تمتلئ سفرة رمضان كل عام، بعشرات الأعمال الدرامية المحلية والعربية، نشاهد بعضاً منها أو نسمع بها، بينما بعضها الآخر لا يسمح لنا الوقت ولا حتى البعد الجغرافي بالاطلاع عليها. برغم ذلك تطفو فوق السطح أعمال درامية قادرة على جذب الجمهور وامتلاكه، حتى لو كانت تطرح مواضيع كلاسيكيةً ليست بالجديدة، أو لنقل مواضيع مطروقةً ومعروفةً من قبل بعض المشاهدين والمتخصصين في النقد وكتابة النصوص. ولكن عملية الاقتباس من الواقع، أو من الدراما نفسها، وإعادة حياكتها كعمل درامي بأسلوب ومنطق جديدين، محطّ رهان للقائمين عليها، قد يجرّ العمل إلى الخراب أو يرفعه إلى السماء.
لمى طيارة
السبب في كتابة هذه المقدمة التمهيدية، ظهور عمل درامي لبناني اقتُبست أحداثه من الواقع والدراما نفسها، فشركة "إيغل فيلمز"، لصاحبها جمال سنان، وفي إطار تعاونها مع الكاتبة اللبنانية نادين جابر، التي سجّلت معها نجاحاً بارزاً وجماهيريةً ملحوظةً في السنوات السابقة، قدّمت هذا العام عملاً درامياً من 30 حلقةً بعنوان "بالدم"، من إخراج فيليب أسمر، المخرج الشاب الذي بدوره أيضاً ترك بصمةً بعد تعاونه مع الكاتبة نفسها والشركة عينها في الأجزاء الثلاثة من مسلسل "للموت".
ومسلسل "بالدم"، الذي تلعب بطولته بطبيعة الحال النجمة ماغي بوغصن، زوجة المنتج والشريك الأساسي للثنائي سنان وجابر، بجانب كلّ من رفيق علي أحمد، سينتيا كرم، جيسي عبدو، باسم مغنية، بديع أبو شقرا، نوال كامل، وسام فارس، مارلين نعمان، كارول عبود، جوليا قصّار، جبريايل يمين، ورولا بقسماتي، هو العمل اللبناني الوحيد الذي كتبه وأخرجه وأنتجه وقام ببطولته لبنانيون، دون أي مشاركة لنجوم أو فنانين عرب، في حين ما زالت الأعمال اللبنانية تلجأ إلى كّتاب وممثلين من جنسيات عربية مختلفة، إما رغبةً في تنوّع التجربة أو كسباً لساحة أكبر لتسويق أعمالها.
مسلسل "بالدم" نال نصيبه من الانتقاد على اعتبار أنّ كاتبته استقت قصته من برنامج تلفزيوني عُرض قبل ثلاث سنوات، واستضاف فيه مقدّمه المعروف نيشان، سيدةً لبنانيةً في الأربعين من عمرها، لتروي كيف اكتشفت في تلك المرحلة العمرية، ونتيجة المرض، أنها لا تنتمي بيولوجياً إلى العائلة التي كانت تعدّها لسنوات عائلتها.
ولكن مسلسل "بالدم"، الذي يبدو حتى اليوم ناجحاً بكل المقاييس، سواء على صعيد الكتابة الدرامية أو الإخراج أو على صعيد التمثيل الذي ظهر فيه نوع من المبارزة بين أبطاله، كان قد نال نصيبه من الانتقاد على اعتبار أنّ كاتبته استقت قصته من برنامج تلفزيوني عُرض قبل ثلاث سنوات، واستضاف فيه مقدّمه المعروف نيشان، سيدةً لبنانيةً في الأربعين من عمرها، لتروي كيف اكتشفت في تلك المرحلة العمرية، ونتيجة المرض، أنها لا تنتمي بيولوجياً إلى العائلة التي كانت تعدّها لسنوات عائلتها.
