شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
تمنيّت لو ظلّ الحزن طفولياً... لو ظلّ في سنّ القلم المكسور! 

تمنيّت لو ظلّ الحزن طفولياً... لو ظلّ في سنّ القلم المكسور! 

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والحرية

الأربعاء 26 فبراير 202510:34 ص

الحزن صاحَبني منذ الطفولة. أغضب عندما ينكسر سنّ قلمي الرصاص، وعندما يحرمني أبي من مصروف المدرسة حين يعرف أنني تسلّقت سورها، وذهبت إلى المقهى لمشاهدة أفلام الفيديو. أتحجج بالنعاس، فتقول أمي: "دعه يهرب من حزنه إلى النوم". وفي الصباح، تداعبني بجملة "ما شاء الله الاكتئاب هياكل من عليك حتّة"، حتى أبتسم، وأدرك أنه كلما كبر الإنسان كبرت مع أحزانه. الحزن يترك الإنسان مع طلوع الروح، وربما يكون ونيسه في القبر.  

في الصباح، تداعبني أمّي بجملة "ما شاء الله الاكتئاب هياكل من عليك حتّة"، حتى أبتسم، وأدرك أنه كلما كبر الإنسان كبرت مع أحزانه

أختبئ من قسوة العالم في غرفتي، وأقول على طريقة المتنبي مع الاعتذار إليه: "الحزن والحرّ والرطوبة تعرفني... والتكييف والمروحة والشباك والمللُ"، وفي الخلفية يطرح محمد عبد الوهاب سؤاله الخالد: "كل ده كان ليه؟"، بينما عقلي يعيد صياغة السؤال عند لحظات الحزن والتعاسة كلها في حياتي. هل داست أقدامنا على الطرقات دون أن نترك أثراً؟ هل أغانينا المفضّلة كانت بلا موسيقى؟ أو أنّ طعامنا كان ينقصه بعض الملح؟ أو أنّ النكتة التي ضحكنا بسببها كانت تافهةً ولا تستحق؟ كل شيء كان ناقصاً، حتى اللوحة التي حلمنا بها كانت بلا ألوان، وحتى الضريح الذي طفنا حوله مع المريدين كان ينقصه شيخه.

يقول لي صديقي إنّ الأبطال لا ينتصرون على الأشرار إلا في الأفلام. أما في الواقع، فالخير يُدهس تحت أقدام الأوغاد، والحزن يلازم الطيّبين كرفيق درب. كذب من قال إنّ الحزن يداوي شروخ الروح. هو يأكل الروح ويميت الجسد، ويحوّلنا إلى مومياء فرعونية لا تتحرك وتنتظر البعث والخلود.

عزيزي القارئ لا تتهمني بالكآبة، وتخرج في منتصف مقالتي لتقرأ مقال للزميل بلال همام، فالحق يقال: الجميع يشهد لي بخفّة الظلّ، وأوّلهم أمّي، وأنا أصدّق كلامها أكثر من كلام وزير التموين، لكنك فقط تعرفت إليَّ في تلك الفترة التي أعيشها وحيداً، حيث لا تعرف الابتسامة وجهي إلا عندما أذهب إلى المطبخ لأعدّ فنجان قهوة سادة، تتماشى مرارته مع مرارة الأيام.

جارتي والخناقات التي لا تنتهي

من نافذة المطبخ، أسمع أصوات الجيران في المنور، حتى حفظت تفاصيل "الحوار" اليومي بين جارتي وزوجها. هي تلعن اليوم الذي عرفته فيه، وهو يردّ بجملة واحدة كسجين فقد الأمل في المحاكمة: "اصطبحي وقولي يا صبح"، أو "اتمسّي وقولي يا مسا"، حسب توقيت الشتائم الموجهة إليه وإلى باقي"الفاميليا". 

غضب جارتي لم يأتِ من فراغ، فهي تؤكد أنّ "الحشيش لحَس دماغه"، بينما هو لا يجد مشكلةً في الأمر، حتى إنه ذات ليلة شتوية قال لها وهو يسحب نفساً عميقاً من سيجارته: "يا وليّة، الراس اللي من غير كيف تستاهل قطع السيف"، فكان ردّها عملياً بإلقاء "غطا الحلّة" الذي سمعت صوته يدوّي بعد أن نجت منه "دماغه"، وسقط على الأرض، وكان القدر رحيماً به أكثر منها.

خناقات جارتي تضحكني أكثر من أفلام محمد هنيدي الأخيرة، التي لا تُضحك سوى هنيدي نفسه. بات المطبخ بالنسبة لي دار عرض سينمائية، أستمتع فيها بعروض مجانية لأفلام متكررة، حتى تمنيت أن أراها يوماً بعيني لا بأذني، لأشاهد "رياكشنات" جاري، وكيف يتفادى أدوات المطبخ قبل أن تفتح رأسه.

شاهدته قبل أيام يمسك بعلبة حلوى، ويقف أمام البقالة يشتري علبة سجائر رخيصة، ويقول للبائع بوجه مبتسم: "أنا ماقدرش أدخل البيت من غير ما أجيب لها حاجة حلوة، مش ناقص أقضّي الليلة في المستشفى". كانت في عينيه لمعة حب، حب مشروط بالصراخ والشتائم وأدوات المطبخ الطائرة، لكنه حبّ على أيّ حال، ربما سيُشفى يوماً من المخدرات، لكنه لن يُشفى من الحب.

