قد يختلف معنى الرقص في الثقافات والمجتمعات المختلفة، ولكن ربما يمكن القول إنه إذا نظرنا إلى القرون والألفيات الماضية، فنشهد أن الغرض من الرقص كان واحداً في جميع الثقافات. جاء في كتاب "رموز الثقافات" لِجون شوفالييه (1906-1993) وألان جيربران (1920-2013)، تعريف للرقص، على النحو التالي: "الرقص هو احتفال مقدّس. الرقص هو كلام، كلام يتجاوز الكلمات. إنّ الرقص الذي تؤدّيه الطيور في أثناء المغازلة يعبّر عن نفس هذه العبارة، وهو خطاب يفوق الكلمات، حيث لا تعود الكلمات تكفي".

ومع ذلك، فإنّ ما هو مشترك بين الثقافات عندما يتعلق الأمر بالرقص، هي الطبيعة الرمزية لهذا الفن. في التاريخ الإيراني، كانت للرقص مكانة خاصة باعتباره تعبيراً فنياً، وما يميّز الرقص عن غيره من الأنشطة البدنية هو جانبه الفني، لأنّ كل حركة في الجسم فيه تعبّر عن شعور أو حالة داخلية، وعلى سبيل المثال: يمكن القول إنّ في الرقص تتجسد الأفكار والعواطف الإنسانية كحقيقة عارية واحدة، ومع ذلك، يمكن للرقص أن يعكس الظروف المناخية والمعتقدات والطقوس والتاريخ والثقافة، والعواطف الناشئة عن كل هذه العناصر.
تاريخ الرقص
منذ بداية الخليقة، كان الناس في كل مكان وفي كل الفترات التاريخية يقفزون غريزياً عند فرحهم. وما يوضح هذه المسألة، هي الرسومات والرموز الأثرية المتبقية في الكهوف، حيث إنّ البشر الأوائل كانوا يرقصون أيضاً! فكانوا يقلّدون حركات الأجرام السماوية والمخلوقات المختلفة بحركات جسدية خاصة، وكان هدفهم من هذه الرقصات، شكر الطبيعة والآلهة التي كانوا يعتقدون بها، وفي الإطار نفسه كانت العديد من القبائل الأمريكية الأصلية (الهنود الحمر)، تؤدي رقصات خاصةً لجلب المطر والحصاد الجيد.
ولذلك، كانت العديد من المهام، بما في ذلك اصطياد الطرائد الكبيرة، وجمع المحاصيل، وعبادة الآلهة، وكذلك التعبير عن المخاوف والآمال والرغبات، مصحوبةً بالرقص. كما جاء عن ارتباط الرقص والعبادة في العهد القديم، في سِفر صموئيل الثاني، الإصحاح 6، الآية 14، كالتالي: "وكان داود يرقص أمام الرب بكل قوته".
بتشكيل الحكومات المحلية في إيران، أصبح استخدام الموسيقى والغناء متاحاً للعامة، وبما أنّ الرقص عند الإيرانيين كان له طابع وطني ولم يكن فناً يقتصر على البلاط فحسب، بقي بين القبائل الإيرانية المختلفة، برغم الشريعة الإسلامية
وتعتقد مجموعة من علماء العلوم الإنسانية، خاصةً علماء الأنثروبولوجيا، أنّ الحركات والاندفاعات الفردية الناشئة عن المشاعر الإنسانية والطبيعة تحولت تدريجياً إلى دقّات وتلويحات جماعية إيقاعية، ومن ثم أضيف إليها الإيقاع من خلال التصفيق باليدين، أو على الفخذين، أو من خلال ضرب عصوين معاً، إذ مع ظهور الإيقاع، أصبح الرقص عبارةً عن حركات إيقاعية تتحرك فيها أعضاء الجسم البشري، في تناغم مع بعضها بعضاً، للتعبير عن رغبات ومشاعر محددة.
تاريخ الرقص في إيران القديمة
في الفترة ما بين عشرة آلاف إلى ستة آلاف سنة قبل الميلاد، كانت المهن الرئيسية للإيرانيين هي الصيد وتجميع المنتجات البرية والرعي والزراعة بأساليب بدائية، وحينها كانت المعتقدات البدائية للروحانية الإيرانية، تقتصر على عبادة العناصر الطبيعية والأجرام السماوية، إذ كانت هذه المعتقدات تسيطر على أفكار الإيرانيين وسلوكهم وأفعالهم، وبحسب الأدلة فالرقص كان جزءاً من هذا السلوك.

غالباً تظهر هذه الأدلة، في نقوش العديد من الفخاريات المكتشفة في تل سيلك في مدينة كاشان (مركز إيران)، وتل الأخضر في مدينة السوس (جنوب غربي إيران)، وتل حصار في مدينة دامغان (شمالي إيران)، بأنماط تشير إلى إقامة مراسم واحتفالات مصحوبة بالرقصات الجماعية والفردية، ومن أقدم الأمثلة على ذلك، والتي تعطي فكرةً عن كيفية أداء مراسم الرقص منذ آلاف السنين، هو رسم بسيط باللون الأسود على وعاء من الطين المخبوز، المكتشف في تل الكنز في مدينة السوس، حيث يظهر على هذا الوعاء، تصوير لستة أشخاص في مجموعتين ثلاثيتين راقصتين.

