في سنوات دراستي الأولى، تحديداً في عام 1993، اعتذر صديقي المقرّب عن مواصلته منافستي على الركض في فناء المدرسة، وعن ضمّي إلى مجموعته للّعب الجماعي "من الآن فصاعداً". قال ذلك آسفاً، ووجهه بالكاد يرتفع عن الأرض من كثرة التحديق فيها، متحاشياً النظر إليّ. أخبرني بذلك، ثم ابتعد قبل سماع سؤالي الملحّ: "ليه؟".
لم تكن تلك حادثةً فريدةً بالنسبة لي. تكرّر رفض مشاركتي في الألعاب والأنشطة من أصدقاء وزملاء آخرين، ولاحظت تزامن ذلك مع "حصّة الدين"، حتّى أُغلقت دوائر الصغار في وجهي بعد أن كنت لا أكفّ عن اللعب مع الجميع.
في وقت لاحق، عُدنا مرةً أخرى للاندماج في الأنشطة التعليمية والترفيهية، وحينها عرفت أنّ مُدرِّسة مادتَي اللغة العربية والتربية الدينية الإسلامية، أخبرت أصدقائي بأنّ "اللعب مع المسيحيين بوّابتكم إلى نار جهنم". ومَن مِن الأطفال لا يخشى النار؟
لطالما آثار تدريس "الدين" كمادة في المدارس المصرية جدلاً، فهناك من يراها ضرورةً لتحلّي الأجيال الناشئة بـ"الأخلاق والقيم الفضيلة"، ومن يراها مدخلاً لـ"التطرف والتمييز بين الطلاب على أساس ديني"، وثمة فريق ثالث لديه قناعة بأنّ "تعليم الدين محله دور العبادة لا المدارس".
زاد قرار وزير التربية والتعليم والتعليم الفني في مصر، محمد عبد اللطيف، مؤخراً، إضافة مادة "التربية الدينية" إلى المجموع بما في ذلك خلال المرحلة الثانوية، بعدما كانت مادة نجاح ورسوب فحسب لا تُحتسب في المجموع، الضجّة حول جدوى تدريس "الدين"، خاصةً في ظلّ وجود طلاب مسلمين ومسيحيين، وتعدّد طوائف الدين المسيحي، ما يُثير تساؤلات حول مدى أهلية المدارس في مصر لتدريس هذا المحتوى التعليمي.
لطالما آثار تدريس "الدين" كمادة في المدارس المصرية جدلاً، فهناك من يراها ضرورةً لتحلّي الأجيال الناشئة بـ"الأخلاق والقيم الفُضلى"، ومن يراها مدخلاً لـ"التطرف والتمييز بين الطلاب على أساس ديني"، وثمة فريق لديه قناعة بأنّ "تعليم الدين محله دور العبادة لا المدارس"
"الدين" في المناهج المصرية
في كتابه "الأقباط والتعليم في مصر الحديثة"، يشير أستاذ ورئيس قسم الاجتماع والتربية في معهد الدراسات القبطية سابقاً، نسيم سليمان، إلى أنّ المصريين القدماء أنشأوا المدرسة ملحقةً بالمعبد، أو حيث وُجد المعلِّم القادر على التدريس، وكانت تضمّ البنين والبنات دون تفرقة، وكان التلميذ يدرس أساسيات المعرفة والمعلومات العامة. أمّا الأطفال الذين لم يتمكّنوا من التعلّم، فكانوا يشاركون آباءهم مهنة الزراعة. ويضيف أنّ المدرسة وُجدت فيها -غير القراءة والكتابة- أقسام لتعليم الحرف المختلفة.
يتابع: "كان يطلَق على المكتبة اسم 'دار الحياة'، وكانت بمثابة مجمّع علمي يقصدها الملوك للاطّلاع على محتوياتها... أو لاستشارة أهل الرأي فيها من رجال الدين والحكماء".
