تقف هبة حامد (37 عاماً) في حجرتها تحزم حقيبتها بسرعة للحاق برحلة الهروب المُعتادة، والتي تكررها كل بضعة أشهر.
رغم حبها للقاهرة، اكتشفت هبة، وهي كاتبة محتوى، جانباً آخر من شخصيتها في السفر، إذ تختار مكاناً هادئاً لا صوت فيه سوى الصمت والطبيعة، تصف رحلتها لرصيف22 بأنها رحلة الهروب من الضجيج، بين الضغوط الحياتية اليومية وضغوط العمل والأخبار العامة، أو مشكلات المقربين وما يستوجبه ذلك من التزامات ومسؤوليات وحتى أصوات البشر، فتكون طابا أو نويبع في جنوب سيناء وسيلةَ هروب، ومهما طالت المدة تمرّ وكأنها بضعة أيام.
تُعرّف عدد من مدونات السفر والمواقع المتخصصة في العلاج النفسي اكتئاب ما بعد السفر أو اضطراب ما بعد الإجازة بأنه الجمع بين عدة مشاعر بين الحزن والملل والخوف من العودة إلى الحياة الحقيقية بما فيها من ضغوط ، فضلاً عن الأرق وصعوبة التركيز.
تُرجع الدكتورة إيلين كينيدي مور، أخصائية علم النفس السريري في برينستون، نيوجيرسي، السببَ في ذلك إلى الانسحاب المفاجئ لهرمون الأدرينالين، ويذكر المقال ذاته المنشور في موقع "healthcentral" أن طريقة الدماغ في التكيف بين التجارب المختلفة يمكن أن تكون سبباً في ذلك الشعور.
"تصفير لعداد المخ"
تعتبر هبة أن هذه الرحلات تعد بمثابة "تصفير لعداد المخ" تنسى خلالها كل ما يُشعرها بالضيق وتزيد متعتها بكل شيء بسيط، فتكون ساعات قليلة من النوم كافيةً بمثابة 10 ساعات، تشحنها بالطاقة والشعور بالاسترخاء وصفاء الذهن: "أنا في المدينة بحس إني متغطية بالاكتئاب"، كاشفة أن جسدها في ساعات الصباح يعاني من ثقل تتخفف منه في رحلاتها، يُصبح مذاق الأكل لذيذاً وإن كانت لا تحبه.
اكتئاب ما بعد السفر أو اضطراب ما بعد الإجازة هو الجمع بين عدة مشاعر بين الحزن والملل والخوف من العودة إلى الحياة الحقيقية بما فيها من ضغوط، فضلاً عن الأرق وصعوبة التركيز
تتطابق رحلتا الذهاب والإياب في المسافة والوقت، لكن التفكير في ما ستعيشه من أيام استرخاء بين الطبيعة، تجعل رحلة الذهاب أكثر تيسيراً، وتُصعّب رحلة الإياب مهما كانت سهولتها، فقط لتصورها العودة إلى ما تركته منذ أيام من ضغوط وزحام، فتشعر هبة بالحزن والضيق في رحلة العودة إلى الواقع والتفاصيل التي هربت منها: "مع أول صوت لآلة تنبيه 'كلاكس سيارة' أشعر وكأنها الضربة القاضية. أشعر بالغضب من أبسط الأشياء".
مرحلة التناقضات
في أول يومين عمل يظهر اكتئاب ما بعد السفر على آية محمد (36 عاماً)، مدرسة في الجامعة، حيث تعاني من صعوبة التعاطي مع الخروج من المنزل ومواجهة الزحام وأصوات الناس في الشوارع وآلات تنبيه السيارات، ويكون التحايل على عقلها بالتخطيط لإجازة جديدة، وإن كانت وهمية، هي سبيل الخروج من هذه الحالة.
تقول آية في حديثها لرصيف22 إنها تتعمد الحديث عن تفاصيل الرحلة وما حدث فيها لعدة أيام بعد العودة في محاولة لإنعاش عقلها بالذكريات الجيدة للتخلص من شعور الاكتئاب الذي يصاحبها فور انتهاء الرحلة، وخلال أيام يتحول الاكتئاب إلى طاقة للعمل بهدف توفير مورد مادي لتكرار الرحلة مرة أخرى، واصفةً هذه الفترة بـ"مرحلة التناقضات" لما تحمله من مشاعر متضاربة.
