في أوائل الألفية، لم يكن أحد يتخيّل أن يصبح اسم عمرو موسى، جزءاً من الثقافة الشعبية المصرية بطريقة غير تقليدية، لكن هذا ما حدث، عندما أطلق المطرب الشعبي شعبان عبد الرحيم، أغنيته الشهيرة "أنا بكره إسرائيل"، التي تضمّنت عبارة بسيطة لكنها شديدة الدلالة: "بحب عمرو موسى... بكلامه الموزون".
سرعان ما انتشرت الأغنية كالنار في الهشيم، لتصبح نشيداً غير رسمي، يعكس المزاج الشعبي العام. لم يكن حب الناس لموسى نابعاً فقط من مواقفه الدبلوماسية الحادة نسبياً تجاه إسرائيل، بل لأنه بدا مختلفاً عن بقية رجال نظام مبارك. كان يمتلك كاريزما شعبية، وحضوراً يجعله قريباً من الناس، وهو أمر نادر بين السياسيين.
لكن المفارقة أن هذه الشعبية التي عزّزتها الأغنية، لم تكن نعمة عليه بقدر ما أصبحت نذير شؤم، فوفقاً لروايات عدة، عندما سمع أحد مساعدي موسى الأغنية لأول مرة، التفت إليه قائلاً: "الله يرحمك.. شعبان عبد الرحيم سيقضي على مستقبلك السياسي"، بحسب رواية الكاتب بهاء حجازي.
ولم يمر وقت طويل حتى تحققت هذه النبوءة، فبعد سنوات من كونه أحد أقوى وزراء الخارجية في عهد مبارك، تم نقله إلى جامعة الدول العربية، فيما بدا أنه عملية "تجميد سياسي". كان صعود نجمه الشعبي يمثل تهديداً محتملاً، والنظام لم يكن ليسمح بوجود بديل ذي مصداقية يمكن أن يزاحم رأس السلطة.
لكن علاقة موسى بشعبان لم تنتهِ عند هذا الحد، فعندما قرّر الترشّح في انتخابات 2012، عاد شعبان لدعمه بأغنية أخرى حملت رسالة واضحة: "بحب عمرو موسى الراجل الحسيس... بحب عمرو موسى وهو ده الرئيس".
لكن هذه المرة، لم تنجح الأغنية في حشد الأصوات، ولم تسعفه الشعبية التي منحتها له الأغاني الشعبية عندما جاءت لحظة الحقيقة في صناديق الاقتراع.
الشعبية التي عزّزتها أغنية شعبان عبد الرحيم الشهيرة، لم تكن نعمة على عمرو موسى بقدر ما أصبحت نذير شؤم، فوفقاً لروايات عدة، عندما سمع أحد مساعدي موسى الأغنية لأول مرة، التفت إليه قائلاً: "الله يرحمك.. شعبان عبد الرحيم سيقضي على مستقبلك السياسي"
وفي أحد اللقاءات الإعلامية، روى موسى أنه حين أصدر مذكراته "كتابيه"، لم يهدِ نسخة منها لشعبان، ما جعل الأخير يشعر بالخذلان. لاحقاً، تدارك موسى الأمر، والتقاه ليكتب له إهداءً خاصاً: "إلى المطرب الشعبي الشهير... أخاً عزيزاً وصديقاً وفياً... أهدي كتابيه"
ردّ شعبان بصورة التُقطت له وهو يقبّل الكتاب، فتحولت إلى ميم شهير على مواقع التواصل الاجتماعي، مع تعليقات ساخرة مثل: "انت بتبوس إيه... ده مش مصحف".
تكشف هذه القصة جانباً آخر من شخصية عمرو موسى، السياسي الذي، رغم خبراته الطويلة، لم يستطع تفادي أن يكون جزءاً من لعبة المزاج الشعبي، فقد كان محبوباً في الشارع.
في شباط/ فبراير 2012، وبينما كانت مصر تستعد لأول انتخابات رئاسية بعد الثورة، جلس عمرو موسى في مناظرة تلفزيونية، في مشهد لم تعهده السياسة المصرية من قبل.
في تلك المرحلة، كانت الثورة قد أعادت رسم المشهد السياسي، مانحة المصريين شعوراً بأن الخيارات مفتوحة بلا سقف، لكن وسط الحماس الثوري والبحث عن رموز جديدة، بدا أن الخيارات الواقعية تُركت جانباً، فبينما كان موسى يحاول تقديم نفسه كجسر بين الماضي والمستقبل، كان هناك تيار واسع يرفض كل ما يمتّ بصلة للنظام القديم، حتى لو كان ذلك يعني القفز في المجهول.
