شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
عن

عن "معركة الأسماء" في سوريا... جسر الرئيس أم جسر الخسيس؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن وحرية التعبير

الأربعاء 12 فبراير 202511:35 ص

داخل حافلة مكتظة في دمشق، سمعتُ شاباً يتحدث عبر الهاتف قائلاً: "وصلت عند جسر الرئيس". لم يكد ينهي مكالمته حتى التفت إلى الحاضرين بارتباك، وأضاف معتذراً: "آسف، بقصد جسر الخسيس". بعضهم ضحك، وآخرون تجاهلوا الموقف، لكن هذه اللحظة العابرة كانت تحمل دلالات أعمق من مجرد زلة لسان. فقد أصبحت اللغة اليومية في سوريا محمّلة بإرث ثقيل، حيث لم تعد الكلمات مجرد أدوات للتواصل، بل باتت تعكس تجاذبات اجتماعية وثقافية تمتد إلى تفاصيل الحياة اليومية.

خلال السنوات الماضية، أعيد النظر في الكثير من المصطلحات والأسماء في سوريا، سواء في سياقات رسمية أو شعبية. تغيرت دلالات بعض الكلمات، وبرزت مصطلحات جديدة، فيما احتفظت أخرى بمكانتها رغم المتغيرات. بعيداً عن الجدل السياسي، يمكن لهذه الظاهرة أن تُقرأ من زاوية إنسانية وثقافية: كيف تتشكل علاقتنا بالأماكن عبر أسمائها؟ وهل يمكن أن تكون هناك لغة محايدة تعكس تنوع التجربة السورية؟

اللغة كذاكرة جمعية: هل يمكن فصل الكلمات عن سياقاتها؟

عندما تقول "جسر الرئيس"، هل تفكر في رمزية الاسم، أم تنطقه ببساطة لأنه الاسم الذي تعرفه؟ معظم السوريين يستخدمون هذه الأسماء تلقائياً، دون وعي أو قصد سياسي. يقول أحد أصدقائي: "بالنسبة لي، هو مجرد جسر. لا أفكر في معناه، بل في أنني سأعبره يومياً للوصول إلى عملي".

لكن البعض يرى أن اللغة لا تنفصل عن سياقها التاريخي، فهي انعكاس للواقع الذي نشأت فيه. في سوريا، حملت بعض الأسماء الرسمية دلالات أيديولوجية لعقود، مثل "مشافي الباسل"، "مدارس البعث"، و"معاهد الأسد"، فلم تكن مجرد علامات جغرافية، بل جزءاً من هوية سياسية ارتبطت بمرحلة زمنية محددة.

يقول أحد المارة في دمشق: "أنا أقول جسر الرئيس لأنه الاسم الذي عرفته منذ الطفولة، لا أفكر في رمزيته، إنه مجرد معلم جغرافي"، بينما يرى آخر أن تغيير بعض الأسماء ضروري "للتخلص من إرث الماضي"

مع ذلك، يستخدم كثير من السوريين هذه الأسماء دون التفكير في دلالاتها. يقول أحد المارة في دمشق: "أنا أقول جسر الرئيس لأنه الاسم الذي عرفته منذ الطفولة، لا أفكر في رمزيته، إنه مجرد معلم جغرافي"، بينما يرى آخر أن تغيير بعض الأسماء ضروري "للتخلص من إرث الماضي، والبدء بمرحلة جديدة تعبر عن جميع السوريين"، أما أحد سائقي التاكسي، فعندما طلبت منه أن يقلني إلى المشفى الوطني في دمشق، المعروف سابقاً باسم "الأسد الجامعي"، قال مبتسماً: "لو قلتِ المشفى الوطني فقط، لما عرفت المقصود، لكن عندما ذكرتِ الاسم القديم، فهمت وجهتك فوراً، ربما نحتاج بعض الوقت لحفظ الأسماء الجديدة".

عندما تقول "جسر الرئيس"، هل تفكر في رمزية الاسم، أم تنطقه ببساطة لأنه الاسم الذي تعرفه؟

يرى البعض أن الأسماء مجرد عناوين عملية للحياة اليومية، فيما يعتبرها آخرون رموزاً تستحق التغيير. يقول شاب من دمشق: "لا أفكر كثيراً حين أقول ساحة العباسيين أو جسر الرئيس. بالنسبة لي، هو اسم متداول ولا يعنيني ما وراءه"، في المقابل، يرى آخرون أن استمرار استخدام بعض الأسماء يعيد إنتاج الذاكرة ذاتها: "نحن نكرّر أسماء تحمل دلالات معينة، حتى دون أن نشعر. تغيير الأسماء قد يخلق مساحة جديدة للتفكير، لكنه ليس كافياً وحده لإحداث تغيير حقيقي".