لكن في حقيقة الأمر، نادين جابر لم تستفد كثيراً من قصة تلك السيدة التي ظهرت في اللقاء التلفزيوني الشهير إلا بما تقتضي إليه الحاجة لبناء قصة درامية تكون بطلتها سيدة ستؤدي دورها ماغي بوغصن، بينما استفادت بشكل شبه تفصيلي من العمل الدرامي المصري المعنون "بدون سابق إنذار"، الذي عُرض في رمضان 2024، وهو مسلسل كتبت قصته السورية ألما كفارنة، وأخرجه هاني خليفة، بينما قام ببطولته كل من آسر ياسين، عائشة بن أحمد، أحمد خالد صالح، وأنتجته شركة محمد مشيش، "بي لينك" التي كانت على شراكة لسنوات مع "إيغل فيلمز"، حيث قدّمتا عشرات الأعمال الناجحة، بينما باتتا اليوم شركتين منافستين لبعضهما في السوق.
وتدور أحداث مسلسل "بدون سابق إنذار"، حول مروان وليلى، الزوجين اللذين يعيشان في جوّ مشحون، لكن ابنهما المتكاسل عن الذهاب إلى المدرسة سيقلب حياتهما رأساً على عقب، بعد اكتشاف إصابته بسرطان الدم، فيعيد مرضه الرباط العائلي لوالديه، ويحاولان بكل ما أوتيا من قوة إنقاذ حياة ابنهما الذي يحتاج إلى متبرّع كي يجري عمليةً عاجلةً لنقل النخاع العظمي، فتبدأ العائلة بفحص العيّنات، ليكتشف الأب بالصدفة أنّ الطفل ليس ابنه، وليجرّه الأمر إلى التشكيك في زوجته وخيانتها له. لكن التحاليل اللاحقة ستثبت أنّ الطفل ليس ابن هذه العائلة بيولوجياً، لتبدأ رحلة بحثهما المحموم عن ابنهما الحقيقي.

لا تقتصر قصة العمل بطبيعة الحال على قضية نسب الطفل المريض، بل سيتعرض بشكل أو بآخر للعلاقات العائلية للأشخاص المقربين منهما، لنسمع قصصهم أيضاً، بحيث تصبح تلك القصص الغلاف الدرامي المحيط بالقصة الأصلية، وتنتهي أحداث المسلسل بالوصول إلى الطفل الحقيقي بعد رحلة بحث لا تخلو من نصب واحتيال وتضليل، مروراً بعمليات خطف الأطفال وتبديلهم. لعب شخصية الطفل، بعفوية وصدق، سليم يوسف، وحقق جماهيريةً عاليةً وتعاطفاً كبيراً من الجمهور حينها.
أما مسلسل "بالدم"، الذي سنفهم لاحقاً سبب تسميته بهذا العنوان، فالابنة الصغيرة لغالية التي تلعب دورها ماغي بوغصن، ستتكاسل بدورها وتغيب عن المدرسة الأمر الذي سيلفت نظر العائلة، لتكتشف بعدها بأيام أنّ الطفلة مريضة بمرض التلاسيميا، وهو اضطراب وراثي في خلايا الدم ومنه جاء عنوان العمل، ما سيدعو الطبيب إلى أن يتعرف على حاضن ذلك المرض من أفراد العائلة. تبدأ رحلة التحاليل الطبية التي ستضع غالية، الأربعينية، في كابوس؛ من جهة لأنها ليست الابنة الشرعية لوالديها جانيت وروميو، العاشقين اللذين تزوّجا بعد قصة حب كبيرة، وأنجباها وشقيقتها تمارا، ولأنّ تلك الحادثة ستدمّر أسرتها لاعتقاد الأب أنّ زوجته كانت قد خانته حينها، من جهة أخرى.
تدور أحداث مسلسل "بدون سابق إنذار"، حول مروان وليلى، الزوجين اللذين يعيشان في جوّ مشحون، لكن ابنهما المتكاسل عن الذهاب إلى المدرسة سيقلب حياتهما رأساً على عقب، بعد اكتشاف إصابته بسرطان الدم، فيعيد مرضه الرباط العائلي لوالديه، ويحاولان بكل ما أوتيا من قوة إنقاذ حياة ابنهما
لا أعرف حقيقةً كيف صادف أن تشارك العملان "بالدم" و"بدون سابق إنذار"، الفكرة الأساسية إلى ذلك الحد. ربما كانت الفكرة موجودةً في جوارير مكاتب الشريكين السابقين، مشيش وسنان، وتم الاتفاق على إعادة استثمارها من قبلهما، أو أنّ "جابر" اعتمدت في اقتباسها على مبدأ أنّ الجمهور اللبناني والنقّاد اللبنانيين لا يشاهدون الأعمال المصرية، ويدلّ على ذلك أنّه ما من صحافي أو ناقد قد لاحظ ذلك التشابه بين العملين.