وبعد أكثر من عقد على تلك اللحظة، يعود اسم عمرو موسى إلى الواجهة، لكن ليس كفاعل سياسي، بل كشخصية يعاد تقييمها بعيون مختلفة. لم يعد يُنظر إليه كوجه من وجوه الماضي، بقدر ما أصبح رمزاً لما كان يمكن أن يكون، لفرصة ربما لم تُمنح وقتها ما تستحقه من التفكير، كشبح لفرصة ضائعة. رجل دولة كان بإمكانه، ببراغماتيته، أن يكون البديل الأكثر منطقية لعبور مصر، من فوضى ما بعد 2011، إلى استقرار مدني يضم كل الأطياف. ظهوره الأخير في بودكاست "الحل إيه" مع رباب المهدي، ومع عمرو أديب في برنامج "الحكاية"، لم يكن مجرّد استعادة لصوت قادر على التحليل، بل كان أيضاً انعكاساً لمفارقة مريرة: كيف أن رجلاً يقترب من التسعين، لا يزال أكثر تماسكاً واتزاناً في خطابه من معظم النخبة الحاكمة اليوم؟
لم يعد يُنظر إلى عمرو موسى كوجه من وجوه الماضي، بقدر ما أصبح رمزاً لما كان يمكن أن يكون، لفرصة ربما لم تُمنح وقتها ما تستحقه من التفكير، كشبح لفرصة ضائعة.
عودة الصوت الغائب
لم يكن الاحتفاء بعودة موسى إلى المشهد الإعلامي مجرد حنين إلى زمن مضى، بل كان تعبيراً عن فراغ سياسي عميق، فظهوره جاء في وقت يزداد فيه الإحساس بأن النظام الحالي، الذي قام على الولاء المطلق، استنزف نفسه. فبينما أبقى مبارك حوله شخصيات ذات خبرة، مثل موسى وعمر سليمان وكمال الجنزوري، فضّل النظام الحالي إدارة البلاد عبر مجموعة من الموالين الذين لا يملكون القدرة على إنتاج خطاب سياسي متماسك.
وفي لحظة أزمة مثل حرب غزة الأخيرة، بدا الفرق واضحاً. خرج موسى ليقدم تحليلاً سياسياً مترابطاً، بينما ظهر الخطاب الرسمي مرتبكاً. تحدّث عن 7 أكتوبر باعتبارها لحظة أعادت القضية الفلسطينية إلى قلب المشهد، وعن الفشل العربي في إدارة الانقسامات الفلسطينية، وعن التحولات في نظرة الغرب للإسلام السياسي. كان الرجل يُحلّل، لا يُطلق الشعارات. يقيّم الوقائع، لا يبيع الوهم.
لكن الأهم من الاحتفاء المتأخر بموسى، هو إعادة التفكير في لحظة 2012، وما إذا كانت الثورة قد أضاعت فرصة سياسية كان يمكن أن تغيّر مسارها.
في تلك الفترة، خرج موسى من عباءة نظام مبارك، لكنه لم يكن مقبولاً لدى التيارات الثورية، التي فضّلت الذهاب إلى خيارات رومانسية، مثل عبد المنعم أبو الفتوح وحمدين صباحي. كان يُنظر إليه باعتباره امتداداً للنظام القديم، في وقت كانت الثورة تُريد قطيعة كاملة معه، وحين جاءت المناظرة الشهيرة بينه وبين أبو الفتوح، انتهى الأمر بخسارتهما معاً، لصالح صعود محمد مرسي وأحمد شفيق إلى جولة الإعادة، ولا أستبعد هنا فكرة المؤامرة، أن المناظرة الرئيسية التلفزيونية الوحيدة التي حدثت (إن لم تخني الذاكرة) كانت بين موسى وأبو الفتوح، وكانت خَصْماً من رصيد كليهما.
اليوم، ومع نظرة أكثر واقعية، يبدو السؤال مشروعاً: ماذا لو دعمت القوى الثورية موسى بدلاً من التشتت بين مرشحين لا يملكون فرصاً حقيقية؟ هل كان بإمكان مصر تجنّب سنوات من الاستقطاب والانقسام، لو جاء رئيس يملك القدرة على التفاوض مع المؤسسة العسكرية، وفي الوقت نفسه يتمتع بشرعية سياسية أوسع؟
لكن من ناحية أخرى، فالواقعية السياسية ليست دائماً الحل الأمثل، بل قد تكون في بعض الأحيان مجرّد مبرّر للقبول بالحد الأدنى من التغيير خوفاً من المجهول. في 2012، كانت الثورة في حالة بحث عن بدائل جذرية، وهو ما جعلها تنحاز إلى خيارات بدت آنذاك أكثر طموحاً، وإن كانت غير واقعية، لكن هل كان القبول بمرشح كعمرو موسى سيعني بالضرورة الحفاظ على مكتسبات الثورة، أم أنه كان مجرّد محاولة لاحتواء التغيير دون إحداث تحول حقيقي؟ كثيراً ما تُستخدم الواقعية السياسية كأداة لإقناع المجتمعات بأن ما هو متاح هو الأفضل، حتى لو كان ذلك يعني استمرار نفس الهياكل القديمة بوجوه جديدة. في لحظات التحول الكبرى، تحتاج المجتمعات إلى أكثر من مجرد حلول وسط، بل إلى رؤية قادرة على إعادة تشكيل المستقبل، لا مجرد إدارته بأقل الخسائر.
