موسم درامي خصب في رمضان 2025. صحيحٌ أنه كثير الضجيج والصراخ ليضمن محورية الحديث كما في كل عام، لكن هذا ما يراه أصحاب الأموال الذين يراهنون كل عام عليه، أكثر من أي شيء، على الأقل درامياً. هذا العام شهد عروضاً جريئةً جدّاً، في سوريا الجديدة، بعد سقوط نظام بشار الأسد. كما شهد تحرراً استثنائياً في العروض السعودية وهو ما يُحسَب لها بالطبع. راهنت الدراما المصرية على مواضيع غالبيتها تعتمد على نجاحات سابقة. هنا والآن سنلقي نظرةً بانوراميةً سريعة على أغلب أعمال الموسم، قبل أن نتوقف قليلاً أمام العمل الأكثر استثنائيةً وتكاملاً: مسلسل "الشرنقة".

نظرة واسعة على هذا الموسم الذي عُرض فيه مسلسل "معاوية"، بالرغم من تحريم مؤسسة الأزهر رؤيته تماماً، بسبب تجسيده الصحابة، وإعلان الشيعة استياءهم من خطابه، بل منع وجوده في إيران عموماً والضجة االتي أثارها في العراق.
الحقيقة أنّ "mbc" كانت لديها جرأة نسبية في عرض أكثر من عمل جريء هذا العام وليس فقط "معاوية"؛ لدينا "أم أربعة وأربعين"، المسلسل النسوي الآخر الذي يحكي قصص حميمية وصالحة للمشاركة عن نساء عربيات. النساء حاضرات في جميع المشاهد، بدايةً من التتر الذي تُمتدح فيه "أبلة فاهيتا" من كلمات منّة عدلي القيعي، التي باتت بصمةً مميزةً لعدد غير قليل من أغاني الأفلام والأغاني. وأيضاً مسلسل "شارع الأعشى" المأخوذ عن الرواية السعودية التي تحكي قصة نساء سعوديات في سبعينيات القرن الماضي وما بعدها، والتي تنقل أدب السعودية الجريء بدرية البشر، إلى الشاشة في لحظة مثالية.
هذا العام شهد عروضاً جريئةً جدّاً، في سوريا الجديدة، بعد سقوط نظام الأسد. كما شهد تحرراً استثنائياً في العروض السعودية، وراهنت الدراما المصرية على مواضيع غالبيتها تعتمد على نجاحات سابقة
تنفّست سوريا الجديدة بصناعة أعمال أكثر ثوريةً في "تحت سابع أرض"، الذي يقدّم قصة شرطي فاسد في مدينة مسحوقة: سوريا؛ عالم خطر ووقح وانتهازي. ومسلسل "ليالي روكسي" الذي يقدّم قصة صناعة أول فيلم سينمائي سوري وقت الاحتلال الفرنسي في العشرينيات. يحكي بجرأة عن اللحظة بمجاز لا تعكّره سوى بطلته سولافة فواخرجي، التي كانت سفيرة النظام السفاح لكنها تتلوّن اليوم لركوب الموجة. والمسلسل الأكثر حميميةً وتجرّداً: مسلسل "نسمات أيلول". لا يجمع كل ذلك هنا سوى الأمل المبالغ فيه في مسارات القصص التي لا يمكن تجاهل مجازها السياسي. رغبة جماعية في صناعة عالم جديد يتخلّص من الظلم القديم والحكايات المتخاذلة في حق الوطن حتى مجازياً.

أما مصر، فكانت الأوفر مساحةً كالعادة؛ أعادت الرهان على عدد من الأعمال التي نجحت جماهيرياً نوعاً ما في المواسم الرمضانية السابقة: "المداح" الذي قال منتجه: "كان القرار بالتوقف عن إنتاجه بعد أربعة مواسم، مع النجاح الكبير قررنا صناعة جزء آخر هذا الموسم"، و"كامل العدد" الذي بات يؤسس لنوع جديد يتعلق الجمهور بأبطاله على مواقع التواصل أكثر من المعهود، فلقد حقق المسلسل نجوميةً بنجوم جدد لم يكونوا يتوقعونها هم أنفسهم، و"جودر" الذي استمر في اقتباس ألف ليلة وليلة بإبهار بصري ذكي ومثالي.