وهكذا استفادت جابر، في كتابة عملها من كل ما شاهدته وسمعته من قصص مشابهه دون الإشارة إليها، وعادت مرةً أخرى لكتابة عملها بطريقتها. ربما كان من الأجدى أن تشير إلى أنّ العمل مستوحى من قصص حقيقية، هكذا كان بإمكانها أن تتجنب كل النقد الذي وُجّه إليها، ليس هذا فحسب بل أن تجعل العمل مباشرةً في مصاف أفضل الأعمال الدرامية العربية التي تُعرض في رمضان لهذا العام، ليس فقط بسبب المعالجة الجذابة لقصته، وإدخال قصص جانبية عائلية وإنسانية لا تقلّ أهميةً عن قصته المحورية، وليس لأنه عمل يعيد الاعتبار لروابط العائلة والتربية بعيداً عن صلة الدم والقرابة، ولا لأنّ حواراته وصلت إلى عمق وصميم المشاهد، وهذا ما كنا نفتقده لسنوات، بل لأنه أيضاً عمل ضمّ في طياته عمالقة فن التمثيل في لبنان، سواء المخضرمين منهم، وأذكر على سبيل المثال وليس الحصر رفيق علي أحمد وجوليا قصار، أو حتى من الشباب أمثال مارلين نعمان، إلى درجة شعرنا كمشاهدين معها بأننا أمام سباق مع أبطال العمل نفسه الذين تقمصوا شخصياتهم بطريقة غير كلاسيكية برغم واقعية العمل.
كما أنه سلّط الضوء وبقوة على بعض من أبطاله حين وضعهم للمرة الأولى في دائرة النور التي يستحقونها، تماماً كما حصل مع الممثلة سينتيا كرم، التي سبق أن تعرّف عليها الجمهور العربي منذ سنوات مع الجزء الأول من برنامج "ستار أكاديمي" الشهير، لتظهر اليوم بشخصية "عدلى" الساذجة والبسيطة ذهنياً وعقلياً، والسيدة الثكلى التي فقدت ابنها ويتم استغلالها من قبل أحد الشبان الذي يدّعى محبّتها ويسلبها مقابل ذلك مالها الذي تجمعه من البسيط. كما أنه أضاء على الممثلة رندة حشمة، التي لعبت دور سهى بركات، وهو دور مركّب أيضاً حول امرأة ثكلى وحزينة إلى درجة المرض والجنون.
وبرغم أنّ دورها انحصر في حلقتين سريعتين، إلا أنه أيضاً أعاد الاعتبار إلى تلك الممثلة الغائبة عن الدراما منذ فترة. في النهاية وبرغم أنّ نص مسلسل "بالدم"، ليس أصيلاً كما هو واضح، إلا أنّ العمل استطاع أن يحجز مكانه على خريطة رمضان لهذا العام، وأن يحظى بجماهيرية لافتة، خاصةً لدى الجمهور اللبناني.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
محمد دراجي -
منذ يومأخي الفاضل قبل نشر مقالة عليك بالتحقق خاصة في علم الأنساب والعروش والقبائل فتسمية بني هجرس ولدت...
م.هيثم عادل رشدي -
منذ 5 أياممقال رائع وضع النقاط على الحروف فالحقيقة أن النزاعات جعلت أبناء شعوبنا متشردين ولاجئين ومهاجرين...
Sohila Amr -
منذ أسبوعتعود من جديد شعلة ثورة في نفوس، وكأنها لعنة كلما كذبنا وقلنا انها صدفة او خدعة اصبنا بها ولكن لقد...
Yusuf Ali -
منذ أسبوعلن أعلق على كل كلامكِ والكثير من المغالطات التي وردت، وسأكتفي بالتعليق على خاتمتكِ فقط:
قلتِ:...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعThis media body is clearly within the circles of the Makhzen. Otherwise, it would not have been...
Samah Al Jundi-Pfaff -
منذ أسبوعفي اللاذقية قصص مثيرة للدهشة وللمزيد من البحث. اللاذقية مدينة القصص عير المكتشفة. شكرا