الذاكرة ليست ملكاً لنا وحدنا. ليست صندوقاً مغلقاً نخزّن فيه لحظاتنا الخاصة، بل هي جزء من نسيج عام، من تاريخ يفرض نفسه علينا جميعاً. كنت أظنّ أنّ ذكرياتي تخصّني وحدي، لكنها لم تكن كذلك، لأنّ كل سوري حمل معه ذاكرةً تشبه غيرها، كأننا نعيش حياةً واحدةً بأسماء مختلفة. كأنّ الرعب الذي رأيته في عيون أهلي وأصدقائي كان نسخةً مكررةً من الرعب في كل مدينة وقرية. كأنّ الحرب نسجت حولنا قفصاً من الذكريات المتشابهة، لم ينجُ منه أحد.
رأيتُ الدبابات تدخل مدينتي. رأيتُ القذائف تمزّق الشوارع التي كنتُ ألعب فيها وأنا صغيرة. رأيتُ الناس يهرولون بحثاً عن مأوى، وأدركتُ حينها أنّ العالم الذي عرفته قد انتهى.
لم يعد هناك شارع آمن. لم تعد هناك نافذة لا تخاف الاقتحام. لم يعد هناك سقف يضمن لك النجاة. حتى اليوم، الخوف أصبح يسكن كل زاوية. ما زالت شظية بحجم الكف محفوظةً في منزل قريبتي، كتذكار صامت عمّا شهدنا، وعما خسرنا.
"رأيتُ الدبابات تدخل مدينتي. رأيتُ القذائف تمزّق الشوارع التي كنتُ ألعب فيها وأنا صغيرة. رأيتُ الناس يهرولون بحثاً عن مأوى، وأدركتُ حينها أنّ العالم الذي عرفته قد انتهى"
شهدتُ قمع المظاهرات بوحشية لا ترحم، وكيف كانت أصوات المتظاهرين تُخنق بالرصاص الحيّ أو تُسكت بالماء والغاز المسيّل للدموع، وكيف كان النظام مستعدّاً لإطفاء أي صوت يطالب بالحرية، ولو ببحر من الدم. لم تكن الحرية خياراً لنا، بل كانت جريمةً لا تُغتفر في عرف الديكتاتوريات. حتى الموسيقى لم تكن تُسمع بأمان. كنا نخشى أن نرفع صوت "يا حيف". أن تصل كلماتها إلى أذن خطأ. أن يكون بيننا من ينقلها إلى الأفرع الأمنية، فتتحول الأغنية إلى لعنة، وصوت المغنّي إلى شاهد علينا في التحقيق. كنا نضعها بصوت خفيض، ونخفض الصوت أكثر كلما مرّ أحد بالقرب منّا، كأنها اعتراف خطير، كأنها جريمة تستحقّ السجن أو ربما الموت.
وفي عام 2015، وجدت نفسي أمام خيارين لا ثالث لهما: إما أن أبقى تحت القصف، وأنتظر الموت القادم مع كل غارة، أو أن أهرب، أن أترك خلفي كل شيء؛ منزلنا، ذكريات طفولتي، كل شيء حمل اسم "وطني"، وأمضي إلى مدينة أخرى لا أعرفها، غريبة عني كما أصبحتُ غريبةً عنها. التهجير لم يكن مجرد تغيير مكان، بل كان اقتلاعاً قاسياً من الجذور، وتشريداً قسرياً، وحكماً بالنفي دون محاكمة.
وحتى بعد النجاة من القصف، لم أنجُ من التنكيل، فقط لأنني "إدلبية". وجدت نفسي في موضع شك، موضع ازدراء من قبل بعض الطائفيين الذين رأوا في مكان ولادتي هويّةً سياسيةً تضعني تلقائياً في خانة الأعداء. لم يكن يكفي أن أكون سوريةً. كان يجب أن أكون سوريةً من المكان "الصحيح"، من الطائفة "الصحيحة"، ومن الطرف الذي لا يُنظر إليه على أنه تهديد. هذه الحرب لم تقتلنا بالقنابل فحسب، بل قتلتنا بالتصنيفات والفرز الطائفي والطبقي والمناطقي.
