كثيرات تمردن على صبغ خصلات شعرهنّ الأبيض، ويوجد على موقع فيسبوك مجموعة تحت اسم "خصلة فضة" للسيدات اللواتي قررن الاستمتاع بشعرهنّ الفضي بلونه الطبيعي ومراقبة تطوره بعد ذلك للشعر الأبيض، رافضات إخفائه تحت طبقات من الصبغة
تظهر أولئك النسوة مزهوات بشعرهنّ الفضي وقد رفض بعضهنّ كذلك استخدام المكواة الكهربائية عليه، فجاء مجعداً وصحياً ولامعاً، بدون لمسات الحضارة الغربية عليه التي فرضت على النساء على مرّ السنوات تمليس شعرهنّ وصبغه بألوان تخفي شعراته البيض "حتى يدوم شبابهنّ"، على حدّ تعبير البعض.
لكن هذا القرار الشخصي للغاية قد لا يكون سهلاً، فأغلب المنشورات على هذه المجموعة تتشابه في صيغة شبه موحدة: "منذ سنوات/ شهور قررت عدم صبغ شعري وتركه بلونه الأصلي، لكن أهلي/ أصدقائي/ زوجي يضغطون عليّ لصبغه مرة أخرى، ويقولون لي إن مظهري أصبح عجوزاً لكني أقاوم".
أصبغ شعري خوفاً من أقاربي
نادية حليم، امرأة في الخامسة والثلاثين من عمرها، بدأ الشعر الأبيض يظهر لديها وهي في السادسة عشر من عمرها، مرتبطاً بفترة المراهقة "على عكس المألوف"، لكنها حالة متكررة لدى الكثير من النساء ولا تستدعي أي علاج طبي.
غير أن نادية اعتادت على شعرها على مر السنوات، فلم يعد يشغل بالها كثيراً، خاصة وأنها محجبة، إلا عندما تقابل بعض النساء من أقاربها حيث يبدأن في التعليقات السلبية على هذه الشعيرات أو نصحها بصبغه وإلا ظهرت أكبر من عمرها، بالإضافة إلى طرح الكثير من الأسئلة الفضولية حول شعرها والسبب في ظهور الشيب في سن مبكرة.
عن هذه النقطة، قالت نادية لرصيف22: "أصبغ شعري عندما أذهب لزيارة أحد أقارب زوجي، أتجنب هذه التعليقات التي تصيبني بالضيق تجاه شعري ومظهري"، غير أن هذا الأمر يشعرها بالسوء أكثر، فهي تستسلم لهذا الضغط المجتمعي والذي يجعلها تفعل شيئاً رغماً عن إرادتها، فقط لإسكات الجميع لبعض الوقت، حتى تظهر نفس الخصلة في نفس المكان بعد شهرين على الأكثر مع نمو الشعر الجديد.
لا أكترث
على العكس من ذلك، بدأ شعر رشا توفيق في التحول للأبيض منذ السابعة والعشرين، ولم تصبغه سوى مرة واحدة وهي في التاسعة والثلاثين، وباللون الأسود أي لونه الأصلي، فهي لا تحب الصبغة لأنها تعتبر أن هذه المادة ترهق الشعر وتفسد ملمسه، بالإضافة إلى أنها تحب شعرها كما هو بخصلاته الفضية وسط الشعر الأسود، وتداخل درجاته.
كشفت رشا أن أفراد عائلتها لم يتركوها وشأنها، خاصة وأنها حالة استثنائية بين رجال ونساء أسرتها الذين لا يظهر لديهم الشعر الأبيض إلا بعد الخمسين، مشيرة إلى أنها وفي كل مرة يُطرح عليها مجموعة من الأسئلة المعتادة مثل: "لماذا لا تصبغين شعرك؟"، لكنها لا تتأثر بكلامهم، فتجيب بالإنجليزية: "I don't care"، أي أنا لا أكترث.
المرأة تقع مرة أخرى ضحية لقيم المجتمع الاستهلاكية التي تراها الحلقة الأضعف، بحيث يتم حثها على شراء/استخدام منتجات غير ضرورية لا بل مضرّة للغاية
تبعاً لكتاب "النسوية وما بعد النسوية" والمقال بداخله تحت عنوان: "عدم الرضا عن الجسم واضطرابات الأكل: عولمة مثل المظهر الغربي"، فإن هناك ارتباطاً بين الموجات النسوية ومعايير الجمال الغربية، فكلما تصعد موجة جديدة تحاول السلطة الأبوية والذكورية في المجتمع قمع هؤلاء النسوة اللواتي حصلن على قدرات أوسع عبر إشعارهنّ إنهنّ أقل جمالاً من الطبيعي، فيجب عليهنّ اللجوء إلى طرق جديدة للتجميل تكلفهن وقتاً ومالاً وتعرقل تقدمهنّ في مجالات الحياة المختلفة.
وشكّل صبغ الشعر الذي انتشر مع الموجة النسوية الثانية وأصبح شائعاً، أحد أساليب هذه العرقلة، فالمرأة تقع مرة أخرى ضحية لقيم المجتمع الاستهلاكية التي تراها الحلقة الأضعف، بحيث يتم حثها على شراء/استخدام منتجات غير ضرورية لا بل مضرّة للغاية، وذلك بغية أن تتوافق فقط مع مثل وقوالب الجمال الغربية السائدة التي تكبلها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...