شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
عام من الإبادة وأعوام من الحصار… كيف سيتعافى اقتصاد غزة؟

عام من الإبادة وأعوام من الحصار… كيف سيتعافى اقتصاد غزة؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة نحن والحقيقة

الجمعة 14 فبراير 202502:26 م

لم تغب ملامح الدهشة عن وجه يوسف الهسي (38 عاماً) طيلة تجواله في سوق "الضهرة"، غرب مدينة خانيونس جنوب قطاع غزة. فأسعار السلع التي أرهقت كاهله، كسائر الغزيين خلال الحرب، انخفض معظمها بشكل لافت، منذ الإعلان عن وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحركة حماس.

ورغم أن أسعار المتوفّر من البضائع لم يصل إلى مستوى ما كان عليه قبيل اندلاع حرب الإبادة، إلا أن الهسي اعتبره إنجازاً، بعد معاناته من الاستغلال والاحتكار الذي أنهك طاقته المادية، كما يقول لرصيف22.

لكن واقع الحال يشير إلى أنّ الغلاء الفاحش الذي ألهب جيوب الغزيين على مدار 15 شهراً، لم يقتصر على السلع الأساسية، إذ انسحب على مجمل مناحي الحياة التي قست عليهم منذ بداية الحصار قبل أكثر من 18 عاماً.

وعلى الرغم من أن الهسي كان قد خسر مصنعه لإنتاج طوب البناء، ما دفعه للعمل خلال الحرب في بيع الحلويات، إلا أنه يرى أن انتهاء الحرب قد تكون بداية الأمل في إعادة إعمار مدينته ومصنعه.

فماذا يعني هذا الأمل إن تُرجم إلى أرقام مالية وزمنية حتى تعود غزة إلى ما كانت عليه، وتجبر الأضرار التي تسببها الدمار المهيب على المكان والإنسان؟ سيّما وأن تقريراً لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، ولجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا)، أشار إلى أن مؤشر التنمية البشرية لغزة انخفض إلى 0.408، وهو المستوى المقدّر لعام 1955، الأمر الذي يمحو أكثر من 69 عاماً من التقدم التنموي.

وعلى الرغم من أن هذه التقارير قد تعتمد على حسابات غير دقيقة تماماً، إلا أنه مما لا شك فيه قطاع غزة يواجه تحديات اقتصادية لا يمكن حصرها بسهولة، ولا يمكنه أن ينتشل نفسه وحده من هذه الكارثة.

كيف تراجع اقتصاد غزة؟

تسببت حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة في وصول مستويات الفقر بالقطاع إلى نسبة 100%، بحسب تقرير صادر عن البنك الدولي في أيلول/ سبتمبر 2024، فيما أعلن الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني في مطلع كانون الأول/ ديسمبر 2024، أنه بعد مضي 13 شهراً من حرب الإبادة، ارتفع مؤشر غلاء المعيشة بنسبة 490%.

لكن مع وقف إطلاق النار، وبحسب تقرير نُشر في 13 شباط/ فبراير 2025، تراجع مؤشر أسعار المستهلك في قطاع غزة، ليسجّل انخفاضاً مقداره 53.27% خلال شهر كانون الثاني/ يناير 2025، مقارنة بشهر كانون الأول/ ديسمبر 2024.

القوة الشرائية للشيكل عادت جزئياً، منذ سريان وقف إطلاق النار، بعد أن انخفضت بشكل شبه مطلق

وقدّر التقرير السنوي للجهاز لعام 2024، استمرار الانكماش الحاد غير المسبوق في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تجاوزت 82%، مع ارتفاع معدل البطالة إلى 80%، وقد طالت هذه النسبة حتى القطاعات التي ازدهرت قبل الحرب.

"فقدت مهنتي في تجارة مواد البناء. لقد ازدهرت هذه التجارة قبل الحرب بصورة كبيرة، والآن أعدّ عاطلاً عن العمل"، يقول الشاب رامي المصري (23 عاماً) لرصيف22.

لكن الباحث والخبير في الشأن الاقتصادي محمد أبو عليان، يرى في حديثه لرصيف22، أن معدليّ الانكماش والتضخم سينخفضان بشكل تدريجي، مع استمرار وقف إطلاق النار وعودة الحياة تدريجياً ولو بصورة جزئية.