ويوضح سليمان، أنّ المدارس أُلحقت بالكنائس بدلاً من المعابد، وأُنشئت المدرسة اللاهوتية في الإسكندرية، ثم بعد دخول الإسلام مصر، ظهرت المدارس المُلحقة بالمساجد. وتوالى إنشاء المدارس خلال عهدَي الدولة الأيوبية والمملوكية. لكن مع انطلاق مشروع الدولة المؤسساتية لدى تولّي محمد علي باشا حكم مصر، عام 1805، بدأ التغيير في نظام التعليم ليكون على نسق الأنظمة الحديثة، وذلك عبر تأسيس المدارس العسكرية والتجهيزية والابتدائية.
ويُقسّم الباحث في المركز القومي للبحوث التربوية في القاهرة، الدكتور كمال مغيث، النظام التعليمي التقليدي في مصر إلى نوعين رئيسيين:
الأول، التعليم المهني، أو الحرفي، حيث يتعلّم الأفراد الحرف المختلفة من خلال التلمذة المباشرة، مثل العمل في ورش النجارة أو صياغة الذهب، حيث يبدأ المتدرِّب في سنّ صغيرة، ويقوم بمهام بسيطة كرشّ المياه، ثم يتعلّم المهنة بالملاحظة والممارسة.
أما الأخير فهو التعليم الديني الذي شمل الدراسة في الكتاتيب الإسلامية، ومدارس اللاهوت المسيحية، وكان يتخرّج منهما الوعّاظ، والمأذونون الشرعيون، ورجال الدين.
يشرح مغيث، لرصيف22، أنّ التعليم الحديث قام على تحقيق هدفين رئيسيين: أولهما التأهيل المهني، بدايةً من إجادة القراءة والكتابة حتّى امتهان كل فرد مجاله، وثانيهما تعزيز المواطنة حيث كان التعليم في مصر قبل عصر محمد علي باشا، طائفياً، إذ كان المسلمون يدرسون في مؤسسات دينية، والمسيحيون في مدارس أرثوذكسية وكاثوليكية، وكذلك اليهود. لكن في مشروع محمد علي باشا، وعند تأسيسه الدولة الحديثة، ظهر مفهوم التعليم الوطني الذي يعزّز الانتماء إلى الوطن قبل الهوية الدينية.
"حتّى أربعينيات القرن العشرين، استمرّت بعض الإشكاليات في النظام التعليمي، حيث كان هناك تعليم حكومي، وتعليم أهلي (خاص)، بالإضافة إلى التعليم الأجنبي وتعليم الطوائف المسيحية المختلفة، فضلاً عن التعليم الأزهري. لكن بخلاف الأخير، لم تكن التربية الدينية تُعدّ قضيةً أساسيةً في المدارس"، يضيف مغيث.
ويُدلّل على ذلك، بمشهد من فيلم "شباب امرأة" إنتاج عام 1956، حين أخبر البطل -الشاب الريفي الساذج المنتقل إلى القاهرة للدراسة، والذي يجسده الفنان شكري سرحان- أحد زملائه بأنّهم لا يدرسون القرآن في المدرسة، حين وجده يردّد بعض الآيات، ما يعكس أنّ "تدريس الدين" لم يكن منهجاً أساسياً حتّى تلك الحقبة.
مع الوقت، لم تكن دراسة مادة التربية الدينية إلزاميةً إلا في سياق التغيّرات السياسية والاجتماعية التي شهدتها مصر، لا سيّما مع زيادة نفوذ جماعة الإخوان المسلمين والجماعات الدينية.
وفي دراسته "التعليم في منطقة الصيد... الدولة والإخوان"، يقول الباحث والأكاديمي المصري سامح فوزي، إنّ "التيارات الإسلامية، وبالأخص جماعة الإخوان المسلمين، تعتبر السيطرة على وجدان الناس معركتها الأساسية، وتستخدم في سبيل تحقيق ذلك أدوات عدة في مقدمتها التعليم"، مدلّلاً على ذلك بأنّ "مؤسس جماعة الإخوان المسلمين حسن البنا كان مدرّساً، وأدرك أهمية التعليم في تنشئة الفرد المسلم' و'المجتمع المسلم'، بما يمهّد لهيمنة الجماعة على الصعيدَين الاجتماعي والسياسي".
