شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
نساء افتتنّ بحياة الرهبنة فارتدين ملابس الرجال من أجلها

نساء افتتنّ بحياة الرهبنة فارتدين ملابس الرجال من أجلها

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والنساء نحن والخطاب الديني

الأربعاء 12 فبراير 202512:41 م

تمركزت حياة النسّاك أو الرهبان حول العمل الشاقّ والصوم والصلاة. وبجانب العزلة، خُصِّص لكلّ راهب صومعة للصلاة والصمت، فيها يقضون معظم أوقاتهم، ودائماً ما يكون للرُهبان أو النُساك قائد أو أبٌ يجتمعون معه مرّتين في الأسبوع للصلاة وتناول الطعام. لم يخرج الرهبان الزاهدون إلى الصحراء لمجرد العزلة والانفصال عن العالم، إنما لأغراض أعلى مثل التأمّل الإلهي، ومحاربة الشياطين في منزلهم (أي الصحراء).

رائد حياة الرهبنة في المسيحية، هو الأب أنطوني أو أنطونيوس، أول راهب قبطيّ مصريّ. عاش حياة الرهبنة في صحراء وادي النطرون، فهيّأ لمن يأتون من بعده نموذجاً مثالياً للعزلة والرهبنة. وبطبيعة الحال، اقتصرت في بداية الأمر الرهبنة على الرهبان الذكور. برغم ذلك، زخر الأدب القبطي والمسيحي بروايات عن راهبات نساء، كما أوضح البروفسور ويليم هارمليس، وهو باحث في اللاهوت المسيحي في جامعة كريتون في الولايات المتحدة، في كتابه "Desert Christians: An Introduction to the Literature of Early Monasticism".

يُسجّل الأدب المسيحي والقبطي روايات أو أساطير كما سُمّيت، من حكايات الراهبات في مصر والقدس، فنجد أساطير عدة عن نساء ارتدين ملابس رجال ليصبحن راهبات. والجدير بالذكر أنّ معنى كلمة "أسطورة" كما جاء في معجم الوسيط للّغة العربية: "أحداث تاريخية كما تخيّلتها الذاكرة الشعبية، أو كما يراها الخيال الشعبي، أو هي قصة وحكاية يمتزج فيها الخيال بالتقاليد الشعبية أو الواقع". فلكل أسطورة أصل حقيقي، امتزج فيه الخيال. 

أسطورة هيلاريا

هي واحدة من أكثر الأساطير شعبيةً في سِيَر القدسيات القبطية، وهي موجودة في النسخ القبطية والسريانية والعربية، وتُعدّ من أقدم الأساطير القديمة إذ تعود إلى عام 500 م، على الرغم من أنّ القصة نفسها تدور في القرن الخامس الميلادي.

تجدر الإشارة إلى أماكن عدة اشتهرت بالرهبنة المسيحية في صحراء وادي النطرون، حيث يُطلقَ على كل تجمّع من الرهبان في تلك الصحراء اسم "خليّة"، فهناك خليّة كيليا، ونيتريا، وغيرهما، كما أوضح البروفسور ويليم هارمليس، في كتابه سابق الذكر.

تمركزت حياة النسّاك أو الرهبان حول العمل الشاقّ والصوم والصلاة. وبجانب العزلة، خُصِّص لكلّ راهب صومعة للصلاة والصمت، فيها يقضون معظم أوقاتهم، ودائماً ما يكون للرُهبان أو النُساك قائد أو أبٌ يجتمعون معه مرّتين في الأسبوع للصلاة وتناول الطعام