"في أول لحظة وقفت هناك، تذكرت مشهد من فيلم 'سهر الليالي'، وصف فيه أحدُ الأبطال الصحراءَ بأنها تغسل الروح، فشعرت باختفاء كل الضغوط النفسية وعشت حالة روحية لا تُوصف، وكنت أسأل نفسي: أمشي من هنا وأسيب كل ده؟"
وتوضح أن اكتئاب ما بعد الإجازة يأتي لها في صورتين، سواءً رحلات الأسرة والأصدقاء لمدينة ساحلية، ورغم قصر مدتها بين 3 أو 4 أيام، إلا أنها تنفصل تماماً عن الضغوط الخاصة بالعمل، فتشعر وكأنها "خارج الدنيا"، أو رحلات إلى مناطق تُمثل لها الآمان النفسي كواحة سيوة في الصحراء الغربية، والتي تُشرّف فيها على الطلاب، فتصف الأجواء في واحة سيوة وسط الصحراء الواسعة المتصلة بالسماء وإمكانية التقاط الأنفاس بسهولة لا تجدها في المدينة المزدحمة: "في أول لحظة وقفت هناك، تذكرت مشهد من فيلم 'سهر الليالي'، وصف فيه أحد الأبطال الصحراء بأنها تغسل الروح، فشعرت باختفاء كل الضغوط النفسية وعشت حالة روحية لا تُوصف، وكنت أسأل نفسي: أمشي من هنا وأسيب كل ده؟".
رحلة العذاب
تحمل إجازات السفر لمُحمد عبد الفتاح (35 عاماً) جانباً مُظلماً يعيشه فور تذكره العودة للضوضاء والزحام التي يصفها بـ"فيلم الرعب"، فهو مُضطرّ لتحملها في الأيام العادية، ويزداد الأمر سوءاً بعد رحلة انفصال في منطقة لا يسمع فيها سوى أصوات الطبيعة.
يوضح عبد الفتاح في حديثه مع رصيف22 أنه يفضل السفر إلى سيناء، سواءً جنوباً في رحلات لتفريغ العقل من الضغوط، فضلاً عن عمله الذي أتاح له فرصة التواجد في شمال سيناء لأشهر متواصلة في الفترة الأخيرة، وهو ما ضاعف حساسيته تجاه المدينة وصخبها.
يصف محمد رحلة العودة إلى مدينته القاهرة بـ"رحلة العذاب"، والتي تبدأ منذ استقلاله باص العودة، وكلما اقتربت المسافة تضاعف ضيقه وشعوره بالاختناق رغم حبه الشديد لها، لكنه اكتشف مدى صعوبة العيش والعمل فيها، بعد تجربة الخروج منها عدة مرات، ويشير إلى أنه فور عودته لا يحتمل أي صوت بجانبه: "ليه أصحى على أصوات مُزعجة بعدما كنت بصحى على صوت البحر؟".
تكون الأيام القليلة التي يقضيها عبد الفتاح في جنوب سيناء، سواءً في نويبع أو طابا، بمثابة "الاغتسال" بعد فترة طويلة من الجري في الحياة، ونادراً ما تقع عينه على سيارة أو مجموعة من الناس أو تصل إلى أذنه أصوات ضوضاء، وهو عكس ما يعيشه يومياً في القاهرة، فيضطرّ يومياً للاستيقاظ قبل ساعتين للوصول إلى ميعاده، تجنباً للزحمة، رغم أن المسافة بين بيته ومقرّ عمله لا تزيد عن نصف ساعة.
سرعة زائدة تُنهك النفس
تفقد منى أبو بكر (38 عاماً) وهي موظفة في شركة اتصالات، القدرة على تقبل الأمر الواقع فور عودتها من رحلة الإجازة؛ تُسيطر عليها مشاعر الانفصال وكأنها شخص آخر. لم تعد تذكر حتى كيف يعمل جهاز الحاسوب الخاص بعملها. يحتبس عقلها في صدمة الانتقال من الهدوء والصمت وأصوات البحر والطيور والمناظر الطبيعية إلى العودة للعمل في صباح اليوم التالي.
ورغم رفضها لفكرة الفراغ والعيش دون عمل، إلا أن الابتعاد عن الناس والزحام وضغوط العمل والمدينة يجعل منى تُفضل البقاء في منطقة بعيدة كإحدى مدن سيناء، وفق ما تقول لرصيف22: "كلما نضج الإنسان يرغب في العيش في مكان هادئ دون تفاصيل كثيرة مما نعيشها يومياً، على أن يؤمن لنفسه دخلاً ثابتاً، وهو ما يجعل الحياة أكثر لطفاً وتقبلاً".
