ّمع تزايد أهمية رأس المال البشري في إعادة بناء الدول الخارجة من النزاعات، تبقى معادلة الاستقرار مقابل التأثير مطروحةً بقوّة. ففي الوقت الذي تستعدّ فيه سوريا لمرحلة ما بعد الحرب، يأتي صعود اليمين في الانتخابات البرلمانية الأخيرة في ألمانيا، بسياسته العلنية المناهضة للمهاجرين، ليضع الأطباء والأكاديميين وحتى العمّال المهرة السوريين أمام مواجهة خيار إستراتيجي ملحّ: هل يبقون في بيئة اقتصادية مستقرّة برغم الصعوبات التي تواجهها عجلة الإنتاج الألماني ورغم الجوّ المشحون بالعنصرية تجاه المهاجرين، أو ينتقلون إلى سوريا للمساهمة في إعادة إعمارها؟
ولأنّ سؤال العودة مطروح بقوّة، فقد عمدت مجموعة من الأكاديميين والمهنيين السوريين المقيمين في ألمانيا، إلى إطلاق مبادرة تحت شعار "شعوب وقبائل"، لمدّ جسر بين الأكاديميين السوريين الموجودين في ألمانيا، بتخصصاتهم المختلفة، وبين المهاجرين السوريين الراغبين في الاستثمار في مستقبل وطنهم من خلال مشاريع بحثية وتنموية، بجانب بناء شراكات مع المؤسسات العلمية والاقتصادية في الداخل السوري، بما يسهم في تسريع عملية إعادة إعمار سوريا.
في حديثه إلى رصيف22، يقول أحد القائمين على المبادرة، ملهم عيسى: "في سنوات غربتي الطويلة، لم أتخلَّ عن حلم العودة إلى حيث تنتمي روحي"، في إشارة إلى سوريا، ويضيف أنه لم يكن وحيداً في هذا الشعور، فبين أروقة الجامعات والمختبرات والمستشفيات الألمانية، حمل الأكاديميون والمهنيون السوريون وطنهم في عقولهم وقلوبهم برغم البعد. هذا الشوق الذي لم يهدأ، قاد إلى مبادرة "شعوب وقبائل" التي أطلقها أكاديميون سوريون في ألمانيا عقب سقوط النظام، لتكون أكثر من مجرد مشروع، بل جسراً بين المنفى والوطن.
مبادرة "شعوب وقبائل"، التي أسسها مهاجرون سوريون من مختلف التخصصات، تهدف إلى المساهمة في وضع استراتيجية قابلة للتنفيذ لمرحلة إعادة إعمار سوريا
ويوضح عيسى، أنّ المبادرة التي من المقرر أن يُعلَن عنها رسمياً قريباً، تستهدف إنشاء شبكة متخصصة تعزز التعاون بين الخبرات السورية المهاجرة، واحتياجات الداخل السوري، وتعكس ديناميكيةً متزايدةً بين المهاجرين السوريين الراغبين في الاستثمار في مستقبل وطنهم من خلال مشاريع بحثية وتنموية، بجانب بناء شراكات مع المؤسسات العلمية والاقتصادية في الداخل السوري.
بالنسبة لكثيرين، تمثّل هكذا مبادرات نافذة أمل، لكنها أيضاً تعكس رغبةً عميقةً في تجاوز قيود الغربة وإعادة بناء جسور الانتماء، ليس بالكلمات فحسب، بل من خلال العمل الفعلي والتأثير المباشر في مستقبل البلاد. لهذا يقول ملهم عيسى: "العودة ليست مجرد قرار، بل ظرف يجب أن نخلقه. نحن لا نحلم فحسب، بل نبحث عن الطرق، ونخطط، ونطرح الأسئلة الصعبة. ربما نبدأ من هناك، وربما نبدأ من هنا ، لكن ما نعرفه يقيناً هو أننا لن نكون غرباء عن سوريا، حتى لو كنا بعيدين عنها".