فقد "أشغال شقة" البريق الذي حصل عليه بعمل حلقات مكررة، واتهم عدداً من الجمهور بالرجعية والعنصرية واضطرت لاعتذار بطل العمل. بينما استمر "العتاولة"، في كاريكاتورية البلطجة بتضخيمها وفردها بهدف الإضحاك. وهو المسار نفسه الذي قرر صنّاع "سيد الناس"، "فهد البطل"، سلكه بالبهرجة ذاتها. وهو ذاته الذي قرر صنّاع مسلسل "ولاد الشمس"، المشي فيه لكن بشكل فنّي أكثر حميميةً وذكاءً حول قصة أبناء الملاجئ، وكيف تضطرهم الظروف إلى جريمة لا يريدونها في داخلهم؛ مسلسل جيد راهن على النجاح بتمثيل أبطال صغار.
أبعد من ذلك، دون تجريح، بُثّ مسلسل "إش إش"، الذي يمكن أن يمنحه القارئ حلقةً واحدةً للتأكد من تدنّي عناصره الفنية والفكرية.
من جهة أخرى خرجت أعمال نسائية مصرية تستحق الاحتفاء: "إخواتي"، الذي يقدّم قصة أربع أخوات يواجهن الحياة، نرى في قلبه تفاصيل نسائيةً تماماً كالتي نراها في "أمّ 44" السعودي الذي يبدو العمل العربي "pan arab" الأفضل. ومسلسل "80 باكو" الذي يقدّم قصة الكوافيرة التي تسعى إلى جمع 80 باكو، من أجل زواجها واستقلالها في بيت يخصّها مع حبيبها. يمكن اعتبار هذا المسلسل حدوتة حميمية كتبتها "غادة عبد العال" التي كتبت "عايزة أتجوز" في ما قبل، فعادت بشكل جيد هذه المرة بعد "البحث عن علا"، و"جروب الماميز"، المتواضعين فنياً. فهنا نشهد كتابة جيدة بالرغم من إخراج كوثر يونس الذي يفقد إيقاعه في أحيان كثيرة.

ربما علينا تجاوز الوقوف أمام "الكابتن" الذي يحافظ من خلال بطله أكرم حسني، على التواجد في الصورة في منطقة آمنة غير لافتة تماماً أو مزعجة حتى؛ منطقة برزخية مملّة نوعاً ما لكنها ليست مدعاةً للاستياء. لدينا عدد قليل من الأعمال المنتظرة في النصف الثاني من الشهر، "نص الشعب اسمه محمد"، و"منتهي الصلاحية"، و"لام شمسية".
أبعد من كل ذلك، ثمة عملان يمكن الوقوف أمامهما بشيء من التفصيل والرغبة في التفكيك أكثر: "قلبي ومفتاحه"، المذهل كعادة صنّاعه تامر محسن ومها الوزير، اللذين قدّما قبل سنوات قليلة "لعبة نيوتن"، كواحد من أهم الأعمال الدرامية في آخر عشر سنوات. مثل سابقه يضع المسلسل أبطاله في مسارات تبدو لانهائيةً لكنها مستغلقة تماماً على أحدهما الآخر، بالرغم من كل محاولات الهروب، لا يبدو المرء قادراً على الهروب من قدره. ليس هكذا يبدو الحب فقط. بل في كل شيء يخص أبطال العمل. عمل يحبس الأنفاس، ويشجع على الانفعال مع الابطال أو قبلهم أحياناً. وإلى جانبه يأتي مسلسل "الشرنقة"، الأكثر كمالاً وذكاءً وتجريباً.
من هنا يمكن التوقف عن اللهث وراء الأعمال، وإطلاق أحكام تبدو سريعةً وظالمةً أحياناً، لكنها احتاجت إلى الفرجة على نصف كل عمل أو أكثر. نهدأ أمام الأكثر جودةً. بخلاف كل الأعمال التي شاهدتها هذا الموسم، حتى المسلسل المفضل الآخر: "قلبي ومفتاحه"، لدينا هنا محطة توقّف جريئة تخصّ التطور الدرامي، الإيقاع الذي لا يُفقد في كل لحظة، والمساحات الذكية شديدة الصعوبة التي يختارها السيناريست عمرو سمير عاطف، في كل مرة.
