شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
البحث عن البرلمان البديل في دمشق

البحث عن البرلمان البديل في دمشق

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

في تاريخ دمشق الحديث، كما في مدن أخرى، لم تكن العمارة يوماً بريئة أو حتى محايدة، فهي تحمل في طياتها سرديات السلطة، وتعكس موازين القوى، وتُجسّد الامتياز النخبوي الذي يُعمّق المسافة بين الحاكم والمحكوم. البرلمان، كما اعتدنا أن نراه، ليس مجرّد تجسيد حاد للسلطة، بل أداة لترسيخ المسافة بين من يُفترض أنهم ممثلون للشعب وبين الشعب ذاته. 

ما يعنينا هنا ليس الشكل، ولا الرموز البصرية التي تُثقله، بل الدور الذي يؤديه: هل هذه العمارة تخدم الشعب أم تكرّس غيابه؟ هل تحيي فكرة التشاركية، أم أنها تمثل انحياز السلطة وتفوقها الرمزي على من تمثلهم؟ ما الذي يجعل من الفضاء مكاناً شرعياً للتجمّع أو المنع؟ هذه الأسئلة تضع العمارة في مواجهة مع ذاتها، وتجعلها جزءاً من معركة أكبر؛ معركة تُخاض ضد كل ما يُقصي الإنسان، ويُحوّل المكان إلى أداة تحكّم بدلاً من أن يكون فضاءً للتحرّر.

هنا في دمشق، حيث تداخلات العمارة والسياسة شديدة الوضوح، أبحث عن برلمان بديل.

هنا في دمشق، حيث تداخلات العمارة والسياسة شديدة الوضوح، أبحث عن برلمان بديل.

المسرح يتحول إلى برلمان

في "شارع العابد"، أحد أبرز معالم التخطيط الكولونيالي في دمشق، يقف البرلمان السوري على أنقاض سينما ومسرح "جناق قلعة". هنا، في هذا الموقع الذي شيّده العثمانيون عام 1916 بالتعاون مع الألمان، كانت أول دار للمسرح والسينما في دمشق، لكنها لم تصمد طويلاً؛ احترقت، ليُستبدل المسرح ببرلمان، وكأن المكان ذاته يروي قصة تحوّلات عميقة في وظيفة الفضاءات العامة، من منصّة للعرض الفني إلى قاعة للعرض السياسي، ومن فضاء للخيال إلى فضاء للسلطة.

ليس بعيداً عن البرلمان، على الزاوية الشمالية الشرقية منه، يقع "مقهى الروضة"، نقطة العلام الأشهر في دمشق للقاء والاستدلال المكاني، والذي بالمناسبة وصفه خليل صويلح في مقال له نُشر في صحيفة "الأخبار" اللبنانية عام 2008 بـ "البرلمان الثقافي"، وهنا إشارة أولى على إمكانية كون هذا المقهى البسيط برلماناً بديلاً ومسرحاً يومياً للنقاشات الحرّة، كما أن أساس المبنى كان سينما صيفية، وهي مصادفة تحمل إشارة ثانية تبادرت إلى ذهني، تشابه التحول المعماري للبرلمان الحالي من سينما إلى مبنى رسمي.

هنا لا ننفي شرعية وأحقية الاحتفال والسعادة بسقوط النظام، لكن الوقت يمر والأمور تجري من تحتنا، وأنا الآن أبحث عن البرلمان البديل وأحاول الإجابة على الأسئلة الكبرى: كيف نصنع مكاناً يمثل الناس حقاً؟ كيف نحول النشاطات العشوائية إلى فعل سياسي حقيقي؟

جلوسي في الروضة اليوم مختلف. لست هنا من أجل التسلية، بل برفقة أصدقاء ننتظر لقاء "حازم نهار"، الكاتب ذائع الصيت، للحديث عن "المؤتمر الوطني"، وهو إشارة ثالثة إيجابية عن كونه برلماناً بديلاً، يحتضن حوارات جادة تهم الشأن العام، على نقيض حالة الاستعراض التي سادت البرلمانات البديلة الأخرى في المدينة بتجمّع لمؤثرين وصانعي محتوى. 

الحديث عن "برلمانات المؤثرين" قد يبدو مضيعة للوقت. هي مجرّد مسارح أخرى، ولكنها ليست مسارح للحوار الحقيقي، فالمسرح، حتى عندما يتحول إلى برلمان، يجب أن يظل وفياً لجوهره: منصة لطرح الأسئلة، لكشف السلطة، وليس للحشد والظهور. هنا لا ننفي شرعية وأحقية الاحتفال والسعادة بسقوط النظام، لكن الوقت يمر والأمور تجري من تحتنا، وأنا الآن أبحث عن البرلمان البديل وأحاول الإجابة على الأسئلة الكبرى: كيف نصنع مكاناً يمثل الناس حقاً؟ كيف نحول النشاطات العشوائية إلى فعل سياسي حقيقي؟

بالعودة إلى "مقهى الروضة" والحديث مع "حازم نهار"، كانت لحظة تضجّ بالتناقضات. المكان، رغم سوء تنظيمه، جذب جمهوراً متنوعاً، قَدِم من كل الجهات، وحتى العابرين أمام واجهته الشفافة استوقفهم مشهد التجمهر وغلبهم الفضول للدخول. النقاشات في الداخل أعطت إحساساً حقيقياً بالحياة، وكأن "مقهى الروضة" قد تحول، دون تخطيط مسبق، إلى مؤتمر حوار مفتوح. لا يحتاج المكان إلى فلسفات معمارية كبيرة ليتحول إلى فضاءٍ حيوي، بل يكفي أن يجتمع فيه الناس، أن تتشابك الأصوات، أن يصبح امتداداً لنبض المدينة.