وكذلك أستاذ الاقتصاد في الجامعات الفلسطينية محمد بربخ، الذي يقول في حديث لرصيف22، إن "القوة الشرائية للشيكل عادت جزئياً، منذ سريان وقف إطلاق النار، بعد أن انخفضت بشكل شبه مطلق".

ويضيف بربخ: "كان الشخص العادي في حرب الإبادة، يحتاج عشرات الأضعاف من النقود من أجل توفير أقل احتياجاته الأساسية، فإنه يستطيع اليوم، بما قيمته شيكل واحد، توفير ما ثمنه 8 شواكل في الحرب بالمتوسط".

وبحسب تقرير الجهاز المركزي، الذي ذكر أنه، وخلال العام الماضي، تراجعت معظم الأنشطة الاقتصادية في قطاع غزة مقارنة بما قبله، حيث سجّل نشاط الإنشاءات أعلى تراجع وصلت نسبته 98%، لتبلغ قيمته 332 مليون دولار أمريكي، تلاه نشاط الصناعة، الذي تراجع بنسبة 90% ليصل إلى 1,038 مليون دولار أمريكي، أما نشاط الزراعة، فتراجع بنسبة 91% وبقيمة وصلت إلى 564 مليون دولار أمريكي.

وأفادت منظمة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد)، أن الناتج المحلي الإجمالي لغزة انخفض بنسبة 81% في الربع الأخير من عام 2023، ما أدى إلى انكماش بنسبة 22% للعام بأكمله، وبحلول منتصف عام 2024، انكمش اقتصاد غزة إلى أقل من سدس مستواه في عام 2022.

ماذا خسرت غزة؟

ويقدّر المكتب الإعلامي الحكومي، في بيانه الصادر نهاية كانون الثاني/ يناير الماضي، قيمة الخسائر الأولية المباشرة للحرب بأكثر من 38 مليار دولار أمريكي.

من جانبه، يبيَّن مدير عام المكتب في غزة إسماعيل الثوابتة، في تصريح لرصيف22، أن "الخسائر الأولية المباشرة تركزت في 15 قطاعاً حيوياً؛ شملت القطاع الحكومي والصحي والتعليمي والإسكاني والديني والصناعي والتجاري والزراعي، إضافة إلى القطاع الإعلامي والمنزلي والكهرباء والاتصالات والنقل والمواصلات والترفيهي والفندقي فضلاً عن قطاع الخدمات والبلديات".

ويذكر الثوابتة أن القطاع الصحي تكبد خسائر بقيمة أولية تقدر بنحو 660 مليون دولار، فيما شملت خسائر القطاع التعليمي 1,900 مليار دولار، بينما لحقت بالقطاع الإسكاني خسائر مبدئية قدرت بنحو 19 مليار دولار.

ويشير إلى أن قيمة الخسائر في القطاع الديني قدرت بنحو 370 مليون دولار، في حين وصلت في القطاع الصناعي إلى نحو 1,350 مليار دولار.

كذلك، لم يسلم القطاع التجاري، فوصلت خسائره إلى قرابة 1,800 مليار دولار، بينما وصلت في القطاع الحكومي إلى نحو مليار دولار كتقدير أولي، أما الخسائر التي لحقت بالقطاع الزراعي فقدرت بنحو 1,100 مليار دولار، فيما كانت الخسائر في القطاع الإعلامي نحو 600 مليون دولار، وفي قطاع الكهرباء قدرت بنحو 450 مليون دولار، ووصلت في قطاع الاتصالات والإنترنت إلى نحو 1,600 مليار دولار.

يذكر الثوابتة أن القطاع الصحي تكبد خسائر بقيمة أولية تقدر بنحو 660 مليون دولار، فيما شملت خسائر القطاع التعليمي 1,900 مليار دولار، بينما لحقت بالقطاع الإسكاني خسائر مبدئية قدرت بنحو 19 مليار دولار

وإلى جانب 1,300 مليار دولار كقيمة الخسائر الأولية التي تكبدها قطاع النقل والمواصلات، فإن التقديرات كذلك في قطاع الخدمات والبلدات وصل إلى نحو 3,200 مليار دولار.