ومن الأمثلة الجميلة جداً، قطعة فخار اكتُشفت في تل موسيا (150 كيلومتراً، شرق السوس)، حيث تظهر عليها رسومات لمجموعة من الأشخاص يرقصون حول شيء يشبه الحصادة أو النار، وكأنّ الناس بعد حصاد محاصيلهم كانوا يشكرون آلهتهم ويطلبون منها زيادةً في الرزق والبركات خلال هذه الطقوس.
الرقص خلال الإمبراطوريات العظيمة
يمكن اعتبار هذه الفترة التاريخية فترة تطورات علمية وثقافية وعقائدية مهمة، نتيجةً لظهور المدن والمجتمعات المتقدمة، كما أدى ظهور الزرادشتية وتقييد عدد الآلهة، إلى حدوث تغيير في معتقدات القبائل التي كانت تسكن الهضبة الإيرانية، حيث في هذه الفترة، لم تتبقَّ سوى تلك الطقوس والرقصات المرتبطة بالاحتفالات الثقافية والدينية، ولا سيّما احتفالات الأعياد، بين الشعب الإيراني.

ولذلك هناك عدد أقلّ بكثير من الأعمال والوثائق المتعلقة بالرقص في عهد الميديين والأخمينيين والبارثيين، مقارنةً بالفترات السابقة، ولكن في القصص والكتابات التاريخية لهذه الفترات، هناك إشارات إلى الرقص بين مختلف القبائل الإيرانية، إذ يروي المؤرخ اليوناني إكسينوفون (430-354 قبل الميلاد)، قصةً في الجزء الأول من كتابه "كورش الكبير أو كورسبيديا"، يوضح خلالها أنّ الرقص كان يُقام في بلاط الملوك، وأنّ الملك كان يرقص أحياناً ويصفّق بيديه أمام أصدقائه وأقاربه، ويُضيف أنّ "كورش" بعد وصوله إلى بلاد فارس، أدى رقصات شكر للآلهة وفقاً للطقوس الفارسية.
ومن الوثائق المكتوبة الأخرى عن الرقص والحركات الإيقاعية عند الإيرانيين قبل الإسلام، كتاب "الآثار الباقية عن القرون الخالية" الذي ألّفه العالم والباحث أبو ريحان البيروني، ويصف فيه احتفالات مهرجان سدِه (احتفال بميلاد النار)، وعيد النوروز، ومهرجان الاغتسال أو مهرجان رشّ المياه، حيث يكون الرقص حاضراً في معظم الاحتفالات التي يذكرها.
بعد ذلك، وخلال الفترة البارثية، كان الرقص والغناء والعزف على الناي والدفوف من الأمور الشائعة بين الطبقات الغنية، وكان الراقصون اليونانيون حاضرين في بلاط الملوك البارثيين. ومثل الملوك الأخمينيين، رقص الملوك البارثيين خلال المهرجانات. وفي أثناء الفترة الساسانية، فقد الرقص جانبه الديني، وانفصل عن بعض الطقوس، وظلّت الأخيرة والرقصات المرتبطة بالاحتفالات والمهرجانات الثقافية، حتى فتح إيران على يد المسلمين.
الرقص في إيران بعد دخول الإسلام
في هذا الصدد، يقول ويل ديورانت، في كتابه "تاريخ الحضارة": "برغم أنّ الإسلام حرّم الموسيقى في البداية، لكن بدأت الموسيقى في ما بعد تُستخدم في حلقات الذكر واحتفالات الدراويش، وللكندي وابن سينا وإخوان الصفا والفارابي كتب مفصلة في هذا الموضوع، حيث يُعدّ كتاب 'الموسيقى الكبير' للفارابي، العمل الأكثر شهرةً في العصور الوسطى حول الموسيقى النظرية... كان لدى المسلمين نحو مئة آلة موسيقية، بما في ذلك العود والقيثارة والدف والناي، وكان الرقص مخصصاً للخادمات المدرّبات. وبعد أن ارتبط العرب بالفرس واليونانيين، أصبح الملحّنون والموسيقيون أكثر احترافاً، وقد قدّم لهم الخلفاء الأمويون والعباسيون عطايا كثيرةً".

