تخيّلوا معي امرأةً تنشر يومياً على حساباتها الاجتماعية، صوراً وعبارات مليئةً بالحب لزوجها، توثق كل لحظة سعيدة معه، وكل عيد ميلاد وكل لحظة رومانسية بينهما، وتقدّم للجميع صورةً عن علاقةٍ مثالية مبنيّة على التفاهم والحب الأبدي، فتصبح هذه المرأة رمزاً للحب في عيون متابعيها، وتنبض حياتها بالفرح والابتسامات واللحظات التي تلمع كالنجوم في السماء. لكن هذه المرأة نفسها التي كانت تقدّم صورة الحب المثالي للجميع، تم تُقتَل على يد الشخص نفسه الذي كانت تنشر عن حبّها له بشكلٍ مستمرّ. نعم، زوجها هو من قتلها.
هذا المشهد ليس من مسلسلٍ أو فيلم، بل حصل فعلاً مع مرام، وهي سيدة مصرية قام زوجها بخنقها، ما تسبّب لها في إصابة مميتة وقطعٍ في البلعوم وسحجات حول الرقبة، وبدلاً من قيامه بنقلها إلى المستشفى لتلقّي العلاج وإنقاذها من الموت، تركها مدّة 5 أيام في المنزل تصارع الموت.
وبعد مرور الأيام، وتدهور حالتها بشدّة، نقلها الزوج الذي وصفته مرام، في تعليقٍ أرفقته بصورتهما على فيسبوك، بأنه "عالمها"، إلى المستشفى حيث خضعت لـ6 عمليات جراحية في محاولة لإنقاذ حياتها، إلا أنها توفيت متأثرةً بجراحها البالغة وتأثيراتها، حيث تسبّب قطع البلعوم في تصديد وتعفّن القصبة الهوائية.
الحقيقة خلف الابتسامة
قصة هذه السيدة المصرية تعكس حقيقةً مؤلمةً عن الحياة وراء هذه الصور المبهرة. ففي عالم تهيمن عليه منصات السوشال ميديا، أصبحنا نعيش في واقعٍ مزدوج، حيث يختلط الحب والخيال، وتتشكل معايير غير واقعية للعلاقات. نتصفح الصور والتعليقات يومياً، ونشاهد لحظات لا تُعدّ ولا تُحصى من الحب والعاطفة التي تبدو مثاليةً وساحرةً على شاشات هواتفنا، لكن هل هذه الصورة التي نراها هي الحقيقة أم أن وراء هذه الواجهة اللامعة ظلالاً من القلق والصراع لا نراها؟
حادثة مرام ليست حالةً فرديةً، بل هي جزء من ظاهرة يعاني منها الكثيرون في عصر السوشال ميديا، فهذه المنصات، التي تمنحنا الفرصة لإظهار أفضل لحظات حياتنا، قد تكون في الوقت نفسه مصدراً لبناء معايير غير واقعية حول الحب والعلاقات: بعض الناس يتعرضون لصور لعلاقات لا تنضح سوى بالسعادة والمثالية، بينما يتجاهلون عمداً أو لا يرون الخفايا، والألم الذي قد يختبئ وراء تلك الابتسامات الجميلة.
نتصفح الصور والتعليقات يومياً، ونشاهد لحظات لا تُعدّ ولا تُحصى من الحب والعاطفة التي تبدو مثاليةً وساحرةً على شاشات هواتفنا، لكن هل هذه الصورة التي نراها هي الحقيقة أم أن وراء هذه الواجهة اللامعة ظلالاً من القلق والصراع لا نراها؟
بمعنى آخر، ما نراه على السوشال ميديا ليس دائماً حقيقةً. قد تُظهِر الصور والقصص التي نشاركها جانباً واحداً فقط من العلاقة: الجانب المشرق والمثالي. لكن هذه الصورة قد لا تعكس التوترات العاطفية، أو العنف النفسي، أو الخيانة التي قد تكون موجودةً خلف الأبواب المغلقة. وفي حالاتٍ مثل هذه، يمكن أن يؤدي التجميل المفرط للعلاقات على السوشال ميديا إلى تشويه مفهوم الحب لدى المتابعين الذين قد يظنون أن هذا هو الشكل الوحيد المقبول للعلاقات العاطفية، ما يعزز ضغطاً اجتماعياً كبيراً عليهم.
القصص المجهولة خلف العلاقات الافتراضية
"أصبحت أخاف من الحب وعلاقات السوشال ميديا"، هكذا تعرب ليا (اسم مستعار)، عن خوفها من الدخول في علاقات تعارف جديدة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وفق ما قالته لرصيف22.