وشدّد الثوابتة على أن هذه الأرقام تقديرية وأولية وغير نهائية للخسائر المباشرة، ولا تشمل الخسائر غير المباشرة، إذ "لا يمكن إعطاء تقدير كامل لهذه الخسائر في هذه المرحلة، لأن فرق الإحصاء والحصر لم تنته بعد من عملياتها"، يؤكد.

خطط التعافي

"إن هذه التقارير السابقة لا تعبّر سوى عن جزء من الكارثة، لأن اقتصاد القطاع دُمّر بشكل كامل تقريباً، وبحاجة ماسة لتدخّل عاجل"، يقول أبو عليان.

ويعزو سبب الانخفاض اللافت في أسعار السلع والبضائع، إلى تخوف بعض التجار المحتكرين من تدفّق المساعدات عبر معابر القطاع، "ولذلك ضخّوا ما لديهم من بضائع في الأسواق، بالإضافة إلى زيادة أعداد الشاحنات التجارية التي تعبر القطاع منذ بدء سريان وقف إطلاق النار"، يضيف.

ويقرّ المختص في الاقتصاد الفلسطيني، أن دور السلطات الرقابية وجهاز حماية المستهلك التابع لوزارة الاقتصاد، وأجهزة وزارة الداخلية التابعة لحكومة حماس، كان مُغيّباً خلال فترة الحرب، بسبب استهداف إسرائيل المتكرّر لطواقمهم، مؤكداً أن دورهم الآن منوط بضبط الأسعار خلال الفترة القادمة، ومحاربة الاحتكار والاعتداء على حقوق الغير، بما فيها احتكار السيولة النقدية وتعطيل تداول التعامل بفئة العشرة شواكل.

ويردف أبو عليان: "اقتصاد القطاع المُنهك سيعتمد على تهيئة الأوضاع السياسية اللازمة لإعادة الإعمار، وترتيبات اللجنة الإدارية التي ستحكم غزة، ومدى قدرتها على إعادة ترتيب الوضع الاقتصادي، إلى جانب الجهود الدولية الإغاثية والطارئة الرامية لإعادة إنعاش الاقتصاد".

وما يلزم القطاع لخطة التعافي، بحسب أبو عليان، هو تشكيل إدارة اقتصادية مهنية على صعيد المستوى الحكومي والخاص، والتنسيق والتكامل بين مختلف الجهات، والعمل على الإغاثة العاجلة وإعادة بثّ الحياة في القطاع الصحي والتعليمي والبرامج والمشاريع الصغيرة.

ويتفق بربخ مع هذه الرؤية، حين أشار إلى ضرورة وضع خطة شاملة للنهوض بالاقتصاد الغزّي، بما فيها تبني خطة لإعادة الإعمار، "من شأن هذا أن يحقق نمواً وازدياداً في الطلب الكلي، كما سوف تزداد فرص التشغيل، وخاصة في المهن المتعلقة بإزالة الركام وإعادة الإعمار".

الاستفادة من الركام

استفاق الغزيون بعد 471 يوماً من الحرب الطاحنة، على كمية ركام مهولة مكوّمة في شوارع القطاع ومدنه ومخيماته، لحدّ ذكرت عنده الأمم المتحدة أن الحرب الإسرائيلية خلّفت أكثر من 50 مليون طن من الركام، قد تستغرق إزالته 21 عاماً بتكلفة 1.2 مليار دولار، وأن 70% من المنازل والمنشآت دمّرتها إسرائيل في حربها الوحشية، فيما أشار المكتب الإعلامي الحكومي أن نسبة الدمار في القطاع وصلت إلى 88%.

اقتصاد القطاع المُنهك سيعتمد على تهيئة الأوضاع السياسية اللازمة لإعادة الإعمار، وترتيبات اللجنة الإدارية التي ستحكم غزة، ومدى قدرتها على إعادة ترتيب الوضع الاقتصادي، إلى جانب الجهود الدولية الإغاثية والطارئة الرامية لإعادة إنعاش الاقتصاد

ويمثل هذا القدر من الركام مشكلة مركبة، ذات أبعاد متنوعة على المستوى البيئي والاقتصادي والاجتماعي، لكن بربخ أشار إلى إمكانية الاستفادة منه وجعله مشروعاً استثمارياً نفعياً، عبر خلق فرص عمل جديدة، "أو ما يعرف بمجال جديد للعمل، في إزالة الركام وإعادة التدوير واستخدامه في صناعة الحجارة والخرسانة المستخدمة في البنى التحتية، وتعبيد الطرق وتدعيم المناطق الساحلية المتآكلة وتأهيل الموانئ"، بحسب تعبيره.