ويرى مغيث، أنّ هذا النهج بالتحديد كان سبباً في الصراع بين الدولة المصرية من جهة، وجماعة الإخوان المسلمين من جهة أخرى، حيث اضطرت الحكومة في وقت قوة الجماعة إلى إدراج "الدين" مادةً دراسيةً، كشكل من أشكال "إمساك العصا من المنتصف، ومداهنة الأفكار الرجعية"، وذلك في عهد رئيس الوزراء إبراهيم عبد الهادي (كانون الأول/ ديسمبر 1948- تموز/ يوليو 1949)، حيث اتخذت الدولة إجراءات عدة تعكس إعلاء شأن النهج الديني في الحياة العامة والثقافية، تضمّنت أيضاً إلغاء البغاء، عام 1949.
ومع تولّي أحد الضباط الأحرار -وُصف بأنه كان "إخوانيّ الهوى"- كمال الدين حسين، وزارة التعليم بين عامي 1945 و1958، جرى التشديد على أهمية مادة "التربية الدينية"، كشرط للنجاح والرسوب، دون أن تُضاف إلى المجموع، واستمر هذا الوضع حتّى جاء وزير التربية والتعليم الحالي، محمد عبد اللطيف، ليقرر احتساب مادة الدين مُضافةً إلى الدرجات النهائية للمجموع بدايةً من العام الدراسي القادم، 2026.
تعليم "الدين" vs المواد العلمية
للوهلة الأولى، ربما يبدو التطرّف على الخط المعاكس للتعليم الديني، بحيث أنّه كلما زاد الأخير، قلّ العنف القائم على التشدّد الديني، إذ يتّجه الناس نحو الاعتدال، وتعزيز الروابط والمشاعر الإيجابية تجاه بعضهم البعض. لكن الواقع ليس كذلك دائماً، ففي بعض الأحيان يتسبّب تغوّل الجانب الديني على مظاهر الحياة في زحف الاستقطاب، وشعور كل طرف بأنّه على حقّ.
خلال حقبة سبعينيات القرن العشرين، ومع تولّي الرئيس محمد أنور السادات، حكم مصر (1970-1981)، وتحالفه مع التيارات الدينية، ترك للأخيرة المجال للتمدّد، ما أدّى إلى غياب المشروع الوطني للدولة، وهو ما انعكس على النظام التعليمي عموماً.
يقول مغيث: "طُبعت المناهج وصُبغت بصبغة دينية، وأصبحت العلوم الدينية تهيمن على الحصص المختلفة حيث أصبح المعلّمون يقدّمون حتّى المواد العلمية مغلّفةً بتعابير دينية إلى درجة أنّهم كانوا يحلّلون علوماً ويحرّمون أخرى. كما أصبحت مادة اللغة العربية تحتوي على آيات ونصوص كثيرة من القرآن. وتكرّر النظر بازدراء إلى الطالبات والمعلِّمات غير المحجبات في بعض المدارس، ورُحِّب بالمسرحيات التي تمجّد شخصيات إسلاميةً مثل خالد بن الوليد وعمرو بن العاص، بينما غابت الشخصيات الوطنية مثل مصطفى كامل، وأحمد عرابي".
من جهته، يحذّر الدكتور عماد رزيك عمر، من كلية القانون والعلوم السياسية في جامعة الأنبار العراقية، في بحثه "تأثير التنشئة الاجتماعية والسياسية في الاتجاه نحو التطرف"، قائلاً إنّ أبحاثاً أظهرت أنّ بعض المعلّمين قد يطبقون أسلوباً استبدادياً، ويميّزون بين "نحن" و"هم" عند التعامل مع التلاميذ المختلفين في الهوية الدينية، ما يجعل التعليم سبباً في الانقسامات القومية و/ أو المذهبية.
