دعا "تجمُّع سوريا الديمقراطيّة" إلى المشاركة في اعتصام مدنيّ، وذلك يوم الأحد التاسع من شباط/فبراير الجاري، الساعة العاشرة صباحاً أمام الحديقة الوطنيّة (حديقة الباسل سابقاً) في طرطوس.
وقد حدد أعضاؤه بشكل مسبق أهداف هذا التجمع على منصّاتهم؛ "لا للتسريح التعسفي والإجازات القسرية التي تنتهك القانون"، و"لا للتفريق بين الطلاب والطالبات والتدخّل في الحياة الاجتماعية". كما عارضوا "انتهاك المواقع الأثرية، فهي إرث يجب الحفاظ عليه"، و"العقوبات الجسدية التي تنتهك القانون المدني وشرعة حقوق الإنسان". الدعوة إلى الاحتجاج جاءت من "الحركة المدنية الديمقراطية" و"تجمع سوريا الديمقراطي" و"الحزب الدستوري السوري" (حدس) و"جمعية سنديان"، ولعلها كانت أول اعتصام مدني منظّم وليس احتجاجاً عفوياً في طرطوس بعد سقوط حكم الأسد.
![دعوة "تجمّع سوريا الديموقراطية" للاعتصام المدنيّ في طرطوس](https://s.raseef22.net/storage/attachments/1100/201835.jpg/r/340/201835.jpg)
تهديدات قبل الاعتصام
وفور الإعلان عن المظاهرة، بدأت التهديدات تصل للأعضاء والمؤسّسين، وبدأت الدعوات على مواقع التواصل الاجتماعي، والتحريض ضد المعتصمين السلميين، بأنهم يريدون "دولة علمانية" و"اختلاط النساء بالرجال في المدارس"، كأن بالنسبة للبعض هذه "جرائم"، وهي بالتالي "أسوأ" ما يحدث في سوريا.
ورغم وجود المطر والخوف المتأصّل من التظاهر والتعبير عن الرأي منذ أيام النظام البائد، اجتمع نحو 200 معتصم معظمهم كان من النساء، على السور الغربي للحديقة وبالقرب مبنى محافظة طرطوس ومبنى الحزب البائد، وهي نقاط رئيسة تتمركز فيها قوات الأمن العام.
فور الإعلان عن المظاهرة، بدأت الدعوات على مواقع التواصل الاجتماعي، والتحريض ضد المعتصمين السلميين بأنهم يريدون "دولة علمانية" و"اختلاط النساء بالرجال في المدارس" كأنها "جرائم" وأنها "أسوأ" ما يحدث في سوريا
قائدنا... للأبد
بعدها أتت مجموعة قليلة ممن يسمون أنفسهم بين بعضهم البعض "حراس النظام" (بحسب الصحافي السوري عبد الله علي والذي كان مشاركاً في الاعتصام) وبدأت تهتف بطريقة استفزازية، وقد حاول المعتصمون مسايرتهم وعدم الانجرار وراء الانفعالات، لكن العصبية كانت سيدة الموقف.
بدأت المظاهرة المضادة بهتافات "قائدنا للأبد سيدنا محمد" و"الإعدام للشبيحة"، هنا أتساءل ما معنى الرد على مطالب خدمية معيشية بشعار "قائدنا للأبد... سيدنا محمد"، وأعتقد أنّ هذا ليس رداً على الاعتصام المدني، وإنما على تلك المسيرات المؤيدة التي خرج بها موالو الأسد سابقاً، وربما لم يستوعبوا أنّ من يعتصم هم معارضون سابقون للأسد، لأنه هنالك من يعتقد اليوم بإنّ كل من يتظاهر -ولو بمطالب معيشية- هو ضد الشرع، وكل من هو ضد الشرع، هو يوالي الأسد بالضرورة، ناهيك عن اعتقادات راسخة أنّ كل من أفراد الطائفة العلوية موالون ومنتفعون من نظام الأسد، وعليه يكون شعار "قائدنا للأبد سيدنا محمد"، رداً على شعار "قائدنا للأبد الأمين حافظ الأسد"، ولو لم يقله المعتصمون وكانوا طوال تاريخهم ضده.