يعرض جيمس دريشر، وهو باحث في معهد الآثار الشرقية في القاهرة، في كتابه "Three Coptic legends. Hilaria Archellites - The seven sleepers"، أنّ هيلاريا، حسب الرواية القبطية، هي ابنة الإمبراطور زينو، إمبراطور رومانيا الشرقية (القسطنطينية)، الذي دام حكمه بين عامي 474-491م. وتكمل الرواية بأنّ هيلاريا افتُتنت بحياة الرهبنة، فتنكّرت وهربت من القصر في القسطنطينية إلى الإسكندرية في مصر، وهناك التقت بالشمّاس ثيودور، الذي ساعدها ظنّاً منه أنّها فارس، وأرشدها للوصول إلى وادي النطرون، وهناك قابلت القديس بامبو (مؤسس جماعة النتريا، وهي جماعة من النسّاك الأقباط). وعندما أخبرته يأنها تريد أن تصبح راهبةً، وبما أنّها نشأت في حياة مريحة، نصحها بالذهاب إلى الراهب أنطون، في مقرّ آخر للنُساك الأقباط، فبه الحياة أقلّ خشونةً وصعوبةً، لكنها أصرّت على موقفها قائلةً: "يا أبتي لقد جئت إليكَ من كل قلبي، وإن أبعدتني (طردتني)، فسوف تحاسَب أمام الربّ على روحي". انبهر بامبو، بقولها ومنحها صومعةً قريبةً منه، وحدث ذلك كله وهو لا يعلم أنّها امرأة!

تعلمت هيلاريا المصرية، وعملت جاهدةً في الدير، وفي ذلك الوقت كانت عائلتها لا تعلم أين هي. بعد ثلاث سنوات، كشف الربّ للأب بامبو، أنّ هيلاريا امرأة، ولكن لم يكن يعلم أنها ابنة إمبراطور، فتحدث إليها وحثّها على عدم البوح بكونها امرأةً.

تُكمل الرواية، بأنّ هيلاريا عُرفت باسم "هيليرون الخصي"، وذلك لأنّ جسدها ليس كجسد الرجل، وملامحها الأنثوية بهتت بعد أن انكمش جسدها بسبب حياة الزهد التي تحياها، ولأنّها بلا لحية أيضاً. بعد أن مرّت تسع سنوات على حياة هيلاريا، في وادي النطرون، أُصيبت أختها الصغرى في قصر الإمبراطور بمرض لم ينجح أحد في أديرة بيزنطة في أن يعالجه، فتقرّر أن تُرسَل إلى رُهبان وادي النطرون، مع خادمتين وخادمَين. وصلوا إلى الإسكندرية، وتمّ إرشادهم إلى دير الأب "بامبو". وبعد أن قرأ الأب خطاب الإمبراطور، طلب من الرهبان الدعاء للفتاة.

تعرفت هيلاريا، إلى أختها في الحال، وأخذتها إلى صومعتها، وتولّت الاهتمام بها، وكانت كل يوم تُقبّلها وتنام بجوارها. بعد سبعة أيام، تحسّنت أختها وعادت إلى الإمبراطورية، وهناك أخبرت الابنة بأنّ الراهب الذي مكث بجوارها حتى تشافت، كان يقبّلها ويشاركها الفراش نفسه، فكتب الإمبراطور خطاباً للدير يطلب فيه رؤية ذلك الراهب، واستضافته في قصره. وبالفعل سافرت هيلاريا إلى بلاط الإمبراطور، وهناك سألها: هل قبّلتَ ابنتي! وشاركتها الفراش عينه؟ فقالت: سأخبرك، ولكن عدني بأنّ ما سأقوله سيظلّ سرّاً بيننا، وستدعني أعود إلى الدير مرةً أخرى، وبالفعل أتى بالأناجيل وأقسم عليها، فأخبرته بأنّها ابنته هيلاريا، وقد أصبحت راهبةً. سعد برؤيتها، ومكثت معهم ثلاثة أشهر، ثم عادت مرةً أخرى إلى الدير، حيث عاشت بعد ذلك اثنَي عشر عاماً، ودُفنت هناك بعد موتها. حينها، صرّح الأنبا بامبو بهوية هيلاريا الحقيقية لبقية الرُهبان في الدير، وجميعهم تعجّبوا من حياتها، ومدحوها هي والربّ.