قرار وزير التربية والتعليم المصري، إضافة مادة "التربية الدينية" إلى المجموع بعدما كانت مادة نجاح ورسوب فحسب، يزيد الجدل حول مدى أهليّة المدارس المصرية لتدريس "الدين"، في ظلّ وجود طلاب مسلمين ومسيحيين، وتعدّد طوائف الدين المسيحي
"حصّة الدين" و"التفريق" بين الطلاب
وغير بعيد عن طريقة الصغار الذين أغلقوا دوائرهم الاجتماعية في وجه معدّة التقرير، تشارك كلير المصري، وهي مديرة سابقة لمكتبات جامعة عين شمس، رصيف22، قصّتها مع "حصّة الدين"، التي لم تنسَها بعدما بلغت العقد السابع من عمرها. تقول: "في حصّة الدين، كان يتم الإبقاء على المسلمين داخل فصولهم، أما نحن (أي الطلاب المسيحيين)، فنقضي وقتاً طويلاً من زمن الحصّة في البحث عن مدرِّس وعن مكان لتعلّم الدين المسيحي، فالمدارس عادةً لا توجد فيها قاعات أو مرافق مجهّزة لهذه الحصّة، والمدرّسون المسيحيون يوزعون في ما بينهم حصص التربية الدينية، وإن كانوا جميعاً مشغولين، تُلغى الحصة".
تضيف كلير: "بعدما يضيع أغلب وقت الحصة في البحث عن مدرِّس ومكان، قد ينتهي بنا الحال إلى الدراسة في فناء المدرسة، وفي أحيان أخرى كنا نبقى مع الطلاب المسلمين، نحفظ السور والآيات القرآنية. حفظت آيات كثيرةً من القرآن بسبب مراحل تعليمي الأولى في فترة سبعينيات القرن العشرين".
زوج كلير، الطبيب والباحث في الشأن القبطي، كمال فريد، يقول هو الآخر لرصيف22: "لم تكن حصة الدين المسيحي بالنسبة لنا منتظمةً، لأنها كانت مرهونةً بوجود مدرّس مسيحي، والذي عادةً لم يكن مختصاً أو خريج إحدى كليات اللاهوت، وإنما كان مسيحياً فحسب، وقد يكون معلّم/ ة رياضيات أو علوم أو لغة إنكليزية. وفي حال غيابه أو انشغاله بحصته الأساسية، نبقى في الفناء إلى حين انتهاء الحصة".
ومن جيل آخر، ومن مدينة أخرى في الفيوم، تروي الصحافية ماريانا سامي (26 عاماً)، أنّ "حصة الدين" في المدرسة لم تكن تضيف "أي قيمة أخلاقية حقيقية، ليس فقط لأنّ المدرسة مكان غير مناسب لحصة الدين، بل لأنها أيضاً تخلق وضعاً عبثياً، خاصةً للأقليات الدينية".
تضيف لرصيف22: "لا تزال ذاكرتي تحمل مشهد طفولتي في المرحلة الابتدائية، حين كنت أنا وأربعة من زملائي نُجبَر على مغادرة الفصل مع معلمة الدين المسيحي، ونجوب أرجاء المدرسة بحثاً عن مكان نستقرّ فيه. وفي النهاية، كنّا نجلس على مقعدَين بجوار السلّم، بينما زملاؤنا المسلمون يبقون في الفصل حيث الأجواء المعتادة للدراسة والمقاعد المريحة". تقول إنّه "لم يكن الأمر مجرد نقص في التنظيم، بل كان إحساساً واضحاً بالإقصاء، وكأننا زائدون عن الحاجة، مجرد أفراد ينبغي إبعادهم إلى الهامش".
وتردف ماريانا، أنّ المناهج كانت انعكاساً لهذا التمييز، حيث كانت "تحمل رسائل ضمنيةً وصريحةً تعزّز التعصّب، وتغذّي شعور التفوّق لدى البعض والدونية لدى البعض الآخر"، بل كانت "تُلقّن الأطفال أنّ زملاءهم المختلفين عنهم في العقيدة هم 'ضالّون' و'كفّار'، وعلى الجانب الآخر 'أبناء العالم' و'لن يدخلوا الملكوت'، وكأنّ الحصة لم تكن درساً في الدين، بقدر ما كانت درساً في الفرقة والكراهية".
التطرّف حصيلة إقحام الدين؟
لا تتعلّق الإشكالية بانقسام الطلاب بين الدين الإسلامي والدين المسيحي فحسب. هناك إشكاليات تتعلّق بتدريس الدين المسيحي من وجهة نظر الأغلبية في مصر فقط، أي الأرثوذكس. ينتج عن ذلك الكثير من الأسئلة الجدلية لدى الطلاب على غرار: من الأحق بالملكوت... نحن أو الإنجيليون؟.