بهذا التنوع في وجهات النظر، نجد أن إعادة تسمية الأماكن ليست مجرد إجراء إداري، بل عملية معقدة تمس ذاكرة الأفراد والمجتمع. ففي العديد من دول العالم، كان تغيير الأسماء جزءاً من عمليات المصالحة الوطنية، لكنه لم يكن دائماً محل اتفاق.

تجارب من العالم

التاريخ مليء بأمثلة عن إعادة النظر في التسميات الرسمية بعد التحولات السياسية، إذ لم تكن الأسماء مجرد عناوين جغرافية، بل انعكاساً لهويات سياسية واجتماعية. في ألمانيا، بعد سقوط النازية، أزيلت أسماء الشوارع والساحات المرتبطة بتلك الحقبة، مثل تحويل "ميدان أدولف هتلر" في برلين إلى "ميدان الثورة". لكن رغم ذلك، بقيت بعض المصطلحات متداولة في الذاكرة الشعبية، ما يدل على أن التغيير اللغوي يحتاج وقتاً طويلاً لترسيخه. أما في جنوب إفريقيا، فقد شهدت مرحلة ما بعد الأبارتيد إعادة تسمية عشرات الشوارع والمدن لتعكس التنوع الثقافي، إلا أن العملية لم تكن سلسة؛ فبينما رأى البعض أن تغيير الأسماء خطوة ضرورية نحو العدالة الرمزية، اعتبر آخرون أن ذلك لا يغير الواقع المعيشي.

البعض قد يرى في الأسماء مجرد تفاصيل عملية في الحياة اليومية، بينما يجد فيها آخرون رموزاً تستحق المراجعة

كذلك، بعد تفكك الاتحاد السوفييتي في عام 1991، قامت العديد من الدول بإزالة أسماء القادة الشيوعيين من شوارعها وساحاتها كجزء من عملية اجتثاث الشيوعية. على سبيل المثال، في كييف، أوكرانيا، تم تغيير أسماء 95 شارعاً وساحة كانت تحمل أسماء روسية أو سوفيتية.

مع ذلك، لا تزال بعض المناطق تحتفظ بأسماء مثل "لينين" و"ستالين" في شوارعها، ما يعكس تبايناً في تقييم هذا الإرث التاريخي بين المجتمعات المختلفة.

تُظهر هذه التجارب أن تغيير الأسماء جزء من إعادة تعريف الهوية الوطنية، وهو أمر معقد يتطلب نقاشاً مجتمعياً واسعاً. ففي ألمانيا، لم يقتصر الأمر على تغيير الأسماء، بل شمل برامج تعليمية حول الذاكرة والتاريخ. وفي جنوب إفريقيا، اعتمدت لجان المصالحة على إشراك المجتمع لضمان تمثيل كافة الفئات. أما في أوروبا الشرقية، فقد استمر استخدام بعض الأسماء القديمة شعبياً رغم تغييرها رسمياً، ما يعكس أن الأسماء ليست مجرد قرارات حكومية، بل جزء من الثقافة اليومية.

في الحالة السورية، حيث لا تزال بعض الأسماء تحمل دلالات سياسية، يحتاج الأمر إلى نقاش شامل يأخذ في الحسبان التنوع الثقافي والاجتماعي. قد يكون الحل في إيجاد صيغة مشتركة تحترم التجربة السورية بكل تناقضاتها، فكما تُظهر التجارب الدولية، فإن التعامل مع الأسماء في الفضاء العام يتطلب رؤية تتجاوز البعد السياسي المباشر، لتشمل أسئلة أعمق حول الذاكرة الجماعية والهوية الوطنية.

هل يمكن للغة أن تكون جسراً لا ساحة معركة؟

في نهاية المطاف، تبقى اللغة انعكاساً لذاكرة الناس وتجاربهم. ما بين العادة والذاكرة، تحمل الكلمات قصصاً مختلفة لكل فرد. البعض قد يرى في الأسماء مجرد تفاصيل عملية في الحياة اليومية، بينما يجد فيها آخرون رموزاً تستحق المراجعة.

ربما يكون الحل في السماح للغة بأن تكون جسراً بين السوريين، لأن اللغة في جوهرها الحقيقي أداة للتواصل.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard
    Popup Image