لكن الحرب لا تكتفي بسلب المنازل والطرقات، بل تسلبك أصدقاءك أيضاً. كنّا ثماني فتيات. جمعتنا الصداقة في طفولتنا وصبانا. تشاركنا الأسرار، الضحكات، وحتى الأحلام الصغيرة التي كنا نظنّها سترافقنا إلى الأبد. لكن الأبد في سوريا لا وجود له، فكل شيء مؤقت، حتى العلاقات التي نظنّها راسخةً. اليوم، نحن ثماني فتيات، ولكن كل واحدة في بقعة مختلفة من العالم: واحدة في الصين، وثانية في السويد، وثالثة في هولندا، ورابعة في تركيا، وأخيرة لا تزال في سوريا لكنها في مدينة أخرى بعيدة عني. أما الباقيات فلقين حتفهنّ في الحرب، وكنّ ضحايا للشظايا المتطايرة. حاولنا الحفاظ على صداقتنا، على رابطنا الذي تحدّى الحدود والمسافات، لكن البعد أقوى من محاولاتنا كلها. ولم أكن وحدي. كل سوري لديه قصة مشابهة، عن صديق رحل ولم يعد، عن شلة تفرّقت إلى الأبد، وعن حنين إلى علاقات كان يمكن أن تستمرّ لولا أنّ الحرب قررت أن تنهيها قبل أوانها.
وكأنّ ذلك لم يكن كافياً! وجدت نفسي أيضاً ضحية الشتات العائلي. إخوتي هاجروا عبر البحر، بحثاً عن حياة جديدة، وتركوا وراءهم أمّاً تبكي، وأختاً محرومةً من رؤية وجوههم لأكثر من عشر سنوات. أخي تزوج هناك، وأنجب طفلاً، واليوم ابنه يبلغ من العمر ثلاث سنوات، لكنني لا أعرفه، لم أسمع صوته إلا عبر شاشة باردة لا تنقل الدفء، ولا تعوّض العناق. أصبحت الأسر السورية موزعةً بين القارات، كل فرد منّا يعيش في بلد مختلف، يحمل وطناً في ذاكرته فقط، دون أن يكون قادراً على لمسه أو العودة إليه.
أما عن الكتابة، فقد كانت حلماً وأصبحت خطراً. في "سوريا الأسد"، الكلمة الحرّة تذكرة إلى السجن، وربما إلى القبر. رأينا كيف انتهى مصير من تجرّأ على التعبير، وكيف قضى كثيرون في زنازين الظلم، فقط لأنهم قالوا الحقيقة. كانت طل الملوحي، مثالاً واحداً من بين آلاف؛ فتاة في ربيع عمرها لم تفعل شيئاً سوى الكتابة، فكان العقاب بحجم فظاعة النظام.
"لم يعد هناك شخص واحد لم يتذوق مرارة الفقد، لم يسمع صفير الرصاص، ولم يختبر الخوف الذي يتسلل إلى العظام ويستوطن فيها. وصلنا إلى حدّ الهلاك، وأصبح مطلبنا الوحيد هو السلام، مجرد السلام"
حتى أنّ سوريا لم تكن دولةً واحدةً، وإنّما دول داخل دولة. السفر بين مدنها أشبه برحلة في كابوس، حيث عليك أن تمرّ عبر عشرات الحواجز والرايات المختلفة. هنا النظام، هناك المعارضة، في الشمال هيئة تحرير الشام، في الشرق "قسد"، وفي الظلال يتربّص "داعش". بين هذه الفصائل، تنتشر نقاط روسية وتركية، خطوط تقسيم غير مرئية لكنها قاتلة. أصبحت بلادنا أشبه بلوحة ممزقة، أجزاؤها متناثرة، وناسها ضائعون بين الجبهات والحدود.
عانى الشعب السوري من الحرب بأشكال لا تُحصى. كل واحد منّا له جرحه الخاص، وطريقته الخاصة في حمل آثار الحرب على جسده أو في روحه. لم يعد هناك شخص واحد لم يتذوق مرارة الفقد، لم يسمع صفير الرصاص، ولم يختبر الخوف الذي يتسلل إلى العظام ويستوطن فيها. وصلنا إلى حدّ الهلاك، وأصبح مطلبنا الوحيد هو السلام، مجرد السلام.
وفي آذار/ مارس 2025، عادت المجازر، وكأنّ الدم السوري كُتب عليه ألا يجفّ. في الساحل، استيقظت القرى عند الفجر، لكنه لم يكن فجراً عادياً، بل كان ملوّثاً بالصراخ، برائحة الجثث المحترقة، وبأصوات الرصاص الذي لم يهدأ حتى ابتلع البيوت وسكانها. لم يكن هناك تمييز بين مقاتل ومدني، بين شيخ وطفل؛ كان الثأر أعمى، والانتقام وحشياً. وثّقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان "SNHR"، مقتل ما لا يقلّ عن 803 أشخاص، بين 6 و10 آذار/ مارس 2025، بينهم 39 طفلاً و49 امرأةً. كما أفادت منظمة العفو الدولية، بأنّ المرصد السوري لحقوق الإنسان ذكر أنّ ما يزيد على 973 مدنياً، معظمهم من العلويين، قد قُتلوا بحلول 10 آذار/ مارس الجاري.