"الشرنقة"... هل يحتاج الفن إلى أكثر من ذلك؟
النقطة الأولى التي يمكن الحديث عنها من خلال "الشرنقة"، تتمثّل في كونه عملاً غير رمضاني أساساً؛ إذ لا يحمل الخفّة أو الإيقاع البسيط اللذين يتطلبهما عمل يستهدف الانتشار في المقام الأول، ويصعب تفهّمه في المشاهدة الأولى.
إلى جانب الأداء الذكي لدور الضابط عمر عياد/علي الطيب، والزوجة سلمى/مريم الخشت، التي تقدّم أفضل أدوارها على الإطلاق حتى الآن، يبدو أنّ بطل العمل أحمد داود، قد وصل إلى منطقة آمنة تماماً، اختمرت موهبته فيها بدرجة باتت تضعه في مصاف الكبار. يقف في تتر المسلسل داخل قطعة شطرنج مستغلقة بين دولارات. المال يحيط بكل شكل وكل حركة. دوائر مظلمة لا يميّزها سوى المال. ومنه تبدو حركة الحبكة ذاتها. أموال مغرية حتى لو كانت تحرق كل من يقترب منها.
ملصق مسلسل "الشرنقة"
الأمر الآخر الذي يجعل "الشرنقة" استثناءً، الصعوبة البالغة في كتابته. يتخد السيناريو مساراً غامضاً نوعاً ما ثم يسعى إلى قلبه رأساً على عقب. في الحلقة الأولى يسيّر حياة حازم المحاسب مع أسرته داخل طبقة متوسطة مطحونة في لحظة قاسية، يقزّم شعور المشاهد معه، بملابس زاهية تمثّل قلبه ورغباته البسيطة، تجعله عرضه لأحلام يقظة مُهلكة يتخيل فيها نفسه تاجر مخدرات ثرياً وعملاقاً يُدعى إيساف. بمرور الوقت يفقد الخط الفاصل بين الخيال والحقيقة. لكن المشاهد هنا يملك سلطة المعرفة بأنه حازم وليس "إيساف". هنا قصة تعارض نفسها. أين الحقيقة والكذب؟ لدى المشاهد حقيقته، سرّه الذي قد يخجل من مشاركته.
يترك المخرج المذهل محمود عبد التواب، حركة البطل بضع حلقات ليعكس الأمر بدرجة تبدو معها كل الحبكة السابقة وهماً للمشاهد نفسه. هذا خطر. لكنه شديد الجرأة، ويستحق الإعجاب. هذا سيناريو يندر وجوده عربياًَ ليس فقط في رمضان. يبشّر بذلك الملصق الرسمي للمسلسل؛ يقف فيه حازم-إيساف/أحمد داود، أمام نفسه، الطيّب والشرير.
العالمان فيهما البطل هائم. لا يدرك تماماً أين حياته. في أحد المشاهد قبل الدخول إلى مديره الذي يضعه على أول طريق الاختلاس والثراء السريع غير الشريف، يرى البطل بورتريه ويتأمّله: سلّم يصعد نحو الهاوية. اللوحة داخل المكتب وخارجه، تحيط مجاز وجوده في المكتب برمّته.
حركة الكاميرا ذاتها تتحرك حول حازم لا معه. تُروّضه لمحاولة الوقوف أمام حركة عقله السريعة. تُحيط بهواجسه المستمرة. الموسيقى تضرب رأسه كما تضرب المشاهد. تضييق الفروق الطبقية بين الثراء الفاحش والفقر المزعج الذي يوجده السيناريو يمرر بصرياً وموسيقياً كطلقات رصاص. يختبر المتفرج، ولا يتهاون معه أبداً. وربما لذاك تبدو الانتقالات حادةً، وجرأتها زائدة. المشاهد يلهث إذا لم يدرك المفتاح الأول: الحيرة الأبدية بين الرغبة في حياة رحبة والتخلّص من أخرى تحتضر. أو هكذا يرى البطل حدود دنياه بين الثراء الفاحش والفقر القلق.