وعندما بدأ هتاف "نفديكي يا ثورة، والإعدام للشبيحة"، شاركهم المعتصمون تلك الشعارات وأضافوا عليها "الشعب السوري واحد".
ثم بدأت المظاهرة المضادة تقترب، وبدأ النقاش ولو بصيغة متوترة بين ممثلين عن التجمعين: "وين كنتو لما كانوا يقصفونا ويعتقلونا ويغتصبوا نساءنا" و"الدولة مامعا مصاري محفاية ومفلسة"، وكان رد المعتصمين السلميين: "الثورة السورية كانت ولا زالت ثورة كرامة وحرية، لذا دعوا الناس تعبر عن رأيها ومطالبها"، و"نحن نعلم أنها مرحلة صعبة، ولكن الرواتب مطلب إسعافي لا يحتمل التأجيل، ومشان الشبيحة العدالة الانتقالية هي التي ستأخذ حقوقنا".
ضرب المتظاهرين... من جديد
في العاشرة وأربعين دقيقة، بدأت الشرارة بادعاء شخص من المظاهرة المضادة أنه سمع أحد المعتصمين يقول: "هدول إرهابيين"، فهجم اثنان منهم على من اتهموه بهذا القول، وهو يونس سليمان، الذي اعتقله النظام البائد ثلاث مرات، واعتدوا عليه بالضرب، وقد دافع عنه اثنان من المظاهرة المضادة، وهذا ما أعتقد أنه نقطة إيجابية تُسجل لصالح الشعب السوري، ولعلها أول نقطة ضوء على جبين الظلام.
وبطبيعة الحال كان الكثير من المحتجين يصوّرون ما يجري من خلال موبايلاتهم، وقد لاحقوهم لحذف كل ما صوروه من اعتداء لفظي وجسدي عليهم، ولكن الوحيد الذي كان يملك كاميرا هو المصور علاء موسى، تهجموا عليه بشدة لأنه قام بتصوير عمليات الضرب، فلم يدافع عن نفسه وإنما عن كاميرته فقط، وامتلأ وجهه بالدماء، ومن المعروف عن علاء معارضته الشديدة لنظام المخلوع، ومن شدة فرحه بسقوط نظام بشار الأسد بدأ بتنظيف شوارع مدينته، وقد زار مدينة إدلب، ليكون ربما أول فرد من مدينة طرطوس يزور إدلب بعد هروب الأسد، والإيجابي هنا أنّ هناك من دافع عن المصور من المظاهرة المضادة، وتدخل العقلاء لسحب يونس وعلاء وتهدئة الوضع.
كلنا مفرزات نظام ابن كلب
وبما أنّ "التهمة" هي العلمانية، فقد قام المتوترون من التظاهر المضاد بتوجيه شعارات ضد امرأة طرطوسية من الحركة المدنية، وقد هدّدوها بأنهم يعرفونها ويعرفون بيتها، وسيذهبون إليها.
وقد كتبت الصحفية رزان عمران (من المشاركين في الاعتصام) على صفحتها الشخصية: "من مؤيدي المخلوع كان هناك من يراقب، كان في لمعة بعيونن، ولأول مرة بيسلموا عليي، وبسعادة خفية لما يجري".
لكنها أكدت أنّ كل شيء كان متوقعاً بعد سنوات طويلة من الحزن والأسى "ساحة مقابل ساحة، كلنا مفرزات نظام ابن كلب"، والإيجابي أنّ الساحة اتسعت للجميع للتعبير عن رأيه؛ معتقل سابق في سجون المخلوع يبكي: "ليش ما حدا اتظاهر مشاني لما كنت معتقل"، وموظف مديون ومفصول اليوم من وظيفته التي كان يدفع ثمن المواصلات أكثر من راتبه للحفاظ عليها، ولم يستطع إسعاف ابنه إلى المركز الصحي في إحدى قرى الدريكيش بعد قرار إغلاقه، هذا ما رأيته معاناةً سوريةً خالصةً لا يمكن إنكارها، ولا تفيد المزايدة عليها بأي حال من الأحوال.