حسابات غير عاطفية
برغم الدافع العاطفي، إلا أنّ العودة ليست مجرد قرار فردي، بل تخضع لحسابات اقتصادية ومؤسسية. يرى عبد الله الخلف، وهو مهندس متخصص في الطاقة المتجددة، "أنّ البيئة المناسبة للإبداع والإنتاج هي العنصر الحاسم، لا العاطفة الوطنية فحسب". كما يرى أنّ الأمر يتعلق بالقدرة على التأثير الحقيقي، بوجود بيئة تحفّز على العمل والإبداع، وليس البقاء على قيد الحياة فحسب، وأنّ سوريا مع غياب الضمانات الاقتصادية، تظلّ بيئةً غير جاذبة للكوادر الماهرة، ما سيدفعهم للبقاء في الخارج بحثاً عن الاستقرار والفرص.
المحامي محمد الجمل: سوريا تحتاج إلى كوادرها، لكن هل تملك القدرة على استيعابهم؟ هل هناك إطار مؤسسي قادر على دعم البحث العلمي والابتكار والتعليم المتطور؟
هذا الشعور يعكس معضلةً تواجه كثيرين: من ناحية، هناك الفرص الأكاديمية والمهنية واللغوية التي وفّرها لهم المهجر، والتي أتاحت لهم الوصول إلى أحدث الأبحاث والتقنيات، ومن ناحية أخرى، هناك رغبة في توظيف هذه الخبرات لصالح بلدهم الأمّ، حيث الحاجة إلى إعادة الإعمار أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى.
لكن ما بين الطموح والواقع، تقف تحديات كبرى. انعدام الاستقرار السياسي، تدهور الاقتصاد، وغياب الضمانات المهنية، هي جميعها عوامل تجعل العودة مخاطرةً محسوبةً بعناية. لهذا يتساءل المحامي محمد الجمل، ويقيم في مدينة نورنبيرغ: "سوريا تحتاج إلى كوادرها، لكن هل تملك القدرة على استيعابهم؟ هل هناك إطار مؤسسي قادر على دعم البحث العلمي والابتكار والتعليم المتطور؟".
يبدو أنّ قرار اختيار العودة أو البقاء، لا يعتمد فقط على الرغبة الشخصية بحسب ما تقول سالي أبازيد، وهي أمّ لأربعة أطفال تعمل موظفة رعاية. ترى سالي، أنّ قرارها في ما يخصّ العودة يعتمد على قدرة سوريا المستقبلية على خلق بيئة جاذبة لأفضل عقولها المهاجرة، بيئة لا تجعل العودة مجرد حلم عاطفي، بل خياراً واقعياً يمكن تحقيقه. لهذا تشاركنا مخاوفها قائلةً: "قد تستمر الفوضى الأمنية، ما يعرّض العائلات لمخاطر مثل الجريمة، الميليشيات، أو عدم الاستقرار السياسي. أنا أمّ، ولديّ أطفال أخشى إعادتهم إلى بيئة قد لا تكون آمنةً، ولا يوجد فيها نظام قانوني مستقرّ لحماية المدنيين حتى الآن".
الاستثمار في اللّغة
لم يكن تعلّم الألمانية مجرد وسيلة للاندماج، بل تحوّل إلى مفتاح لثروة علمية ومعرفية، مكّن الأكاديميين السوريين من الاطّلاع على أحدث الأبحاث والتفاعل مع نخبة المفكرين في مجالاتهم. هذه التجربة دفعت كثيرين منهم إلى المقارنة بين نظام أكاديمي متكامل، وواقع التعليم العالي في بلدهم الأمّ.
على سبيل المثال، كان لبرنامج "المدرّسين اللاجئين" في جامعة بوتسدام، دور محوري في مساعدة المعلّمين السوريين على فهم نظام التعليم الألماني، ما مكّنهم من العودة إلى التدريس وسدّ الفجوات التعليمية وتعزيز التبادل الثقافي.
وبحسب دراسات حديثة، فإنّ وجود معلمين من أصول مهاجرة يمكن أن يسهم بشكل إيجابي في اكتساب المهاجرين مهارات لغويةً، ما يعزز فرص اندماجهم في المجتمع وسوق العمل.
في السنوات الأخيرة، أصبح الأكاديميون السوريون في ألمانيا، جزءاً لا يتجزأ من المشهد العلمي والمهني في البلاد، ما يعكس تحوّلاً لافتاً في مسارات الهجرة القسرية إلى مساهمات فاعلة في الاقتصاد والمجتمع. وفقاً لدراسة أجراها معهد الاقتصاد الألماني (IW)، عام 2017، بلغ عدد الأكاديميين السوريين العاملين في سوق العمل الألماني نحو 78،000 شخص، وهو رقم يعكس مدى اندماج هذه الفئة في سوق العمل المتخصص.