كفانا دماً، لأنّ الثأر لا يولّد إلا ثأراً آخر، ولأنّ الحقد لا يبني الأوطان، بل يهدمها أكثر.
نحن نعلم من بدأ هذه الحرب. فلول النظام البائد، الذين اختاروا العنف وسيلةً للقضاء على كل صوت يطالب بالحرية. لكن هذا لا يعني أن نعاقب مدناً بأكملها، وأن نعمم الطائفية، فلا نفرّق بين شيخ وطفل، بين من قاتل ومن لم تكن له يد في شيء. لا يمكن أن نكرر جرائم النظام، ونرتدي قناعه. لا يمكن أن ندور في حلقة الانتقام نفسها، وننتظر نتيجةً مختلفةً.
وقفنا مذهولين، ومرهقين. لم نعد نملك حتى القدرة على الصراخ. كنا نعلم أنّ الدماء التي تُراق اليوم ستجرّ دماءً أخرى غداً، وأنّ الثأر لا يخلق عدالةً، بل يخلق جرحاً آخر، وضحيةً جديدةً، وحلقةً جديدةً في مسلسل لا ينتهي.
لو عاد بنا التاريخ، لرأينا كيف انتهت قصص الحروب والثأر؛ هتلر أحرق اليهود ومات، وانتهت النازية.
ألمانيا اليوم ليست غارقةً في دماء الانتقام. لو أنّ اليهود قرروا أن يثأروا من الألمان وفق المنطق نفسه، لكانت شوارع أوروبا حتى اليوم مغطاةً بالدماء.
الثأر دائرة لا تنتهي، بل لعنة تورّث من جيل إلى جيل، وإن لم نكسرها ستبقى إرثاً للأجيال القادمة.
وسط هذا الدمار كله، نحن السوريين المنهكين لم نردد إلا عبارة واحدة: "كفانا دماً في سوريا"... كما قال البطريرك يوحنا العاشر في دمشق، وكما قال كل أبّ ثكل ابنه، وكما قالت كل أمّ رأت جسد طفلها هامداً بين يديها.
كفانا دماً، لأنّ الثأر لا يولّد إلا ثأراً آخر، ولأنّ الحقد لا يبني الأوطان، بل يهدمها أكثر.
سوريا لن تعود إلى أمنها وأمانها إلا بالوعي، وإلا بإدراك أنّ الحرب لا تصنع الأوطان، وأنّ السلام وحده يعيدنا إلى إنسانيتنا. الوعي بأنّ لا أحد يربح في حرب خسر فيها الجميع، وبأنّ الكراهية لن تبني لنا مستقبلاً، بل ستجرّنا إلى حروب جديدة لن تنتهي.
كفانا دماً… لأنّ سوريا تحتاج إلى الحياة أكثر من حاجتها إلى الثأر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومnews/2025/03/12/nx-s1-5323229/hpv-vaccine-cancer-rfk في هذا المقال بتاريخ لاحق يشدد الأطباء على...
جعفر أحمد الكردي -
منذ يومجهلك سافر يا هذا ، لو سألت أباك الذي تدعي أنه من أهل الدين والتدين لقال لك بأن شيخك المزعوم كان...
مستخدم مجهول -
منذ يومينعلى رغم الحزن الي كلنا عمنعيشوا و الي انت كتبت عنه هون بس كثير حلو الي حكيته و اي نحن السوريين...
Souma AZZAM -
منذ 4 أيامالدروز ليسوا نموذجًا واحدًا في الاعتقاد والسلوك. اما في مستوى العقيدة، فهم لا يؤمنون بالسحر، وإن...
محمد دراجي -
منذ 6 أيامأخي الفاضل قبل نشر مقالة عليك بالتحقق خاصة في علم الأنساب والعروش والقبائل فتسمية بني هجرس ولدت...
م.هيثم عادل رشدي -
منذ أسبوعمقال رائع وضع النقاط على الحروف فالحقيقة أن النزاعات جعلت أبناء شعوبنا متشردين ولاجئين ومهاجرين...