كانت هذه الشابة اللبنانية في العشرينات من عمرها، تعيش في ظل أوضاع الحرب في لبنان، وتشعر بالعزلة وتبحث عن الأمل وسط هذه الظروف القاسية. تعرّفت "أونلاين" على شاب كان في البداية يرسل لها رسائل الحب والاهتمام يومياً، ويتابع كل تفاصيل حياتها، ما جعلها تشعر بأنها محطّ اهتمامه. ومع مرور الوقت، بدأ الشاب يخاطر بحياته من مكان بعيد للقاء ليا، ليجعلها تشعر بأنه يضحي بكل شيء من أجلها: "لكن بعد فترة من هذه العلاقة الافتراضية، جاء اعترافه الصادم. قال لي إنه خاطب بالفعل لكنه لا يحب خطيبته، بل يحبني أنا".
هذه المنصات، التي تمنحنا الفرصة لإظهار أفضل لحظات حياتنا، قد تكون في الوقت نفسه مصدراً لبناء معايير غير واقعية حول الحب والعلاقات: بعض الناس يتعرضون لصور لعلاقات لا تنضح سوى بالسعادة والمثالية، بينما يتجاهلون عمداً أو لا يرون الخفايا، والألم الذي قد يختبئ وراء تلك الابتسامات الجميلة
ثم بدأ يضغط عليها ويتحرش بها عن طريق تعليقات مبهمة أو طلبات غير مريحة، ما جعلها تشعر بخيبة أملٍ وحيرة، بعدما كانت قد ظنت أن هذا الشخص هو من سيشاركها حياتها: "حاول في أكثر من مرّة أن يمسك يدي ويقبّلني قبل أن يعترف بأنه مرتبط بإنسانة أخرى. كما كان يغازلني بكلمات غريبة لا تليق بي، وعندما اعترف بالحقيقة دخلت في صدمة أوصلتني إلى العلاج النفسي".
معايير غير واقعية
يقوم السوشال ميديا بتشكيل معايير غير واقعية للعلاقات، كما يشير الصحافي المتخصص في شؤون التكنولوجيا شادي عواد، لرصيف22.
في الواقع، إن التقدم التكنولوجي وظهور منصات التواصل الاجتماعي قد غيّرا بشكل جذري طريقة التعارف بين الأشخاص، وأصبح بالإمكان التعرّف إلى الآخرين في أي وقت ومن أي مكان في العالم، دون الحاجة إلى اللقاءات التقليدية أو حتى السفر، لكن وراء هذه الإمكانية السهلة تبرز تحديات ومخاطر كبيرة، خاصةً عندما يتعلق الأمر بهوية الأشخاص عبر هذه المنصات، حسب قول عواد.
ويضيف: "الهوية المضللة هي أحد أكبر التحديات التي تطرحها السوشال ميديا، حيث يمكن للأفراد تشكيل هويات رقمية تتناسب مع رغباتهم واهتماماتهم الشخصية، ما يجعل الصورة التي يُقدّمون أنفسهم بها لا تعكس بالضرورة شخصياتهم الحقيقية".
ويتابع: "هذا الانفصال بين الواقع والتمثيل الرقمي يمكن أن يؤدي إلى خيبة أمل كبيرة عندما تأتي اللحظة الحقيقية للمقابلة أو التفاعل، وهي الخيبة التي قد تكون عاطفيةً ونفسيةً، كما يحدث في حالات مثل الحالة التي عرضناها".
واللافت أن العلاقة التي تظهر كقصة حب مثالية على السوشال ميديا، قد تكون محاطةً بمخاطر أخرى، مثل الاحتيال المالي أو التوقعات غير الواقعية. فالعلاقات التي تُبنى على أسس افتراضية قد تؤدي إلى بناء تصور مغلوط عن الشخص الآخر، ما يخلق فجوةً بين الصورة المثالية على الإنترنت والواقع الذي قد يصدم الطرفين.
ويختم عواد حديثه بقوله إن "هذه الظاهرة الرقمية، التي نشهدها اليوم، تحمل في طياتها العديد من التحديات النفسيّة والعمليّة. ففي عالمٍ يعجّ بالعلاقات الافتراضية والصور اللامعة، قد يكون من الصعب أحياناً التفريق بين ما هو حقيقي وما هو مجرّد تمثيل. تبرز هنا أهمية الوعي، ليس فقط في التعامل مع الصور الظاهرة على منصات السوشال ميديا، بل أيضاً في التفريق بين الحقيقية والتمثيلية في العلاقات التي تُبنى في هذا الفضاء الرقمي".
التوقعات الزائفة والمقارنات المستمرة
من الناحية النفسية والاجتماعية، تشير أخصائية الدعم النفسي والإجتماعي مورغا حبوشي، في حديث إلى رصيف22، إلى أن "الصورة المثالية أصبحت هي المعيار اليوم، ما يجعل بعض الأشخاص يتجاهلون القيم الحقيقية التي تساهم في بناء علاقة صحيّة ومستقرة، مثل التواصل الفعّال، الاحترام المتبادل والوعي بالمشاعر الحقيقية للطرفين".
