شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
رقص الفتيات في طهران

رقص الفتيات في طهران

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

طال انتظارنا لنلتقي بصديقتنا في أحد مقاهي العاصمة، المدينة التي يعجز اللسان عن وصف زحامها حتى باتت شوارعها موقفاً للسيارات وحسب. جاءت غير مبالية بالتحركات البوليسية الأخيرة في الممرات لـ"تحجيب" الفتيات: لا وشاح على رأسها ولا قميص طويل يصل إلى ركبتيها.

تقول إنها لا تبحث عن شهرة ولا عن استرزاق من فنّها، بل تمارس هوايتها لأنها تحبها فقط، وتؤدي أفضل عروضها كي تتمتع هي نفسها، فهي تلمس الرّوح قبل أن تكون جسداً يتبع الإيقاع وفق قواعد محددة. وعلى غرار ما قاله المطرب الإيراني الشهير محمد رضا شجَريان عن الموسيقى، ترى بالرقص ما يراه صوت إيران الخالد: "الموسيقى تمنح الإنسانَ التفكير".

تعلمت "تارا"، الباليه، خاصةً الكلاسيكي منه، حتى وصلت إلى الرقص المعاصر (Contemporary Dance)، فوجدت ضالتها فیه. ما تريده هو أن ترقص فقط؛ أن تدور على رؤوس أصابعها ويداها مفتوحتان على اتساع البهجة وكفاها تتلاعبان كالنّسيم.

لا توجد أي معاهد أكاديمية أو رسمية في إيران لتعليم الرقص، ناهيك عن أي اعتراف رسمي بهذا الفن، بل هناك معاهد للفنون التمثيلية خاصة بالنساء تقوم بتدريب الرقص تحت إشراف الوزارة، ولكن مع مراعاة ألا تفصح تلك الصفوف عن مفردة "رقص" في دعاياتها

نجحت تارا في إقناع والدها الذي لم يكن مرحّباً بالفكرة. ولكيلا تكون عبئاً على أسرتها سددت تكاليف الدورات التعليمية للرقص بمستحقاتها من جراء العمل في تصميم المواقع الإلكترونية الذي يعتبر مهنتها الأساسية.

قررت الفتاة أن تشارك في ورشات رقص في روسيا وتركيا، حالها حال المحترفين/ات في بلادها. وبرغم خجلها، لبّت ذات يوم رغبتها الداخلية وارتقت المسرح راقصةً. وتذكر لنا حضورها في حفل سفارة النمسا في طهران لعرض رقصة الباليه، ومشاركتها في عرض رسمي مخصص للنساء: "نرقص بالحجاب الكامل، وهناك قيود على أدائنا. على سبيل المثال يجب ألا نرفع زاوية أرجلنا أكثر من 90 درجةً، بيد أننا تدربنا كثيراً لرفع أقدامنا حتى رؤوسنا (180 درجةً)، على غرار رقصة الباليه".

تارا

يشرف فريق نسائي من وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي على العروض التي تقدَّم في القاعات الرسمية في البلاد. وبرغم أن العرض نسائي بحت ولا يمكن للرجال حضوره، إلا أن الفريق يقوم بتطبيق ضوابطه كاملةً؛ رقابة تكبت آمالهن وتحبط معنوياتهن وتْدمع عيونهن أحياناً.

هي مختلفة تماماً عن زميلاتها، إذ لا ترغب تارا في تعليم الرقص، فهي مهمة صعبة لشخصيتها الكمالية. لكنها تؤكد أن صفوف الفتيات تلك تزايدت في الآونة الأخيرة، وحسب رأيها: "أحياناً كثرة الصفوف تأتي بنتيجةٍ سلبية وتقلل من جودة التعليم".

عن حرية النساء في ممارسة هوايتهنّ، تعتقد أن في بلادها تتفنن الفتيات في أي مهنة يخترنها دون أن يشتهرن ويذيع صيتهنّ، تماماً كما حصل معها، هي التي تدربت على رفع زاوية رجليها حتى 180 درجةً، بينما كان عليها أن ترفعها 90 درجة فقط. وإن تحققت تلك السمعة، فعليهن أن يكنّ مستعدات للاستجواب والحياة تحت رحمة الخوف.

برغم هذا كله، هي راقصة الرقص المعاصر باحتراف ومهارة. تتفنن فيه وتشارك صديقاتها/أصدقاءها وكل متابعيها يومياتِ تدريبها على حسابها الشخصي في منصة إنستغرام. ربما تعبّر تارا بجسدها عن ذاتها لتَشعرَ بذوات الآخرين ولكي تتخلى عن الكلام. كما أنها تستعد للمشاركة في أداء فني (performance) مع صديقاتها، وهو عرض تباع تذاكره بعيداً عن عيون الحكومة، فهو نوع من النشاط على غرار موسيقى "الـback ground"، لا يعرف عنه إلا القليل من المعارف والأصدقاء.