في عامها الدراسي الخامس في المرحلة الابتدائية، كانت معدّة التقرير في مدرسة إنجيلية، وحين أجابت المعلِّمة عن سؤال "من الأحق بالملكوت؟"، بأنّ "الجميع في الملكوت، والمقياس الوحيد هو صلاح الله الذي لا يُفرّق بين الطوائف"، احتجّ الأطفال المشبعون بإجابة "الأرثوذكس فقط وحدهم محتكرو الملكوت". وعندما علموا بطائفتها، اشتكوا إلى أولياء أمورهم الذين قدّموا بدورهم شكوى لإدارة المدرسة معربين عن رفضهم تدريس الدين المسيحي على أيدي "إنجيلية". استجابت لهم إدارة المدرسة، واستبعدت المعلِّمة من تدريس مادة "الدين المسيحي" التي بقيت بلا مدرّس/ ة قرابة نصف العام.
تعترف معدّة التقرير، بأنّها كبرت وتشبّعت بـ"أننا (الأرثوذكس) الطائفة الأصح مقارنةً بأصحاب باقي الطوائف المسيحية التي تختلف معنا في أمور جوهرية منها الصوم والمعمودية، لتدار حصص الدين بطريقة تعمّق الفجوة بين المختلفين داخل الدين الواحد، لا بين الدين الإسلامي والدين المسيحي فحسب، وتخبر أصحاب كل دين/ طائفة بأنّهم أهل الجنّة/ الملكوت، ومن عداهم في النار مخلّدون".
تؤكد الحديث نانسي رفيق (37 عاماً)، التي تقول لرصيف22: "معلِّمة مادة العلوم التي كانت تعطينا مادة الدين المسيحي في تسعينيات القرن العشرين، كانت تقول: 'الإنجيليون لن يدخلوا الملكوت، يمكن أن تكون لهم مكانة جيدة وفق أعمالهم، لكن لن يروا المسيح كما يراه الأرثوذكس'".
"قبل عصر محمد علي باشا، كان المسلمون يدرسون في مؤسسات دينية، والمسيحيون في مدارس أرثوذكسية وكاثوليكية، وكذلك اليهود. لكن في مشروع محمد علي باشا وعند تأسيسه الدولة الحديثة، ظهر مفهوم التعليم الوطني الذي يعزّز الانتماء إلى الوطن قبل الهوية الدينية"
إشكالية إضافة "الدين" إلى المجموع
في كتابه "نقد الفكر الديني"، يوضح المفكر السوري صادق جلال العظم، أنّ العلم والدين يتناقضان في العديد من الأمور الجوهرية، منها الطريقة أو المنهجية التي يتم اعتمادها لأجل الوصول إلى قناعات ومعارف تجاه موضوعات ما. ويشرح: "بالنسبة للدين الإسلامي -كما بالنسبة لغيره- المنهج القويم للوصول إلى المعارف هو الرجوع إلى نصوص معيّنة تعتبر مقدسةً أو منزلةً، أو الرجوع إلى كتابات العلماء والحكماء الذين درسوا وشرحوا هذه النصوص. أما تبرير العملية بأسرها فيستند إلى الإيمان، أو الثقة العمياء بحكمة مصدر هذه النصوص وعصمته عن الخطأ".
ويشير الكاتب، إلى أنّ الطريقة العلمية على النقيض مما ذُكر في المنهجية الدينية: "تتنافى تماماً مع هذا المنهج الاتّباعي السائد في الدين، لأنّ المنهج العلمي قائم على الملاحظة والاستدلال، على أن يكون التبرير الوحيد لصحة النتائج التي يصل إليها هذا المنهج، هو مدى اتّساقها المنطقي مع بعضها، ومدى انطباقها على الواقع".
"معلِّمة مادة العلوم التي كانت تعطينا مادة الدين المسيحي، كانت تقول: 'الإنجيليون لن يدخلوا الملكوت، يمكن أن تكون لهم مكانة جيدة وفق أعمالهم، لكن لن يروا المسيح كما يراه الأرثوذكس'".