مريم القدّيسة

هي من أشهر قديسات الكنيسة الأرثوذكسية. يسرد لنا الأدب القبطي واليوناني واللاتيني والسرياني، وكذلك الأدب الفرنسي والأثيوبي والعربي، حكاية القديسة "مريم"، وأوضحت لنا البروفيسورة "جيوتا هوراني"، وهي باحثة في اللاهوت الكاثوليكي في جامعة طوكيو في اليابان، في بحث لها بعنوان "the vita of saint marina in the maronite tradition"، أنّ "مريم" وُلدت في لبنان خلال القرن الخامس الميلادي، وأغلب الظنّ أنّ قصتها وُثّقت في القرن الخامس الميلادي أيضاً، بينما يذهب الباحث "ريتشارد مارسيل"، إلى أنها كُتبت بعد ذلك الوقت، في القرن السادس أو السابع الميلادي. تروي لنا الحكاية أنّ "مريم" وُلدت في عائلة غنية ثرية، وتوفيت والدتها وهي فتاة صغيرة، تاركةً وراءها مريم ووالدها أوجينيوس، الذي رعاها وتولّى تربيتها وحده، وقرر أنّه عندما يحين الوقت ستتزوج، ويذهب هو إلى الدير ليحيا حياة النُسّاك.

سألت مريم والدَها: لماذا تريد أن تنقذ روحك وتدمّر روحي؟ فسألها متعجباً: ماذا أفعل، فأنتِ امرأة؟

وعلى هذا، اقترحت مريم، أن تتنكر في هيئة رجل، فحلقت شعرها وارتدت ملابس رجال. انبهر والدها بإصرارها وبروحها، لهذا تبرّع بمعظم ممتلكاته، وذهبا معاً إلى وادي قاديشا (الوادي المقدس، حسب منظمة اليونسكو، وهو واحد من أهم الأماكن المخصصة في المسيحية المبكرة للرهبنة، تحيط به أشجار الأرز اللبنانية من كل جانب).

تشاركا الصومعة ذاتها، ولم يعلم أحد أنّ الراهب مارينوس امرأة. بعد عشرة أعوام، توفي أوجينيوس، وظلت مريم وحيدةً، وتزامن هذا مع زيادتها في الصوم والصلاة، وزادت من حياة الزهد. صوتها الرقيق الناعم جعل الرهبان يظنون أنّه ربما بسبب حياة الزهد الشديد المرهقة التي تحياها!

تتصاعد أحداث الحكاية في الأدب القبطي، ففي مرحلة ما من حياة مريم، تم إرسالها مع رهبان آخرين لينجزوا بعض الأعمال نيابةً عن الدير، ومكثوا في نزلٍ ليلةً واحدةً، وفي تلك الليلة وصل جنود الملك إلى النزل نفسه، وهنا حدث شيء لم يحسب أحد له حساباً.

اقتصرت في بداية الأمر الرهبنة على الرهبان الذكور. برغم ذلك، زخر الأدب القبطي والمسيحي بروايات عن راهبات نساء.

قام أحد الجنود بإغواء ابنه صاحب النزل، وقضيا ليلةً معاً. حينها، أخبرها الجندي بأنها ستصبح حاملاً! لذلك عليها أن تقول إنّ الراهب ماريانوس، أي مريم، هو مَن قضى معها الليلة. بالفعل، حملت الفتاة، وعندما اكتشف والدها الأمر، أخبرته بأنّ من فعل ذلك هو الراهب مارينوس، فاستشاط غضباً، وسافر إلى الدير. وهناك صرخ برئيس الدير وسبّه وأهانه.

تمكّن رئيس الدير من أن يُهدئ من غضبه ليتحدث إليه، فأخبره بما حدث مع ابنته. نادى رئيس الدير مريم، ووبّخها على خطاياها، فبكت مريم وسقطت على ركبتيها أمام رئيس الدير، وطلبت منه المغفرة على خطاياها! ولكنه طردها نهائياً من الدير.