وبتشكيل الحكومات المحلية في إيران، أصبح استخدام الموسيقى والغناء متاحاً للعامة، وبما أنّ الرقص عند الإيرانيين كان له طابع وطني ولم يكن فناً يقتصر على البلاط فحسب، بقي بين القبائل الإيرانية المختلفة، برغم الشريعة الإسلامية. وبشكل عام، يمكن تقسيم أنواع الرقص ما بعد الإسلام في إيران إلى ثلاث مجموعات: الرقص الصوفي والسماع، الرقص البطولي والملحمي، والرقص الشعبي.
بشكل عام، يمكن تقسيم أنواع الرقص ما بعد الإسلام في إيران إلى ثلاث مجموعات: الرقص الصوفي والسّماع، والرقص البطولي والملحمي، والرقص الشعبية
ومع ظهور التصوف في القرن الثاني الهجري، بدأ الدراويش يقيمون طقوسهم، حيث اعتبر الصوفيون أنّ السماء هي الوسيط بين الله والناس، وأنها وسيلة لاكتساب المعرفة وفهم العلاقة والمحبة بين الله والبشر. ومن هذا المنطلق، كان قسم كبير من الشعراء والكتاب والمتصوفين الإيرانيين بين القرنَين الرابع والثاني عشر الهجريَين مهتماً بالمذاهب المختلفة من التصوف، واعتبروا "طقس السماع" أسمى أشكال العبادة ومظهراً من مظاهر تجليات الله.

قبل قيام الدولة الصفوية، كانت أشكال مختلفة من الرقص شائعةً بين عامة الناس في إيران، وفي العصر التيموري (749-885هـ)، كان الرقص شائعاً ليس فقط بين الطبقات الغنية، بل أيضاً بين عامة الناس. ومع تشكيل الحكومة الصفوية، وإنشاء الوحدة السياسية والاجتماعية، وإلغاء الحكومات المحلية، أتيحت الفرصة لظهور بعض العادات والتقاليد الوطنية القديمة، وأصبحت الرقصات أكثر شيوعاً في المجتمعات الريفية.

بعد ذلك، وفي العصر القاجاري، كانت هناك مجموعات غنائية للرجال والنساء، وكانت المجموعات الرجالية مخصصةً لتجمعات الرجال وتتكون من العديد من عازفي التار والكمنجة والسنطور والطبل والمطربين والعديد من الراقصين، ومن بين الرقصات الرجالية في تلك الحقبة، يمكن ذكر رقصة "الخبّاز" الشهيرة، التي كانت مستوحاةً من حركات الخبّازين في أثناء الخبز، ورقصة "وردة القمح" التي تصوّر مراحل زراعة القمح وحصاده، كما كانت مجموعات من النساء تقدّم الرقصات والمسرحيات في الحفلات والتجمعات وحفلات الزفاف.
في أثناء العصر الدستوري، وبعد توسع العلاقات الثقافية والفنية مع الدول الغربية، أخذت الرقصات الأوروبية تشتهر في إيران، حيث تشكلت وتطورت فصول الرقص الأوروبي الكلاسيكي والحديث بسرعة، وبات الاهتمام بهذا الفن يزداد في عهد البهلوي، ولكن بعد الثورة الإسلامية في إيران، تم سنّ العديد من القوانين التي كانت تمنع الرقص، ولا سيّما في الأماكن العامة، إذ أصبح رقص النساء محظوراً في جميع الأماكن وأمام الرجال، إلا في القرى وبين القبائل التي لا يزال رقصها مرتبطاً بطقوسها، ولكن بما أنّ هذا الفن يعود تاريخه إلى آلاف السنين في إيران، فإنّ الحكومة الإسلامية الحالية لم تتمكن أبداً من إزالة هذا الفن من الحياة اليومية وعادات الشعب الإيراني واحتفالاته.

ولا يزال الإيرانيون يرقصون في الاحتفالات وفي القرى، في أثناء الزراعة والحصاد، وفي أثناء الشكر والصلاة، والأهم من ذلك، أنه في السنوات الأخيرة، أصبح الرقص سلاحاً للشعب الإيراني، خاصةً النساء والشباب، لمواجهة القوانين الصارمة، إذ بات الرقص علامةً جميلةً على حياة وهوية الإيرانيين/ات الثقافية، ولمحاربة القوانين التي تريد لشعب هذا البلد حياةً مريرةً وحزينةً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Sohila Amr -
منذ 21 ساعةتعود من جديد شعلة ثورة في نفوس، وكأنها لعنة كلما كذبنا وقلنا انها صدفة او خدعة اصبنا بها ولكن لقد...
Yusuf Ali -
منذ يوملن أعلق على كل كلامكِ والكثير من المغالطات التي وردت، وسأكتفي بالتعليق على خاتمتكِ فقط:
قلتِ:...
مستخدم مجهول -
منذ يومينThis media body is clearly within the circles of the Makhzen. Otherwise, it would not have been...
Samah Al Jundi-Pfaff -
منذ يومينفي اللاذقية قصص مثيرة للدهشة وللمزيد من البحث. اللاذقية مدينة القصص عير المكتشفة. شكرا
Karen Borji -
منذ 3 أيامعين الأصالة شمس الحدود كتبي واحزاني دفعتني إلى الحدود سكر وملح من انا غياب شروق عنبرة كتاب...
Cat Angel -
منذ 3 أيامفعلا المقال شد انتباهي لقراءته بالكامل، الأسلوب الساخر ذكرني بالعملاقين أحمد رجب ومحمد عفيفي....