السؤال الحقيقي ليس فقط: لماذا لم يرَ أحد القيمة السياسية لموسى إلا بعد أن أصبح خارج الحسابات؟ بل أيضاً: هل كانت الواقعية السياسية التي جرى تجاهلها آنذاك هي الحل حقاً، أم أنها لم تكن سوى شكل آخر من أشكال الركون إلى الممكن بدلاً من السعي إلى التغيير الحقيقي؟
الوجه الآخر لعمرو موسى: نقد مستحق
بداية، دعني ألتقط هذا التعليق الساخر، والذكي، والذي أؤمن به، والذي جاء رداً على تعليق أحدهم: "عمرو موسى فرصة مصر التي لم تأت".
بغض النظر عن كفاءة السيد عمرو موسى أو مكانته، لو قمنا بمقارنة أي شخص متزن بما هو موجود حالياً، سنكتشف ان هذا الشخص - أياً كان – "فرصة مصر التي لم تأت"، مع تعليق ذكي آخر لكاتب صديق: "سبب انبهار واحتفاء الناس بحديث عمرو موسى، إن الراجل عنده قدره إنه يقول جملة تتكون من فعل وفاعل ومفعول به"، وربما كان المرء ليكتفي بهذين التعليقين الوافيين في رأيي.
ففي مقابل الاحتفاء بعمرو موسى، هناك نظرة نقدية تستحق التأمل.
فرغم خبرته الدبلوماسية، كان موسى جزءاً من نخبة سياسية، ساهمت في تشكيل واقع مصر الذي أدى إلى ثورة يناير. خلال فترة عمله كوزير للخارجية (1991-2001)، تبنّى خطاباً بدا حازماً تجاه إسرائيل، لكنه لم يغيّر شيئاً في مسار السياسة الخارجية المصرية، كما أن فترة رئاسته لجامعة الدول العربية (2001-2011) لم تكن مؤثرة بالشكل الذي يعكس طموحاته السياسية، وظلّت الجامعة عاجزة عن التعامل مع الأزمات العربية الكبرى.
أما في انتخابات 2012، فقد فشل موسى في تقديم خطاب يُقنع الثوار بأنه بديل مقبول، وفي الوقت ذاته، لم يستطع جذب أصوات المحافظين الذين مالوا لمرشحين مثل مرسي وأبو الفتوح. بدا وكأنه محاصر بين إرثه السياسي كجزء من نظام مبارك، وبين محاولته تقديم نفسه كوجه إصلاحي.
في النهاية، ربما يكون السؤال الحقيقي ليس فقط: لماذا لم يرَ أحد القيمة السياسية لموسى إلا بعد أن أصبح خارج الحسابات؟ بل أيضاً: هل كانت الواقعية السياسية التي جرى تجاهلها آنذاك هي الحل حقاً، أم أنها لم تكن سوى شكل آخر من أشكال الركون إلى الممكن بدلاً من السعي إلى التغيير الحقيقي؟
قد تكون السياسة لا تُصنع بالأحلام وحدها، لكنها أيضاً لا تتقدم بالاكتفاء بحدود الممكنات، ففي لحظات التحول الكبرى، الواقعية قد تحمي من الانهيار، لكنها أيضاً قد تكون عائقاً أمام التغيير الجذري. وبينما يُعاد اليوم تقييم لحظة 2012، يظل السؤال مفتوحاً: هل كانت الواقعية تعني إنقاذ الثورة أم احتواءها؟ وهل كان موسى فرصة ضائعة، أم مجرد امتداد لنظام لم يكن ليستوعب فكرة التغيير منذ البداية؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Toge Mahran -
منذ 4 أياماكتر مقال حبيته وأثر فيا جدا♥️
Tayma Shrit -
منذ 4 أيامكوميديا سوداء تليق بمكانة ذاك المجرم، شكرا على هذا الخيال!
Europe in Arabic-Tarek Saad أوروبا بالعربي -
منذ 5 أيامالمقال بيلقى الضوء على ظاهرة موجوده فعلا فى مصر ولكن اختلط الامر عليك فى تعريف الفرق بين...
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياماحمد الفخرناني من الناس المحترمة و اللي بتفهم و للاسف عرفته متاخر بسبب تضييق الدولة علي اي حد بيفهم
Europe in Arabic-Tarek Saad أوروبا بالعربي -
منذ أسبوعمقال رائع..
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعالحبة الحمراء أيديولوجية يقتنع بها بعض من النساء والرجال على حد السواء، وبرافو على هذا الشرح الجميل