وتوضح أنه مع مرور الوقت يمكن أن يشعر الأفراد بالذنب أو العجز عندما لا تتطابق علاقتهم مع الصورة المثالية التي يرونها على السوشال ميديا، ما يعزز الشعور بالانفصال العاطفي أو الطلاق.
وتضيف حبوشي: "نرى يومياً صوراً ومقاطع تظهر الحب المثالي: الأزواج الذين يبدون دائماً في لحظات سعيدة، الرحلات الرومانسية، والهدایا المبهرة... هذا النوع من المحتوى يمكن أن يخلق لدى بعض الأفراد توقعات غير واقعية حول العلاقات العاطفية، ما يؤدي إلى الشعور بالإحباط أو القلق إذا لم تكن علاقاتهم تتماشى مع هذه الصورة المثالية. هذا الضغط النفسي قد يدفعهم إلى التشكيك في صحة علاقاتهم أو الشعور بعدم الرضا، خاصةً إذا كانت الأمور لا تسير كما تبدو على الإنترنت".
وتتابع مورغا: "السوشال ميديا تخلق بيئةً خصبةً للمقارنة المستمرّة مع الآخرين. يرى الناس صوراً لعشاء رومانسي أو إجازات فاخرة، فتدفعهم هذه الصور إلى إخضاع علاقاتهم الخاصة لتلك المعايير. هذه المقارنات يمكن أن تؤدي إلى شعورٍ بالاستياء، حيث يتخيّل الأفراد أن علاقاتهم ليست جيّدةً بما فيه الكفاية مقارنةً بما يرونه على صفحات السوشال الميديا".
أما بالنسبة إلى الحب والرومانسية، فقد يشعر البعض بأنّ علاقاتهم في الحياة الواقعية ليست مليئةً بالشغف والرومانسية كما يرون في الصور والمحتوى الذي يشاركه الآخرون على الإنترنت. هذا الشعور بالملل أو عدم الرضا يمكن أن يدفعهم إلى البحث عن الإثارة أو الاهتمام العاطفي خارج علاقتهم الحالية، ما يؤدي إلى الخيانة.
"السوشال ميديا تخلق بيئةً خصبةً للمقارنة المستمرّة مع الآخرين. يرى الناس صوراً لعشاء رومانسي أو إجازات فاخرة، فتدفعهم هذه الصور إلى إخضاع علاقاتهم الخاصة لتلك المعايير. هذه المقارنات يمكن أن تؤدي إلى شعورٍ بالاستياء، حيث يتخيّل الأفراد أن علاقاتهم ليست جيّدةً بما فيه الكفاية مقارنةً بما يرونه على صفحات السوشال الميديا"
في خضم هذا الواقع المزدوج الذي نعيش فيه، حيث تتداخل الصور المثالية على السوشال ميديا مع الحقيقة التي قد تكون مليئةً بالآلام والخفايا، لا بد أن نتوقف لحظةً ونسأل أنفسنا: هل نحن فعلاً على الطريق الصحيح أم أننا نسير خلف صورة مزيّفة؟ وكما قالت أم كلثوم في أغنيتها "سيرة الحب": "العيب فيكم وفحبايبكم، أما الحب يا روحي عليه". فالحب ليس مجرّد كلمات يكتبها البعض على صفحاتهم، ولا لحظات معدودة تُعرض على الشاشات. الحب الحقيقي يحتاج إلى الصدق والاحترام والتفاهم بعيداً عن الأضواء الزائفة.
إن الحب ليس عرضاً للمتابعين، ولا مسابقة لأجمل صورة أو أروع لحظة. الحب في جوهره هو العيش معاً، ومواجهة التحديات معاً والقدرة على النمو معاً. لكن عندما تُشوّه معايير الحب بسبب السوشال ميديا، ويختلط الواقع بالتمثيل، يصبح من الضروري أن نتذكر أن وراء الابتسامة قد تكون هناك قصة مؤلمة لم تُروَ.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 9 ساعاتفعلاً عندك حق، كلامك سليم 100%! للأسف حتى الكبار مش بعيدين عن المخاطر لو ما أخدوش التدابير...
Sam Dany -
منذ 6 أيامانا قرأت كتاب اسمه : جاسوس من أجل لا أحد، ستة عشر عاماً في المخابرات السورية.. وهو جعلني اعيش...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياملماذا حذفتم اسم الاستاذ لؤي العزعزي من الموضوع رغم انه مشترك فيه كما ابلغتنا الاستاذة نهلة المقطري
Apple User -
منذ أسبوعوحده الغزّي من يعرف شعور هذه الكلمات ، مقال صادق
Oussama ELGH -
منذ أسبوعالحجاب اقل شيء يدافع عليه انسان فما بالك بحريات اكبر متعلقة بحياة الشخص او موته
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعاهلك ناس شجاعه رفضت نطاعه واستبداد الاغلبيه