وهو يشدّد في الوقت ذاته على ضرورة أخذ رأي المتخصّصين من المهندسين في مجال الإنشاءات بهذا الخصوص.

مجالات وسنوات النهوض

ويستعرض بربخ مجالات النهوض بالاقتصاد الغزي، متمثّلاً في البناء والبنى التحتية ومشاريع تمديد شبكات المياه والكهرباء والصرف الصحي، عبر استيعاب أكبر قدر ممكن من الطواقم الفنية في البلديات، فضلاً عن المشاريع الصغرى والمتوسطة، القائمة على الإبداع الإنتاجي، والمدعومة من قبل الجهات المانحة.

كما يبيّن أهمية توفير دعم مالي متكامل من جميع المانحين والمتعهدين الدوليين بدعم خطة إعادة الإعمار والبناء، وإيفاء الملتزمين بدعم موازنة السلطة الفلسطينية.

ويشدّد على "ضرورة رفع القيود الإسرائيلية على أموال المقاصّة وعدم تعرّضها للقرصنة الإسرائيلية، وإيلاء مزيد من الحرية لحركة التجارة على المعابر، وعدم تقييدها بدواع أمنية واهية"، بحسب تعبيره.

وإلى جانب جذب الاستثمارات الفلسطينية في الخارج للعودة والعمل في قطاع غزة، يحثّ بربخ الجهات الإدارية في قطاع غزة على تشجيع رأس المال العربي للاستثمار في الاقتصاد الغزي.

كما يطالب بضرورة تفعيل الاتفاقية العربية بخصوص التجارة والترانزيت بما يشمل أراضي السلطة الفلسطينية، وإعادة بناء المدينة الصناعية المدمّرة والمصانع المتضرّرة، وتشغيل المدن الأخرى التي خُصّصت لتنفيذها.

وخلافاً لما ذكرته بعض التقارير الدولية التي تحدثت عن قرون من الزمن تجاوزت 300 سنة وأكثر لتعافي القطاع، فإن الخبير الفلسطيني يتوقع أن التعافي سيحتاج إلى 5 سنوات أولى للإنعاش المبدئي، تتركز على دعم المرافق والبنى التحتية وتوفير الإيواء السريع، تعقبها 10 سنوات أخرى تركز على الاستقرار الشامل في الإيواء، ثم تليها 5 سنوات أخرى للإنعاش الكامل.

لكن مبعث هذه الخريطة الزمنية "مرهون بمدى صدقية النوايا من المجتمع الدولي بإعادة الإعمار والبناء، وتوفير الدعم اللازم وضمان حرية المعابر وإدخال السلع والبضائع والمواد اللازمة للتعمير والإنشاء"، يؤكد بربخ.

ويوضح أنه بالإمكان توفير فرص عمل حالية مؤقتة ضمن مشاريع المساكن المتنقلة (الكراڤانات) وما يلزمها من ملحقات، والعمل على العودة التدريجية في الاستثمار مجدّداً، وإعادة إحياء المجال التكنولوجي والاتصالات والطاقات البديلة، والمشاريع الزراعية وما يتعلق بالثروة الحيوانية وتربية الدواجن، مضيفاً أن الاقتصاد الغزي بحاجة ماسّة أيضاً إلى المشاريع الطبية وأجهزتها التقنية، مثل التصوير والمختبرات الفنية.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ألم يحن الوقت لتأديب الخدائع الكبرى؟

لا مكان للكلل أو الملل في رصيف22، إذ لا نتوانى البتّة في إسقاط القناع عن الأقاويل التّي يروّج لها أهل السّلطة وأنصارهم. معاً، يمكننا دحض الأكاذيب من دون خشية وخلق مجتمعٍ يتطلّع إلى الشفافيّة والوضوح كركيزةٍ لمبادئه وأفكاره. 

Website by WhiteBeard
Popup Image