النقطة الأولى التي يمكن الحديث عنها من خلال "الشرنقة"، تتمثّل في كونه عملاً غير رمضاني أساساً؛ إذ لا يحمل الخفّة أو الإيقاع البسيط اللذين يتطلبهما عمل يستهدف الانتشار في المقام الأول، ويصعب تفهّمه في المشاهدة الأولى
قبل أشهر قليلة، مات المخرج ديفيد لينش: واحد ممن أرّقتنا أحلامهم في السينما على مدار سنوات. كانت إحدى حسراته ومآسيه قبيل نهايته سببها عزوف هوليوود عن صناعة الغرابة. باتت كل القصص تلقّن بالملاعق. يندر تماماً وجود القصص المرهقة، التي قد لا يفهم أجزاء منها لو لم تكتمل في رأس مشاهدها. بدا الأمر وكأنه ليس في مستوانا العربي فقط. هذا أمر إضافي يجعل المسارات صعبة التلقّي في "الشرنقة" دعوةً بسيطة للنقاش. ليس فقط للغرابة بل للمجاز السياسي الذي يحمله بطل معذّب بين اتجاهات مختلفة. هذه قصة مؤرقة تتلاعب بمشاهدها لا أبطالها. تطرح أسئلته الوجودية عن الحياة والرغبة والطموح والثراء السريع على طاولة واحدة، ويقرر مع المشاهد كيف بدأ الخلق؟ وكيف تسير الأمور.
"الشرنقة" عمل يحمل تميّز اسمه، فهو مغاير، مربك جداً، وموجّه إلى مشاهد بعينه يحمله على البكاء على الاختيارات الواسعة في عالم ضيق. وحيرة الوجود الذي لا يمكن إدراك الواقع في قلبه من الخيال خارجه. هذا العمل يخرج في لحظة قاسية على الجميع، ينبغي فيها تخريج المسار السياسي والاجتماعي؛ جيل كامل حائر بين عوالم ومسارات متناقضة تستوجب الحيرة، واتخاذ قرار يمكن تسيير الباقي من العمر وفقه. العالم عاطل أو معطّل، ولا يمكن الوقوف بين بين إلى الأبد. قسوة تحتاج تماماً إلى الموسيقى التصويرية المليئة بطرقات الدرامز المدمرة.
الاختيارات المتحررة الجريئة الراديكالية تحلق في منطقة باتت نادرة التواجد في لحظة ترتعب من الجديد أو المقامرة حتى لو كانت مغرية.
يقول إيساف في أحد جموحاته: "إحنا عايشين في حلم... أصل إيه أوحش حاجة ممكن تحصل لواحد بيحلم؟ إنه يصحى". لا يتوقف جموحه ولا مأساته الذاتية التي تتوقف في الخارج وتحفر داخله دون نهاية. وضع الأبطال جميعاً، كل حلقة، في دائرة مغلقة، في أحد المشاهد، داخل الحفلة التي أقامها محسن. يعود حازم بعد وعيد تاجر المخدرات من أي غدر قد يفكر فيه. يرجع إلى زوجته سلمى، التي تجلس بعيدةً ووحيدةً. غريبان في حفل، غريبان في ليل. شاردان بين عالمين. يجب الاختيار بينهما برغم كل شيء.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Souma AZZAM -
منذ يومينالدروز ليسوا نموذجًا واحدًا في الاعتقاد والسلوك. اما في مستوى العقيدة، فهم لا يؤمنون بالسحر، وإن...
محمد دراجي -
منذ 4 أيامأخي الفاضل قبل نشر مقالة عليك بالتحقق خاصة في علم الأنساب والعروش والقبائل فتسمية بني هجرس ولدت...
م.هيثم عادل رشدي -
منذ أسبوعمقال رائع وضع النقاط على الحروف فالحقيقة أن النزاعات جعلت أبناء شعوبنا متشردين ولاجئين ومهاجرين...
Sohila Amr -
منذ أسبوعتعود من جديد شعلة ثورة في نفوس، وكأنها لعنة كلما كذبنا وقلنا انها صدفة او خدعة اصبنا بها ولكن لقد...
Yusuf Ali -
منذ أسبوعلن أعلق على كل كلامكِ والكثير من المغالطات التي وردت، وسأكتفي بالتعليق على خاتمتكِ فقط:
قلتِ:...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعThis media body is clearly within the circles of the Makhzen. Otherwise, it would not have been...