C:\Users\SCC\Downloads\Telegram Desktop\photo_2025-01-13_21-05-19.jpg

بالطبع، "مقهى الروضة" كمبنى لا يقارن بالبرلمان الرسمي، بما يحمله من تفاصيل متقنة وأناقة متوازنة. على العكس، المقهى يتسم بالعشوائية، بالاستعراض والمزاجية، لكنه مع ذلك فضاء يخلق معنى آخر للحوار. أثناء الجلسة، أشار أحد الأصدقاء إلى وجود مقهى يحمل الاسم ذاته في حمص، ربما أقدم تاريخياً، ويقع بين محور الساعة القديمة والجديدة، وبتكوين مشابه. كانت هذه المقارنة جزءاً من حوار طبيعي بين معماريين، محاولة لفهم الروابط الخفية بين الأماكن ودلالاتها، لكن مصادفة حديث "حازم" عن ضرورة وجود مؤتمرات وطنية تأسيسية في كل محافظة جعلت من المقاربة أمراً شيقاً للبحث، وأثار سؤالاً أعمق: هل يجب أن تكون دمشق مركز كل شيء... مقرّاً للبرلمان ولمن يقرّر؟ لماذا لا تتوزع البرلمانات البديلة، فتكون امتداداً لخصوصية كل مدينة وروحها؟

سحابة الدخان الكثيفة دفعتني للخروج والتشكيك بأهلية المكان صحياً، وعلى "محور العابد" مشيت باتجاه "قهوة مزبوطة". لم أكن أهدف سوى لإلقاء التحية على أحدهم لأنني على ثقة بلقاء أحد ما أعرفه، مثل "زينة"، الصحفية التي تعتبر هذا المكان برلمانها المفضل: فضاء نخبوي، فني، ثقافي. مقهى "مزبوطة" يختلف عن "الروضة"؛ فهو ذو طابع معماري مميز، يحتل الطابق الأول من مبنى يعود إلى حقبة الاستعمار الفرنسي، وتنسيق عالي الجودة في تفاصيل نوافذه، وحبكة محكمة على زاوية تقاطع شارعين تتوّجها شجرة مجنونة ظليلة.

بالطبع، "مقهى الروضة" كمبنى لا يقارن بالبرلمان الرسمي، بما يحمله من تفاصيل متقنة وأناقة متوازنة. على العكس، المقهى يتسم بالعشوائية، بالاستعراض والمزاجية، لكنه مع ذلك فضاء يخلق معنى آخر للحوار.

داخل المكان، كانت النقاشات أكثر هدوءاً، تميل إلى العمق، وتشمل الجميع، حتى غير المدخنين، وكأن هذا الفضاء يعكس مجتمعاً سورياً أكثر تنوّعاً ومرونة من الروضة. هنا، كان اللقاء بالمفاجآت: "مضر"، "كنان"، وغيرهم ممن لم أرَهم منذ 13 عاماً على الأقل. اللقاءات المقصودة والعفوية معاً تضفي على "مزبوطة" بُعداً آخر، ويرفع من أسهمه كبرلمان من نوع خاص.

لكن، من صنع هذه الأماكن؟ من أعطاها قيمتها؟ الإجابة ببساطة: الناس، الزوار، السياق العمراني وسهولة الوصول. هم من حولوا "الروضة" و"مزبوطة" إلى فضاءات نابضة بالحياة. ليست العمارة وحدها من تصنع المكان، بل النشاط الإنساني، الحوار والروح التي تملأه.

الفكرة الأعمق هنا هي أن لا أحد يمكنه ادعاء امتلاك المكان، لا أصحاب "الروضة" ولا "مزبوطة". الشرعية تأتي من الاستخدام، من التفاعل بين الناس والمكان. في نهاية الأمر، برلمانات المدينة ليست مباني رسمية، بل أفعال تعيد صياغة فضاءات الحياة اليومية، وتجعلها منصات مفتوحة للحرية والنقاش.