ضغوط العمل والباعة الجائلون وأصوات السيارات، هي الدافع الرئيسي لهروب منى في رحلات الصمت. توضح أبو بكر أن في هذه الرحلات يصعب استحضار أيّ من المشكلات التي تفكر فيها أثناء تواجدها في مدينتها الإسكندرية بما فيها من ضغوط، والتي تُغلفها بوجه عبوس وعصبية زائدة طوال الوقت، وفور عودتها تبدأ في الدوران في الساقية ذاتها بما تشمله من سرعة زائدة للحياة تُنهك النفس.
تحسين الظروف
يصف الدكتور جمال فرويز، استشاري الطب النفسي، ما يمرّ به الأشخاص بعد السفر على أنه أحد أنواع الاكتئاب التفاعلي والناتج من عدم التكيف مع الظروف المحيطة، ويوضح في حديثه لرصيف22 أن الانتقال من بيئة هادئة خالية من أصوات السيارات والزحام وتسمح بالتنقل بسهولة من منطقة لأخرى سيراً على الأقدام في الهواء الطلق، إلى مدينة مزدحمة تعج بالأصوات يُسبب توتراً وعدم انسجام مع المكان، ويخلق حالة من التبرم ورفض الخروج أو الانخراط في أنشطة حياتية أو العودة إلى العمل، إلا أن ذلك ينتهي تدريجياً بعد عدة أيام.
ويوضح فرويز أن الشخصية الرومانسية الباحثة عن الهدوء هي الأكثر تأثراً باكتئاب ما بعد السفر أو الإجازات: "إن ذلك لا يُعد شيئاً مرضياً وإنما يعتمد على طبيعة الشخصية والمرحلة العمرية والحالة الصحية إذا ما كان الشخص يعاني من أمراض، فضلاً عن الظروف الحياتية والمتمثلة في طبيعة العمل وما يحويه من ضغوط".
"كلما نضج الإنسان يرغب في العيش في مكان هادئ دون تفاصيل كثيرة مما نعيشها يومياً، على أن يؤمن لنفسه دخلاً ثابتاً وهو ما يجعل الحياة أكثر لطفاً وتقبلاً"
ويرى الاستشاري النفسي أن الطريقة المُثلى للتخلص من حالة الاكتئاب الملاحقة للسفر والإجازات هي التعايش مع الحياة بصورتها الطبيعية ومحاولة تحسين الظروف قدر المستطاع لتحسين طُرق التعايش، مؤكداً أن الهروب إلى أحلام اليقظة أو الأدوية، ما هي إلا أساليب للهروب من الواقع، في حين أن التعايش مع الحياة بصورتها الواقعية يساعد على النجاح.
رغم عدم وجود إحصائيات رسمية حول نسبة الإصابة باكتئاب ما بعد السفر، وعدم وجود توصيف مُحدد له في الطب النفسي، لكن دراسة نُشرت في "PMC" (أرشيف المكتبة الوطنية للطب الحيوي في الولايات المتحدة)، والتي أُجريت في 2010، حول مستوى السعادة قبل وبعد الإجازة لدى عدد من الأشخاص، ذكرت أننا نحكم على جودة حياتنا بشكل رئيسي من خلال تقدير الفجوة بين واقع حياتنا والمعايير الشائعة للجودة، وأن السعادة هي انعكاس لكيف نشعر عموماً، وهو ما يتفق مع حديث الاستشاري النفسي جمال فرويز حول أن الاكتئاب المُلاحق للسفر يكون السبب فيه جودة الحياة الطبيعية للأشخاص قبل وبعد السفر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
mahmoud fahmy -
منذ 4 أيامكان المفروض حلقة الدحيح تذكر، وكتاب سنوات المجهود الحربي، بس المادة رائعة ف العموم، تسلم ايديكم
KHALIL FADEL -
منذ 5 أيامراااااااااااااااااااااااااائع ومهم وملهم
د. خليل فاضل
Ahmed Gomaa -
منذ 6 أيامعمل رائع ومشوق تحياتي للكاتبة المتميزة
astor totor -
منذ أسبوعاسمهم عابرون و عابرات مش متحولون
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعفعلاً عندك حق، كلامك سليم 100%! للأسف حتى الكبار مش بعيدين عن المخاطر لو ما أخدوش التدابير...
Sam Dany -
منذ اسبوعينانا قرأت كتاب اسمه : جاسوس من أجل لا أحد، ستة عشر عاماً في المخابرات السورية.. وهو جعلني اعيش...