شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
لماذا يتباكى العرب على أندلسهم المفقود؟

لماذا يتباكى العرب على أندلسهم المفقود؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

اعتدتُ عند سفري إلى أيّ مكان جديد، أن أكتشفه سيراً على الأقدام، قدر استطاعتي، وهذا ما علّمنا إياه المعلم العزيز الدكتور منير فاشة، قبل سنوات طويلة، عندما قال لنا يوماً في إحدى الجولات: "امشِ الأرض لتعرفها". ومنذ ذلك الحين، أصبحت أحبّ المشي لاكتشاف المزيد عن أيّ مكان أزوره.

في إسبانيا، بدأت رحلتي بين أزقّة المدن الأندلسية، العابقة برائحة التاريخ. أسير وأسير لا بحثاً عن طريق، بل عن صدى زمنٍ مضى، ترك بصماته محفورةً على الجدران وفي الميادين والآثار المتبقية. كنت أتنقل بين المعالم كمن يحاول لملمة شتات ذاكرة ضائعة، أبحث عما قرأت عنه في كتب التاريخ والأدب، عن أندلس كانت يوماً رمزاً للمجد والحضارة.

بدوّية إشبيلية

سافرتُ أنا وحقيبتي كبدوية، من إشبيلية إلى غرناطة، ثم قرطبة، وصولاً إلى مدينة الزهراء، التي شعرتُ عندما وطأتها بقدمَيّ وكأنني عبرتُ بوابة الزمن إلى عصرٍ كانت فيه قرطبة درّة العالم، والزهراء تاجها المتلألئ. فهذه المدينة، التي بناها عبد الرحمن الناصر لدين الله، في القرن العاشر للميلاد، كانت آنذاك لوحةً فنيةً مرسومةً بالرخام والذهب، تزهو بحدائق لا مثيل لها. وقفتُ مندهشةً أمام هذا الصرح العظيم، الذي لم يكن مجرد مقرّ للحكم، بل كان مركزاً للإشعاع الثقافي والعلمي، حيث اجتمع فيه العلماء والأدباء والفنانون من كل حدبٍ وصوب.

وفي أثناء تجوالي، سمعتُ صدفةً شابّين عربيين في العشرينات من العمر يتحدثان، ولم أكن أنوي استراق السمع، لكن صوتَيهما كانا عاليين، وحوارهما لفت انتباهي. قال أحدهما للآخر بنبرة يملؤها الأسى: "هل تتخيل أننا كنا يوماً هنا؟ كانت هذه بلادنا؟ وأننا نحن العرب من صنع هذه الحضارة العظيمة؟"، ليجيبه الآخر: "سنستعيدها عمّا قريب، إن شاء الله".

استوقفني هذا الحديث كثيراً. فكّرتُ فيه لأيامٍ: ما الذي يريدان استرجاعه، حتى وإن كان مجرد أمنية؟ عن أيّ شيء يتحدثان، وهما يعيشان واقعاً عربياً هو الأكثر انحطاطاً وتمزّقاً وشرذمةً في التاريخ؟ هذا الحلم المعلّق بين أطلال الماضي وواقع اليوم، هل يمكن لحضارة أضعنا مجدها بتمزّقنا وانقسامنا أن تعود، أو أنّ الزهراء ستظلّ مجرد حكاية في صفحات التاريخ، تُروى ولا تُعاد؟

السّر في الفكرة

قبل شهر، مع بداية كانون الثاني/ يناير من كل عام، يتجدد احتفال الإسبان بذكرى استعادة الأندلس وسقوط آخر معاقل المسلمين في غرناطة، حيث طوى التاريخ صفحةً غنيةً امتدت لثمانية قرونٍ من الحضارة الإسلامية هناك. في ذلك اليوم، سلَّم أبو عبد الله الصغير، مفاتيح غرناطة للملوك الكاثوليك، ليحتفل الإسبان باستعادة بلادهم، ويبكي العرب إرثهم الذي أضاعوه في الأندلس حتى يومنا هذا. وقد ضجّت كتب التاريخ والأدب العربي بالنواح على الأندلس المفقود، وعلى حقبةٍ يعدّها العرب من أزهى فصول تاريخهم الطويل.

كيف يمكن لأولئك الغارقين في الحنين أن يدركوا أنّ الأندلس لم تكن مجرد أرض، بل كانت تجربةً إنسانيةً استثنائيةً، حيث التقى الفقيه بالموسيقي، وتعانق صوت الأذان مع تراتيل الكنائس وأدعية المعابد اليهودية؟

نوستالجيا يعيشها العرب والأمازيغ باستمرار منذ أكثر من خمسة قرون. لكن كيف سيفهم هؤلاء أنّ الأندلس لم تكن مجرد أرض، بل كانت تجربةً إنسانيةً نادرةً، التقى فيها الفقيه بالموسيقي، وجاور فيها صوت الأذان تراتيل الكنائس وأدعية المعابد اليهودية وأصداء المراقص؟

لم يكن العلم آنذاك ترفاً، بل كان ضرورةً وحاجةً ملحّةً، فانتشر الباحثون في مجالات الطب والفلك وسائر العلوم. وفي تلك الحقبة التي يبكيها العرب، لم تكن هناك قوميات متصارعة ولا استعلاء فئةٍ على أخرى، بل كان الاختلاف مصدرَ غنى وثراءٍ حضاري. لقد كانت الأندلس نقطة تلاقٍ وجسراً للنمو الفكري والتنوع الخلّاق، حيث عاش فيها الأمازيغ والعرب والإسبان وغيرهم، واستطاعت أن تكون نموذجاً فريداً لحضارةٍ وازنت بين الروح والعقل، وبين الإيمان والإبداع، إلى أن أضاعتها حروب ملوك الطوائف والانقسامات الداخلية، في مشهدٍ يشابه حالنا اليوم.