المتمردة

على النقيض من تارا تماماً، وجدنا صديقتها "غزال" في ورشتها لتعليم الرقص، هي ترقص بلا خجل أينما دُعيتك في حفلات الزفاف، و"لمّات" الأحباب، منذ نعومة أظافرها. أسرتها مشجعة لها، وقد واكَبَتها بدايةً من الأماكن الضيقة إلى حلبة الرقص. تتفنن غزال في جميع أنواع الرقص من الشعبية والكلاسيكية إلى المعاصرة. أما اختصاصها فرقصتا الباتشاتا (Bachata) والهيب هوب.

تروي لنا بمزيج من مشاعر الشغف والسخرية والاستهزاء، قصةَ انفلاتها من يد الرقابة حين أدت رقصة الباتشاتا على خشبة المسرح للنساء: "قبل الأداء كان لا بدّ من عرض لوحتنا الفنية التي تضم رقصات متعددةً على لجنة الرقابة، ثم تأتي التعديلات على نوعية أدائنا، ولم يكن مسموحاً بعرض الرقصات الغربية، بيد أن عدم معرفة المفتشات برقصة الباتشاتا جعلهن يتخطين حذفَها، وهكذا نجحتُ في أدائها".

عراقيل مسيئة لا تتوقف، وإصرار على مواصلة الشغف لم ينقطع. وغاية غزال هي الرقص على خشبة الفن كي ينعش حياتها بالأمل والحب، لذلك تبحث برفقة شقيقتها للحصول على ترخيص جديد لتقديم لوحة رقص متكاملة أخرى، وهي تعلم مدى استنزافها من طاقة هائلة: "لا أستطيع إنهاء عملي، لم أستسلم، سأستمر على أي حال".

غزال

سعت غزال وأختها إلى تحرير الرقص من لعبة استعراض الجسد وحسب. شغف لم ينتهِ عند فتاة ذات شخصية انطوائية. فعند بدءِ الأغاني يزول كلّ وقارها الراسخ في الأذهان وجديتها المعتادة، لتتمايل برشاقة بما يتناسب مع الألحان؛ حركات مرحة كما لو أنها بطلة كلمات الأغنية.

نعود إلى صفوفها المستمرة طوال أيام الأسبوع في مدرسة نسائية حيث تمارس نشاطها بشكل غير علني حتى لا تتعرض للمساءلة القانونية. ترى في ظاهرة الإقبال على تعليم الرقص فرصةً لتحسين أحوال سيدات بلادها. تقول إن المراهقات يسارعن إلى المشاركة في صفوف رقص الهيب هوب والرقصات الحديثة، أما السيدات الأكبر سناً فيطلبن تعلّم الرقص الشعبي.

تنقل المدربة حكايات طالباتها اللواتي يصطحبن أطفالهن إلى الورشة لا من أجل شغف أطفالهن بالرقص أحياناً، بل لأنهن أصبحن أمهات في العقد الرابع من عمرهن دون أن يمارسن شغفهن، فالكبت بقي ثقيلاً على صدورهن، بيد أنهن قررن ألا يورثنه لجيل جديد: "عشنا بحسرة، فلا نريد لأطفالنا أن يعيشوا تلك التجربة المريرة"؛ تلك هي أشهر عبارة تتردد على مسامع غزال داخل ورشتها.

لا توجد أي معاهد أكاديمية أو رسمية في إيران لتعليم الرقص، ناهيك عن أي اعتراف رسمي بهذا الفن، بل هناك معاهد للفنون التمثيلية خاصة بالنساء تقوم بتدريب الرقص تحت إشراف الوزارة، ولكن مع مراعاة ألا تفصح تلك الصفوف عن مفردة "رقص" في دعاياتها وشهاداتها حتى تغض السلطات الإيرانية بصرَها عن تلك الصفوف، فتبقى المدارس تتسابق على التحايل لاختيار عناوين تلتف بها على تلك الحروف الثلاثة المحرمة: "العروض التمثيلية"، "العروض الإيقاعية"، و"ورشة حركة الجسم".

في قصيدته الشهيرة "في هذا المأزق"، وصف لنا الشاعر الإيراني المعاصر أحمد شامْلو شامْلو، قبل خمسة عقود، ما يحدث في بلاده اليوم، ومطلعها: "يشمّون فمَكِ، خشيةَ أن تكوني قد قلتِ: أحبّك... إنه زمن غريب يا عزيزتي!".

الكبت والاختناق حالا دون عولمة الرقصات الإيرانية. هذا ما توضحه الفنانة لنا معللةً عدم معرفة الجميع بتلك الرقصات، وترى الحلّ في مراجعتها وتحديثها وفق ظروف اليوم وتعليمها رسمياً كي تكون جذابةً للأجيال الحديثة.