برلماناتنا: حدود تُخلق ولا تُسأل عنها

لكن ماذا عن البرلمانات التي نصنعها نحن؟ تلك التي تولد من الهوامش، من الزوايا المخفية التي لم يلتفت إليها أحد، وتتشكل دون إذن أو تخطيط مسبق؟ هذا السؤال جاءني عندما التقيت بـ "مايا"، المعمارية الشغوفة بالسينما. دعوتها لمشاركتي فكرة برلمان مفتوح، عروض سينمائية في الشارع، مكان لا يرأسه أحد ولا يتوقف، لا لشيء لكن كي يفرض قانونه وبأنه من طبيعة الأشياء في المدينة.

أبعد قليلاً باتجاه السوق، بدأت التجربة في منطقة "الشعلان"، عند جدار أبيض في زقاق هادئ وقليل الحركة وسهل الوصول والنفاذية. أطلقت على الفكرة اسم "إسقاط"، مستوحياً العنوان من سياق البلاد: إسقاط النظام، وإسقاط الصور والأفكار على الحائط. كانت التجربة ضربة رمزية لقوانين الرقابة والمنع، كما وصفها صديقي "وسام"، محاولة لعرض أعمال كانت مختبئة وغير قابلة للنشر، أعمال تدعو إلى رفع سقف الحريات، لرسم حدود جديدة تتجاوز المكان والزمان.

من صنع هذه الأماكن؟ من أعطاها قيمتها؟ الإجابة ببساطة: الناس، الزوار، السياق العمراني وسهولة الوصول. هم من حولوا "الروضة" و"مزبوطة" إلى فضاءات نابضة بالحياة. ليست العمارة وحدها من تصنع المكان، بل النشاط الإنساني، الحوار والروح التي تملأه.

لم تكن التجربة مثالية. الطقس كان قاسياً، النظافة حول المكان لم تكن كما ينبغي والتوقيت لم يكن موفقاً، ومع ذلك كانت التجربة برمتها محاولة لخلق فضاء جديد للحوار، برلمان مؤقت في الشارع، خارج القاعات الرسمية وخارج سلطة المؤسسات. المفاجأة كانت في وفود الناس، رغم المطر، بدافع الفضول أو الرغبة في المشاركة. كانت تلك اللحظة شاهداً على أن البرلمان ليس مكاناً بقدر ما هو فعل، ليس منتخباً بالضرورة، بل يتجسّد في رغبة الناس في الحرية والنقاش. فكلمة "برلمان" ذاتها، المشتقة من الفرنسية parlement، تعني التحدث أو المناقشة، وهنا يكمن جوهرها الحقيقي: ليست رمزاً للسلطة، بل مساحة للحديث والنقد ولتبادل الأفكار.

في العمارة، ندّعي أن تصميم البرلمانات يمكنه تشكيل علاقة الشعب بالسياسة. نبني قباباً تشير إلى الانفتاح، وجدراناً زجاجية توحي بالشفافية، لكن هذه التصاميم، في معظم الأحيان، تخدم السلطة أكثر مما تخدم الناس، تتحول إلى أدوات لتأطير الديمقراطية داخل حدود معمارية، إلى محاولة لحصر التمثيل الشعبي في رموز مغلقة تكرّس النخبة وتقصي العامة.

البرلمانات الحقيقية ليست مباني مهيبة أو قاعات مزخرفة. هي الأفعال التي تخلق الحوار، هي الغرف التي تُفتح للنقاش، هي الزوايا المهملة التي تتحول إلى فضاءات لإعادة تعريف معنى الحرية، هي حالة اجتماعية، نشاط مستمر، مكان ينشأ من أحقية النقد ونقد النقد والاستماع.

البرلمان الذي أبحث عنه ليس مجرد مبنى، هو فضاء، شرعيته تُستمد من النشاط الذي يحتضنه، من الناس الذين يشغلونه، لا من هيمنة ورمزية الشكل الذي يرتديه.

في العمارة، ندّعي أن تصميم البرلمانات يمكنه تشكيل علاقة الشعب بالسياسة. نبني قباباً تشير إلى الانفتاح، وجدراناً زجاجية توحي بالشفافية، لكن هذه التصاميم، في معظم الأحيان، تخدم السلطة أكثر مما تخدم الناس

ما بين "الروضة"، "مزبوطة" وجدار "الشعلان" وغيرها، تتشكل البرلمانات البديلة كحالة حيوية نابضة في دمشق. المدينة ليست بحاجة إلى برلمان واحد يشير إلى السلطة، بل لمساحات متعدّدة، تحدّدها أفعال سكانها، وتعطيهم حق التواجد والنقاش. هذه البرلمانات البديلة تعكس مدينة تتغير، تستعيد ذاتها من قبضة القمع، وتُعيد صياغة علاقتها بسكانها، وهنا تتسع الفكرة: دمشق اليوم ليست مجرد مكان، بل مدينة تتحدى الحدود المرسومة، وتخلق حدوداً جديدة بأيدي ناسها.

الآن نحن من يجب أن يصنع الحدود ويهدمها. ونرفض السؤال عنها. نحن من يعيد تعريف الفضاء. فالحرية لا تُمنح، بل تُخلق. لا نحتاج إلى بناء برلمان، بل إلى بناء إرادة حرة، قادرة على خلقه أينما شاءت.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image