وبحلول نهاية عام 2019، ارتفع عدد السوريين المقيمين في ألمانيا إلى 790،000 شخص، مقارنةً بأقلّ من 30،000 قبل عقد من الزمن. هذا النمو السريع لا يعكس فقط تدفق اللاجئين بسبب الحرب، بل أيضاً نجاح كثر منهم في إعادة بناء حياتهم المهنية في بلد يعتمد على الكفاءات الأكاديمية خاصة في مجال الطب، لدعم اقتصاده القائم على المعرفة.
الوجود السوري في ألمانيا لا يقتصر على الأرقام، بل يتجسد في مبادرات علمية ومهنية منظّمة. على سبيل المثال، تأسست جمعية "الأطباء والصيادلة السوريون في ألمانيا" (SyGAAD)، لخلق شبكة دعم متينة بين المهنيين الطبيين السوريين، ما ساهم في تحسين فرص العمل والتبادل العلمي بينهم. في الوقت ذاته، تعمل الجمعية الألمانية السورية للبحث العلمي (DSFG)، منذ عام 2016، على تعزيز التعاون البحثي بين سوريا وألمانيا، وتوفير بيئة أكاديمية داعمة للباحثين السوريين الراغبين في تطوير مشاريع علمية ذات تأثير عالمي.
من الواضح أنّ هذه الأرقام والمؤسسات تعكس تحوّل الأكاديميين السوريين من لاجئين يسعون إلى الاستقرار، إلى فاعلين مؤثرين في المجالات العلمية والطبية والهندسية. وبينما تظلّ تساؤلات العودة إلى الوطن قائمةً، يواصل هؤلاء المهنيون تشكيل جسر معرفي بين سوريا وألمانيا، في نموذج قد يعيد تعريف معنى الاندماج والهجرة في السياق الأوروبي الحديث.
ملعب السياسة
تشير التقارير إلى أنّ أغلب السوريين في ألمانيا، أسسوا حياةً مستقرّةً، ولا يعتزمون العودة في المستقبل القريب، ما يعكس تعقيد المسألة وارتباطها بالسياسات الداخلية والهواجس الاقتصادية.
لكن واقع الأكاديميين السوريين المتأصل في النسيج العلمي والمهني في ألمانيا، ربما يشهد تحوّلات وفق تغيّر اللاعبين في ميدان السياسة، وهذا ما حدث بالفعل بعد صعود الأحزاب اليمينية إلى سدّة البرلمان، وطرحها برنامجاً سياسياً يتحدث صراحةً وبلا مواربة، عن ضرورة تقييم أوضاع اللاجئين في البلاد.
هذا الأمر استبقته وزيرة الداخلية الألمانية المنتهية ولايتها، نانسي فيزر، إذ حذّرت من التداعيات السلبية المحتملة على سوق العمل الألماني في حال تمّ اتّباع سياسات تستهدف الوجود الأكاديمي السوري في ألمانيا، مؤكدةً أنّ "قطاعات كاملةً في مجال الصحة ستتعطل إذا غادر جميع السوريين الذين يعملون هنا البلاد الآن".
قد يتأثر مستقبل الأكاديميين السوريين في ألمانيا بصعود الأحزاب اليمينية وسياستها الداعية إلى إعادة تقييم أوضاع اللاجئين
ووفقاً للإحصاءات، يعمل أكثر من 6،000 طبيب سوري في ألمانيا، ما يعكس الدور الحيوي الذي تلعبه هذه الفئة في دعم النظام الصحي. ولا يقتصر الأمر على قطاع الصحة فحسب، إذ أظهرت دراسات أنّ فقدان العمالة السورية الماهرة قد يؤدي إلى اضطرابات كبيرة في قطاعات حيوية أخرى، مثل التصنيع والرعاية الصحية.