الهجوم على بيوت المعتصمين
ولم ينتهِ الاعتداء على المتظاهرين بانتهاء الاعتصام، ولم يشفع عندهم للناشطة مي يونس، عدم حضورها في الاعتصام (كانت في دمشق)، التي أعرف عنها مواقفها المعارضة لنظام المخلوع ومسارعتها عقب مجزرة البيضا في بانياس مع مجموعة من أفراد المجتمع المدني، مخاطرين بحياتهم، لتعتلي شاحنة المعونات، ليصدق أهالي البيضا أنها مساعدات إنسانية لأجلهم، فقد توجهت مجموعة من الأشخاص بقيادة الطبيب محمد زهير خالد يحيى، إلى منزلها في طرطوس القديمة، مردّدين: "تسقط مي يونس"، ودخلوا إلى مكتب أخيها المختار منذر يونس، بحثاً عنها، في سلوك مخابراتي مستنسخ عن طغمة الأسد، حين كانوا يلاحقون المتظاهرين إلى بيوتهم.
لذلك تواصلتُ معها، لتؤكد لي أنها لن تقبل أي شخص يأتي بغرض المصالحة، ولن تتنازل عن حقها بالادعاء قضائياً على الطبيب محمد زهير خالد يحيي الذي حرض الناس عليها، وأكدت لها أنها ليست مناهضة لحكم الشرع، وهي تسلط الضوء على أخطاء يرتكبها أصحاب القرار.
لم أستطع منع صور قمع مظاهرات 2011 من العودة إلى مخيلتي، مع صراخ "حراس النظام" الجديد في وجه المعتصمين: "روحوا عبيوتكم يلا"، وتمزيق اللافتات والدوس عليها رغم أنّ بعضها كان يحمل شعارات العدالة الانتقالية
ولعل أكثر نقطة تسترعي الاهتمام في بيان المعتصمين بعد انتهاء الاعتصام، وربما تكون بمثابة جرس إنذار: "علماً أن هذا الحدث جرى بالقرب من موقع الأمن العام الذي رفض التدخل لحماية المواطنين، ونستنكر ما حدث بشدة ونحن بصدد رفع دعوى قضائية ضد المعتدين والمحرضين"، وهذا لا ما أراه بوضوح يتعارض مع أهم أهداف الثورة السورية؛ حق التظاهر السلمي وحماية المتظاهرين السلميين.
أسباب التظاهر... المطر والامتيازات
أما تعليقات الكثير من السوريين على الحدث، فهي تعادل في فداحتها فضّ اعتصام سلمي بالقوّة في عهد تحرير سوريا من الأسد، إذ وجه أفراد ومؤثرون على مواقع التواصل الاجتماعي خطاب كراهية واضح تجاه المتظاهرين: "مظاهرة في طرطوس بعد فصل المرتشين من وظائفهم!"، و"هؤلاء كانوا منتفعين من النظام السابق، ويتظاهرون لأنهم خسروا امتيازاتهم".
والقول إنّهم يتظاهرون لأنه لم يعد بإمكانهم قبض رواتب وهم جالسون في منازلهم، وهي ليست حسابات لأشخاص أميين، فبينهم محامون وأطباء، عدا عن تعليقات من قبيل "استحوا، لسا في أمهات ما بتعرف وين ولادن المعتقلين"، وكأنّ المسارين متعاكسان، ولا نستطيع كشعب مؤلف من الملايين سوى أن نعالج قضية واحدة في الوقت نفسه، فكن حق كل مواطن أن يطالب بحقوقه ويحتج على ظلم وقع بحقه.