راقصة المآتم

نودّع "غزال" ونلتقي بـ"ليدا"، إحدى ممتهنات الرقص التي لم تترعرع كما تشتهي، إذ نشأت في أسرة ملتزمة دينياً ووجدت نفسها تحارب من أجل أحلامها، هي الفتاة النابضة بالحياة التي تعشق الموسيقى الفرنسية.

في الثلاثينيات من عمرها عاشت تجربةً شخصيةً مريرةً، أدخلتها في دوامة اليأس والكآبة حتى تعبت من كونها إنساناً بائساً "تهرب العصافير من ظله" كما وصفت، فحاولت التعافي بشتى الطرق لكنها وقعت في فخ حبوب الدواء، إلى أن دعتها صديقتها لحضور صف للرقص.

أطلق الرقص رصاصة الرحمة على الكآبة. اختار الرقصُ ليدا، فتخلّت عن كل شيء، وبدأت حياةً جديدةً تمارس فيها هوايتها وتتمتع بها وحجزت لنفسها مساحةً من التميز في عالم عشقته منذ صغرها، لكنه ليس على إيقاع الموسيقى الفرنسية، بل على إيقاع أشعار فارسية وألحان إيرانية وعلى إيقاعات كلاسيكية نابعة من عمق حضارتها.

ليدا

"البلوشية والكردية والآذرية والخُراسانية والشمالية والجنوبية، أبرز الرقصات الإيرانية"، حسب وصف الفنانة شبه المحترفة لكل تلك الأصناف، والمتألقة في أداء الرقصات الأفغانية والطاجيكية والهندية أيضاً.

ثم تعلمت ليدا الرقصةَ الصوفية المولوية أو "السماع"، وتفننت في الالتفاف على نفسها، تدور بحريةٍ شاعرةً بأن الدنيا لا تسعها، حتى أبدعت في إدخال بعض الحالات مثل زيادة حركات الرأس إلى السماع.

يشقّ المواطنون طريقهم دون انتظار قيود الحكومة المفروضة على نمط حياتهم، وفي الآونة الأخيرة ازداد بث الرقصات المصورة على شبكات التواصل. إبداع وابتكار في فن الرقص يحصد ملايين المشاهدات، ليعكس للعالم وجهاً حقيقياً لإيران تحاول الحكومة إخفاءه

وبالتمرد نفسه الذي دخلت فيه عالم الرقص، دخلت ليدا المآتم راقصةً بخفة روحها: "دُعيت لأداء الرقصة المولوية في مجلس عزاء وحفل خطوبة وعيد ميلاد، وتكررت هذه الدعوات في ما بعد، ولا أظن أن أحداً قبلي قام بأداء رقصة سماع في مثل هذه الطقوس من قبل"، تشرح راضيةً عن مهنتها برغم قلة عوائدها، وتصرح بأن الرقصة المولوية حديثة على مثل هذه المجالس، لكن صداها بات أكثر تأثيراً ورفعةً في بلادها.

ومن الغريب أن يتجسد فن الرقص في المناسبات الحزينة، لكنها جعلت من جسدها غايةً قبل أن يكون أداةً، ورقصت بكل كيانها ووجهها ذي التعابير الفارسية الجميلة.

غزال

الفالتة

انتقلنا إلى رفيقة درب ليدا في المولوية، "پَريسا"، التي تنوي الانشغال في عالم العلاج بالرقص والحركة، كي تخلص الناس من عدم تواصلهم مع الحياة والعالم من حولهم، وهمّها أن نرقص قدر ما نشاء.

"ليس هناك تصنيف للرقص كأن نقول هذا جميل أو هذا قبيح. علينا أن نرقص لنتخلص من اضطراباتنا النفسية، ولأن الرقص جزء من العلاقات الاجتماعية البشرية"، هكذا تقول وقد احترفت أنواعاً لا بأس بها من الرقصات. واضح أن پريسا تريدنا أن نستمع إلى أجسادنا، فتؤكد على الرقص العفوي والمتحرر من القواعد لكي تنطلق أجسادنا وتتحرر أرواحنا وأفكارنا بشكل يسمح لنا بالحدّ من موجات الكآبة والإجهاد والتوتر، في بلد يعاني نحو ثلث سكانه من الاضطرابات النفسية حسب المصادر الرسمية.

پَريسا

يشقّ المواطنون طريقهم دون انتظار قيود الحكومة المفروضة على نمط حياتهم، وفي الآونة الأخيرة ازداد بث الرقصات المصورة على شبكات التواصل. إبداع وابتكار في فن الرقص يحصد ملايين المشاهدات، ليعكس للعالم وجهاً حقيقياً لإيران الذي تحاول الحكومة إخفاءه.

"تتكاثر الفيديوهات الفنية الرائعة للراقصات برغم كل الصعوبات والضغوط"، تشرح پَريسا ببهجة، إذ ترى في الرقص تحدياً لرتابة إيقاع الوجود، وحاجةً لتهتز شجرة الحياة وتتساقط الثمار، وفناً للخلاص من خجلنا وخوفنا.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard
    Popup Image