التخدير بالحنين

في "رصيف 22"، حاورنا الكاتب والصحافي نظمي يوسف، وهو من أوائل الصحافيين العرب في أوروبا، والذي أسس مجلة "الأندلس" عام 1985، في مدريد كمجلة شهرية ناطقة باللغة العربية. وعن الهدف الذي دفعه إلى إطلاق هذه المجلة، أوضح يوسف، أنّ "المجلة سعت إلى أن تكون نافذةً للعرب على تاريخهم في الأندلس، لتقديم صورة مشرقة عن العروبة والإسلام آنذاك. كما حاولت المجلة الحفاظ على صلة العرب بأوطانهم، لتكون بمثابة مجلة الاغتراب العربي الأندلسي، القريبة روحياً برغم بعدها الجغرافي".

وأضاف يوسف: "لاقت المجلة ترحيباً واسعاً وإقبالاً على شرائها، لحاجة العرب إلى قراءة تاريخهم وفهمه. لم يكن في ذلك الوقت الحاسوب أو الإنترنت موجودَين للحصول على المعلومات، وكنا في المجلة نبحث عن قصص الأندلس الفريدة والتي لا يعرفها كثيرون، كمثال على قدرة العرب، مسلمين ومسيحيين ويهوداً، على خلق حضارة رائدة".

وأضاف يوسف: التباكي وحده لا يُعيد التاريخ، بل المطلوب هو الاستثمار في الحاضر لاستعادة الدور الحضاري للعالم العربي على الساحة الدولية

وعند سؤاله عن سبب حنين العرب إلى الأندلس، أجابنا: "الحنين العربي إلى الأندلس يعكس إحساساً بالخيبات المتكررة التي مرّت بها الأمة العربية في العصر الحديث. فالأندلس كانت تمثّل عصراً ذهبياً ازدهرت فيه الحضارة الإسلامية، وبرزت فيه إنجازات علمية وثقافية عظيمة، وهو ما جعلها رمزاً للمجد الضائع. وفي ظل التحديات السياسية والاقتصادية التي تواجهها الدول العربية، أصبح البعض ينظر إلى الأندلس كفترة مشرقة يستحضرونها هرباً من واقعهم القاتم، بدلاً من استلهام الدروس منها لبناء مستقبل أفضل. التباكي وحده لا يُعيد التاريخ، بل المطلوب هو الاستثمار في الحاضر لاستعادة الدور الحضاري للعالم العربي على الساحة الدولية".

زمان الوصل 

وفي عصر المحتوى السريع، برز العديد من الأشخاص الذين لا يملكون خلفيةً أكاديميةً أو معرفةً تاريخيةً عميقةً، لكنهم يستغلّون الحنين العربي إلى الأندلس لصناعة فيديوهات ترفع نسب المشاهدات على منصاتهم. المشكلة أنّ هذه المواد غالباً ما تحتوي على أخطاء تاريخية فادحة، لكنها تلقى رواجاً بين جمهور متعطش إلى سماع أيّ شيء عن "الفردوس المفقود".

ستظلّ الأندلس حكاية المجد الضائع، حيّةً في ذاكرة العرب، لا كأرض فُقدت فحسب، بل كحلم لم يكتمل، ومرآة تعكس واقعنا أكثر مما نظن

من بين هؤلاء، "مي"، وهو اسمها المستعار، شابة في أواخر العشرينات من العمر، لديها مئات الآلاف من المتابعين على تيك توك، وتعمل على إنتاج فيديوهات سريعة عن الأندلس، برغم أنها لم تدرس التاريخ مطلقاً. قبلت الحديث معنا عبر الهاتف بعد تردد قائلةً: "بدأت مع جائحة كورونا، كان لديّ وقت وهاتفي. وُلدت ونشأت في مدينة غرناطة، وبدأت بتصوير المعالم الأثرية كهواية مع التعليق عليها. فوجئت بالإقبال الهائل على فيديوهاتي. أصوّر أحياناً شارعاً أو مقبرةً أو صرحاً من بقايا العرب في الأندلس مع تعليق بسيط. كثرٌ يعبّرون في خانة التعليقات عن مدى حبّهم للأندلس وحنينهم إلى العودة إلى حيث كانت عظمة أجدادنا".

ستظلّ الأندلس حكاية المجد الضائع حيّةً في ذاكرة العرب، لا كأرض فُقدت فحسب، بل كحلم لم يكتمل، ومرآة تعكس واقعنا أكثر مما نظن. ففيها يمكننا أن نرى صورةً لما كان يمكن أن نكون عليه لو فهمنا الدرس جيداً. ليست العبرة في التباكي على ما ضاع، بل في إدراك أسباب السقوط، لأنّ الحضارات لا تنهار فجأةً، بل تتآكل من الداخل حتى تموت وتندثر.

ما يحتاجه العرب اليوم ليس استعادة الأندلس، بل نهضة تعيد إليهم قدرتهم على الإبداع والتقدم. الأندلس لم تكن فردوساً مفقوداً، بل كانت تجربةً إنسانيةً استثنائيةً قامت على التنوع والعلم والانفتاح. ويجب أن نتعلم من ماضينا، وبدلاً من البكاء والحنين، علينا أن نسأل أنفسنا كيف نخلق "أندلس" جديدةً في أوطاننا؟ وكيف لا نضيع ما تبقّى من كرامتنا وأرضنا؟ كيف نجعل من أوطاننا مناراتٍ للفكر والإبداع والفن بدلاً من أن تكون مجرد ظلالٍ لماضٍ لن يعود؟


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image