عاشت مريم خارجَ الدير لفترة طويلة، وعندما وضعت ابنة صاحب النزل الطفل، أخذته مريم لتربّيه، وكل ذلك مع زيادة الصيام والصلاة. وبعد ثلاث سنوات، عادت مريم إلى الدير بعد توسلات الرُهبان الآخرين لرئيس الدير وشفقتهم عليها. برغم تلك الشفقة، تروي لنا الحكاية أنّ حياتها في الدير أصبحت أكثر قسوةً، فبالإضافة إلى واجباتها الرهبانية المنتظمة، كان عليها أيضاً التنظيف والطهي وإحضار الماء، بالإضافة إلى تربية الطفل حتى يصبح راهباً. 

بعد أربعين عاماً كاملةً، مرضت مريم، ثم توفيت، فأمر رئيس الدير باستبدال ملابسها القديمة بأخرى جديدة. وبينما كانوا يبدّلون ملابسها اكتشف الرُهبان أنها امرأة! فأسرعوا إلى رئيس الدير الذي ذهب مسرعاً إليها، وجثا على ركبتيه أمامها، وبكى على جثمانها. بعد ذلك، كان لا بدّ من إخبار صاحب النزل بأنّ الراهب الذي اتّهمه كان امرأةً! جاء هو أيضاً إليها، وبكى وتبارك بها.

تقول الحكاية إنّ أحد الرُهبان كان فاقد البصر، وعندما تبارك بجثمانها استعاد بصره، وبعد دفنها، عذّب الشيطان صاحب النزل وابنته والجندي بإرادة الرب، وذهبوا جميعاً إلى مكان دفن القديسة مريم (مارينا الآن)، ليعترفوا أمام الجميع بالذنوب التي ارتكبوها في حقّها.

فسّر العديد من الباحثين، وفقاً للباحثة مادلين تيرنكيفيست، وهي باحثة متخصصة في سِيَر القديسات في الأدب القبطي والمسيحي في جامعة أوبسولا في السويد، في بحثها "Woman Monks of Coptic and Christian Hagiography"، عدم إفصاحها عن الخطيئة التي اتُّهمت بها، بأنه نوع من أنواع التواضع، التواضع الذي تميّز به الرهبان والزاهدون، فتحمّلت وزر ذنبٍ لم ترتكبه!

الراهبة أناستاسيا

اختلفت تلك الحكاية عن بقية حكايات الراهبات بقِصَرِها، وعدم وجود تفاصيل كما في حكايات الأخريات. وُجدت أسطورة أناستاسيا، في كتاب السنكسار القبطي، الذي تم تدوينه بين 482 و580 م (وهو كتاب يَروي قصص وحكايات القدّيسين باختصار، والأعياد والصوم، مُرتّبة فيه حسب التقويم القبطي، وعادةً ما يُقرأ بعد قراءة إنجيل أعمال الرُسل في القُدّاس الإلهي)، وحسب ما أوضحت الباحثة مادلين تيرنكيفيست، في بحثها سابق الذكر، تروي الحكاية أنّ أناستاسيا الجميلة وعالية الأخلاق، وُلدت في عائلة ثرية ونبيلة في القسطنطينية.

تميّز الأدب اليوناني بتقديسه للجسد الذكري باعتباره جسداً مثالياً، أما الجسد الأنثوي، فهو شيء غير إنساني، أو على الأقل جسد غير ناضج.

وعندما أراد الإمبراطور جوستينيان، الزواج بها، وهو متزوج بالفعل، ذهبت إلى زوجته وأخبرتها، فأرسلتها زوجة الإمبراطور إلى خارج البلاد، إلى الإسكندرية. عَلِم الإمبراطور بالأمر، فأرسل حملةً لاسترجعها، ولكنه لم ينجح، بينما نجحت أناستاسيا في الهروب إلى الصحراء إلى وادي النطرون كأميرة، وهناك التقت بالأب دانيال، وأخبرته بقصّتها، فأخذها الأخير إلى كهف (صومعة للتعبّد)، وأمر أحد الرهبان الكِبار بأن يملأ جرّة ماء كل أسبوع ويضعها أمام باب صومعتها، وأقامت هناك لمدة 28 عاماً دون أن يعرف أحد أنها امرأة. كانت تكتب رسائل إلى الأب دانيال على الفخّار ليأخذها أحد الرهبان الذين يحضرون الماء لها، وفي أحد الأيام تلقّى الأب رسالةً مكتوباً فيها أنّ أناستاسيا قد حان وقتها. غادر الأب مع أحد تلاميذه، وودعتهم الوداع الأخير ثم صلّت وغادرت الحياة بسلام، وأخذوا منها البركة.