وخلال الأيام الماضية، كشفت محاولات وزير التعليم المصري عبد اللطيف، الربط بين الدين و"الأخلاق"، حالةً من التناقض والغرابة حين سأل: "إزاي أطلب من الطالب يتمسّك بالأخلاق ومنضفش الدين للمجموع؟".
السؤال نفسه يحمل مغالطةً منطقيةً، ﻷنّ هذا لا يعني ذاك، حيث لم تأتِ الأديان بالأخلاق، والأخلاق ليست وليدة دين ما، وهو ما يُعبّر عنه مغيث، إذ يقول: "من المغالطات للمنطق الاعتقاد بأنّ تدريس التربية الدينية يؤدي بالضرورة إلى تحسين الأخلاق. فالإسلام والمسيحية كلاهما يقومان على القيم الأخلاقية، ولكن لا يوجد بحث علمي واحد يثبت أنّ تدريس الدين في المدارس ينعكس مباشرةً على سلوك الأفراد. الطفل قد يكره مادةً علميةً لأنّها صعبة، ولكن هل نقبل أن يكره الدين لأنه لا يستطيع اجتياز امتحانه؟".
ويستطرد الباحث المصري: "التعليم يجب أن يكون وسيلةً لخلق مواطن صالح، وليس أداةً للتمييز أو التفرقة بين الطلّاب/ المواطنين. والأصل أن يُدرّس الدين كجزء من الثقافة العامة، وليس كمادة تُختبر فيها المهارات الأكاديمية، لأنّ الهدف منه هو بناء القيم، وليس قياس الحفظ والاستذكار".
كما يؤكد مغيث، أنّ "المدرسة مؤسّسة ثقافية وسياسية في الأساس، ويجب أن تخضع المناهج لمقتضيات الدولة الحديثة، وليس العكس. اليوم، أصبح التعليم معتمداً على الدروس الخصوصية، حتّى في التربية الدينية، ما يفتح باباً للتمييز. على سبيل المثال، إذا حصل الطلاب المسيحيون على درجات ضعيفة في التربية الدينية، فقد يشعر ذووهم بأنّهم مُهمَّشون أو يُنظر إليهم باعتبارهم أقلّ تديّناً، ما يعني فتح الباب على مصراعيه لمشكلات وأزمات أكبر".
ويلخص مغيث "الإشكالية" في هذا القرار الأخير، بقوله إنه "يُفترض أن تأتي المواطنة قبل الانتماء الديني، ولذلك فإنّ جعل التربية الدينية مادةً تُحتسب بالدرجات قد يكون أمراً إشكالياً. فالأصل في الأديان هو الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، ولم يكن هناك اهتمام في التاريخ الإسلامي أو المسيحي بقياس مدى حفظ النصوص بقدر الاهتمام بالقيم والمبادئ الأخلاقية، كما أنّ التعليم المؤسسي الوطني، هو الذي يجب أن يكون موحَّداً ومتفقاً عليه من قبل جميع المواطنين".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 16 ساعةأن تسخر التكنولوجيا من أجل الإنسان وأن نحمل اللغة العربية معنا في سفرنا نحو المستقبل هدفان...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يوملم تسميها "أعمالا عدائية" وهي كانت حربا؟
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أيامnews/2025/03/12/nx-s1-5323229/hpv-vaccine-cancer-rfk في هذا المقال بتاريخ لاحق يشدد الأطباء على...
جعفر أحمد الكردي -
منذ 3 أيامجهلك سافر يا هذا ، لو سألت أباك الذي تدعي أنه من أهل الدين والتدين لقال لك بأن شيخك المزعوم كان...
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعلى رغم الحزن الي كلنا عمنعيشوا و الي انت كتبت عنه هون بس كثير حلو الي حكيته و اي نحن السوريين...
Souma AZZAM -
منذ 6 أيامالدروز ليسوا نموذجًا واحدًا في الاعتقاد والسلوك. اما في مستوى العقيدة، فهم لا يؤمنون بالسحر، وإن...