وفي ظلّ نقص الكوادر في بعض الصناعات، تبدو مسألة مغادرة السوريين المدرّبين والمؤهلين مصدر قلق حقيقي للاقتصاد الألماني. لكن وجهات النظر قد تختلف وفقاً لأجندات السياسة، فالأحزاب اليمينية دعت إلى إعادة تقييم أوضاع اللّاجئين والنظر في إمكانية إعادتهم إلى سوريا.
عودوا زائرين
في تصريح أثار تساؤلات عدة، أشار وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، إلى أنّه "لا حاجة لعودة اللاجئين السوريين في ألمانيا بسرعة إلى بلادهم"، عادّاً أنّ "اللاجئين الذين استقبلتهم ألمانيا يعيشون في ظروف أفضل مقارنةً بالكثير من النازحين السوريين في مناطق أخرى من العالم.
ويعكس هذا التصريح نهجاً واقعياً للحكومة السورية في التعامل مع ملف اللاجئين، إذ تعترف بأنّ الظروف داخل سوريا لا تزال غير مهيأة لعودة آمنة وكريمة، في ظلّ التحديات الاقتصادية والأمنية والبنية التحتية المدمّرة. ويأتي هذا الموقف في وقت تشهد فيه أوروبا، وتحديداً ألمانيا، نقاشات حول مستقبل اللاجئين السوريين، مع اقتراحات تسمح لهم بالسفر إلى وطنهم دون أن يؤثّر ذلك على وضعهم القانوني كلاجئين، وهو ما يعكس تحوّلاً في سياسة برلين تجاه الملف، ومن المرجح أن يتحوّل إلى واقع مع صعود اليمين إلى البرلمان.
يرى الخبراء أن عودة العقول السورية قد تسرّع إعادة الإعمار، لكن دون سياسات حكومية واضحة لاستيعابهم، قد تتحول إلى إحباط جديد
بنظرة أكثر واقعيةً بالنسبة للكثير من الأكاديميين والمهنيين السوريين الذين أعادوا بناء حياتهم في ألمانيا، تظلّ العودة إلى الوطن فكرةً تتأرجح بين الأمل والاحتمال. فعلى الرغم من الحنين الجارف والشعور العميق بالمسؤولية تجاه بلدهم الأمّ، إلا أنّ تحديات ما بعد الحرب ترخي بظلالها الثقيلة، ما يجعل اتخاذ القرار أمراً أكثر تعقيداً مما قد يبدو عليه.
على الصعيد الاقتصادي، يرى خبراء أنّ عودة العقول السورية قد تشكل دفعةً قويةً لإعادة الإعمار. ولكن دون سياسات حكومية واضحة لاستيعابهم، قد تتحول العودة إلى إحباط جديد. تجارب دول مثل البوسنة والعراق، أظهرت أنّ تسهيل عودة الأكاديميين يتطلب برامج دعم حكوميةً ودوليةً، وهو ما تفتقر إليه سوريا اليوم.
الحلول المطروحة تتنوع بين تعزيز الشراكات بين الجامعات السورية والألمانية، وإطلاق مشاريع بحثية مشتركة تتيح للخبرات السورية المساهمة دون الحاجة إلى مغادرة ألمانيا. لكن من دون إصلاحات سياسية واقتصادية حقيقية، يبقى القرار بين العودة والبقاء معضلةً بلا إجابة سهلة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Some One -
منذ 3 أيامالذي كتب وتخيل هذه العلاقة، وتخيل مباركة الوالدين، وتقبل المجتمع لهذه المثلية الصارخة. ألم يتخيل...
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياماول مرة اعرف ان المحل اغلق كنت اعمل به فترة الدراسة في الاجازات الصيفية اعوام 2000 و 2003 و كانت...
Frances Putter -
منذ 6 أيامyou insist on portraying Nasrallah as a shia leader for a shia community. He is well beyond this....
Batoul Zalzale -
منذ أسبوعأسلوب الكتابة جميل جدا ❤️ تابعي!
أحمد ناظر -
منذ أسبوعتماما هذا ما نريده من متحف لفيروز .. نريد متحفا يخبرنا عن لبنان من منظور ٱخر .. مقال جميل ❤️?
الواثق طه -
منذ أسبوعغالبية ما ذكرت لا يستحق تسميته اصطلاحا بالحوار. هي محردة من هذه الصفة، وأقرب إلى التلقين الحزبي،...