أختبئ من قسوة العالم في غرفتي، وأقول على طريقة المتنبي مع الاعتذار إليه: "الحزن والحرّ والرطوبة تعرفني... والتكييف والمروحة والشباك والمللُ"

رجل المحطة والضحك الذي لا يدوم

تذكرت ذلك الشاب الذي رأيته في محطة القطار، يجلس في المقهى، مرتدياً ملابس رثّةً ضلّت طريقها إلى "المكوجي". كانت تفصله عنّي طاولة واحدة. بادرني بالتحية، فاكتفيت بابتسامة صامتة. ضحك بصوت عالٍ دون سبب واضح، ثم توقّف فجأةً، وحدّق في السماء بحزن غريب، كأنّه تذكّر شيئاً يستحقّ التوقف عن الضحك.

رمق أحد العابرين بنظرات طويلة، وكأنه يحلّل مظهره قطعةً قطعة، ثم ضحك عليه بسخرية واضحة، وأشار إلى ملابسه كأنه يرتدي "بدلةً وربطة عنق". طلب من النادل كوب عنّاب ساخن، فقال له الرجل بفتور: "حاضر"، لأنه يعرف مسبقاً أنّه لن يدفع ثمنه.

كان يشرب العنّاب، وكأنّه يلعق مرارة الأيام، ثم يطلب المزيد من السكّر، وكأنّ كل شيء في حياته بلا طعم. لم أستطع كبح فضولي، فسألت النادل: "هو الشاب ده ماله بيضحك فجأة ويرجع للحزن في ثانية؟". فردّ بعبارة بقيت ترنّ في أذني: "لا الضحك بيدوم ولا الحزن باقي، ربّنا يداوي شروخ الروح".

خناقات جارتي تضحكني أكثر من أفلام محمد هنيدي الأخيرة، التي لا تُضحك سوى هنيدي نفسه.

بائع الجرائد والحكايات المنسية

عند ناصية الشارع، يقف رجل مسنّ، بائع جرائد قديم، بملابسه المتّسخة ونظارته المكسورة، ينادي على الصحف كأنّ أحداً لا يسمعه: "الأخبار، الحوادث، الرياضة، السياسة"... تتغير العناوين يومياً، لكن وجهه لا يتغير. جلست معه ذات مرة، وسألته عن أكثر خبر ظلّ في ذاكرته، فتنهّد طويلاً وقال: "عندما كتبت جريدة ‘الأخبار’ مانشيت ‘ماتت أم كلثوم’. أما الباقي فكله فوضى، نكتب ونصرخ ولا شيء يتغير".

سألته لماذا لا يغيّر مهنته؟ فقال لي ضاحكاً: "وهل أجد عملاً يناسب رجلاً مثلي عاش عمره يبيع الأخبار، ولم يكتب خبراً واحداً عن حياته؟"، ثم تناول جريدة "الأهرام"، وراح يقرأ بصوت عالٍ، كأنّه يريد أن يقنع نفسه بأنّ العالم يهتمّ بما يقرأه، برغم أنّ العالم نفسه لم يعد يكترث.

سائق التاكسي وقصة الطريق الطويل

قبل أيام، استوقفت تاكسي في ليلة باردة، كان السائق يبدو مرهقاً، وكأنّ الطريق هو من يقوده وليس العكس. بمجرد أن جلست، بدأ يحكي دون مقدمات، وكأنني صديق قديم يعرفه منذ سنوات: "الطريق طويل، والعمر بيضيع وإحنا بندوّر على محطة ننزل فيها".

حكى عن أيام شبابه، وكيف كان يحلم بأن يصبح مهندساً، لكنه ترك الدراسة بسبب ظروف الحياة، ثم اشتغل سائقاً بعد أن ورث سيارة تاكسي عن والده: "كل يوم بشوف مية قصة؛ ضحك، دموع، ناس بتفرح وناس بتنهار وأنا الوحيد اللي ثابت، مجرد سوّاق بينقل الناس من حتّة لحتّة، بس أنا نفسي مش عارف رايح فين".

عند إشارة المرور التفت إليّ، وقال: "عارف يا أستاذ... مرّة ركب معايا عريس وعروسة عرفت منهم أنهم متجوزين بقالهم كام يوم، طول الطريق بيضحكوا وهي ماسكة إيده، وبعدها بساعة ركبت معايا واحدة بتعيّط وبتقولّي ودّيني لأهلي، جوزي طلع ابن..."، وسكت.

ضحك سائق التاكسي وهو يغير مسار الطريق، وكأنّه يحاول أن يهرب من ذكرى لا يريد استرجاعها، ثم أكمل بصوت هادئ: "أنا بلفّ في الشوارع كأنّي بدوّر على إجابة عن السؤال اللي عبد الوهاب بيسأله طول الوقت: ‘كل ده كان ليه؟’".

"كل ده كان ليه؟"

عدت إلى غرفتي، أطفأت الأنوار، وتركت عبد الوهاب، يكرر سؤاله الأبدي: "كل ده كان ليه؟"، فيما تبتلعني الوحدة ويتقاسم معي الظلام الأرق. تمنّيت لو أنّ الحزن ظلّ طفولياً. لو بقي محصوراً في كسر سنّ قلم رصاص، أو حرماني من المصروف. تمنيت لو أنني لم أكبر. لو ظلّ العالم بسيطاً، لا يحمل كل هذا النقص، ولا يطرح أسئلةً بلا إجابات. تمنيت لو أبكي لأسباب تافهة، وأفرح لعلبة حلوى، مثل جارتي التي لا تملّ من العراك مع زوجها، لكنها تتباهى به أمام الجيران في البلكونة. كل شيء ناقص، وكل شيء يثير سؤال عبد الوهاب: "كل ده كان ليه"؟. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image