ما أعاد إلى ذاكرتي مذيعة الإخبارية وهي تؤكد أنّ أهل الميدان خرجوا يشكرون ربهم على نعمة المطر، نافيةً أن يكونوا يتظاهرون ضد النظام، وغيرها من السذاجات التي ساقتها جوقة النظام البائد ضد معارضيها.
"سوريا لي"
لم أستطع منع صور قمع مظاهرات 2011 من العودة إلى مخيلتي، مع صراخ "حراس النظام" الجديد في وجه المعتصمين: "روحوا عبيوتكم يلا"، وتمزيق اللافتات والدوس عليها رغم أنّ بعضها كان يحمل شعارات العدالة الانتقالية، وتأكيد بعض المعتصمين أنهم رأوا بين المهاجمين شبيحة قدماء، كانوا يشبحون للنظام الساقط. بدا لي المشهد سوريالياً بامتياز، بما في ذلك ضرب أحد معتقلي صيدنايا السابقين، الذي يمارس حقه في التظاهر ضد الخطأ بغض النظر عن مرتكبه، وهو الآن في فراشه يعاني آلام الكدمات.
وتذكرت كلام أحد الأصدقاء قبل أكثر من شهر من اليوم: "كل شيء مختلف على فهمه وتعريفه عندكم، إذ لم تكن الجماهير الغفيرة تدرك أن الحرية كان معناها شيء مختلف كلياً ولا علاقة لها لا من بعيد ولا من قريب بالحد الأدنى لمفاهيمها التقليدية؛ إيقاع الإلغاء والإقصاء والنفي والمحي في تسارع مستمر، حالة شبه إجماع على الإجراءات القامعة تستحق الدراسة".
بعد كل ذلك، يخالجني السؤال: لماذا يتهجم هؤلاء على مواطنين يتظاهرون سلمياً ولأجل مطالب خدمية وإنسانية ولا تتعلق بسياسة أو سلطة أو حكم، خصوصاً أن المهاجمين خرجوا ثائرين على ظلم نظام الأسد وسياسته في كم الأفواه، والاعتداء على المتظاهرين السلميين، وهل تعني الحرية أن نتكلم نحن فقط؟ أن نحكم نحن فقط؟ أن نتظاهر نحن فقط؟
والفصائلية التي أعلن الرئيس إلغاءها، ومنطق الدولة الذي بتنا نسمعه في كل لقاء، هل يحتم على الأمن العام عدم حماية المعتصمين السلميين؟وكأننا تحررنا من قمع إلى آخر، وربما سنتعب قريباً من إقناع أنفسنا أنّ النصرة ليسوا مثل داعش، وأنّ الهيئة قد تغيرت فعلاً، وأنّ تلك ليست سياسة انتقامية مقصودة بدافع طائفي، وإنما فوضى ومرحلة انتقالية ومفرزات حرب ضروس لم تبقِ ولم تذر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
ماجد حسن -
منذ 22 ساعةيقول إيريك فروم: الحبُّ فعلٌ من أفعال الإيمان، فمن كان قليلَ الإيمان، كان أيضًا قليل الحب..
Toge Mahran -
منذ أسبوعاكتر مقال حبيته وأثر فيا جدا♥️
Tayma Shrit -
منذ أسبوعكوميديا سوداء تليق بمكانة ذاك المجرم، شكرا على هذا الخيال!
Europe in Arabic-Tarek Saad أوروبا بالعربي -
منذ أسبوعالمقال بيلقى الضوء على ظاهرة موجوده فعلا فى مصر ولكن اختلط الامر عليك فى تعريف الفرق بين...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعاحمد الفخرناني من الناس المحترمة و اللي بتفهم و للاسف عرفته متاخر بسبب تضييق الدولة علي اي حد بيفهم
Europe in Arabic-Tarek Saad أوروبا بالعربي -
منذ أسبوعمقال رائع..