بكى الأب وتلميذه، وبدآ بعملية الدفن، وعندما حمل التلميذ جسدها علم أنّها امرأة، لكنه لم يقُل شيئاً، بل تعجّب بهدوء، وبعد الدفن عندما عادا معاً إلى الدير، ركع التلميذ أمام الأب دانيال، وطلب أن يروي له قصتها، فشرح له كيف عرفها، وكيف تخلّت عن ثروتها من أجل يسوع المسيح. وبطبيعة الحال هدفت الحكاية إلى التخلّي عن ملذات الحياة كافة، ووهب الحياة كاملةً للرب.

بيلاجيا التائبة

تعود حكاية بيلاجيا، إلى القرن الرابع الميلادي، وكُتبت على يد المسيحيين اللاتينيين، وظهرت داخل "السنكسار" القبطي وخارجه. ووفقاً للأسطورة، وُلدت بيلاجيا في أنطاكية (التي تقع حالياً في تركيا)، لوالدين وثنيَين، وعُرفت باسم بيلاجيا التائبة، لأنها عاشت كبنت هوى وراقصة، كما يذكر الراهب واللاهوتي اللاتيني جاكوبس دي فوراجين، في كتابه "The Golden Legend) Legenda aurea)، في القرن الثالث عشر الميلادي، ووصفها الأب جاكوبس، بأنّها ثرية بسبب مهنتها. ويكمل حكايتها الفريدة قائلاً إنها في أحد الأيام مرّت بكنيسة، وعندما لاحظها الأسقف "نونوس"، ورأى فيها عظمةً روحيةً، قرّر أن يصلّي من أجلها ذلك المساء، وفي اليوم التالي ذهبت لتستمع إلى الأسقف وهو يعظ عن يوم القيامة، وبعد ذلك طلبت منه أن تَتَعَمّد، ورآها صادقةً فوافق على تعميدها.

في تلك الليلة، أغراها الشيطان بالعودة إلى حياتها السابقة من الخطايا، ولكنها بدأت بالصلاة ونجحت في إبعاد الشيطان عنها، وقررت أن تتبرع بكل ممتلكاتها للفقراء، ثم غادرت أنطاكية مرتديةً زيّ رجل، وقضت بقية حياتها في القُدس في فلسطين، وعُرفت باسم آخر: "الراهب بلا لحية بيلاجوس".

في السنسكار القبطي، أو النسخة القبطية من تلك الحكاية، لـبيلاجيا والدان وثنيان، وعاشت حياةً غير أخلاقية، وتحولت إلى المسيحية على يد الأسقف بولس، ثم ارتدت ملابس رجاليةً وسافرت إلى القدس حيث التقت بالأسقف ألكسندر، الذي تم إثبات وجوده بالفعل في تلك الحقبة الزمنية. ثم أرسلها الأخير إلى دير للرهبنة، يرجّح أنه دير وادي النطرون في مصر الفيوم، لأنّ الرواية تربط صلتها بالأب دانيال بالفيوم، كما أوضح الراهب الإنجيلي ديرواس جيمس تشيتي، الذي تخصص في تدوين سِيَر القديسين (1901-1971)، في كتابه "The Desert a City: An Introduction to the Study of Egyptian and Palestian Monasticism Under the Christian Empire"، بينما هدفت تلك الحكاية إلى ضرورة مقاومة إغراء الشيطان، وهو الهدف الأسمى في المسيحية.

التحوّل الجندري للراهبات

لم يُرِد كُتّاب تلك الأساطير أن يُروّجوا للرهبنة أو الزُهد، فلو كان هذا صحيحاً لما كانوا قد كتبوا عن النساء، كما أنّ معظم الحكايات السابقة تُظهر مدى تردد الشيوخ الرهبان إزاء انضمام أعضاء صغار جُدد إليهم. ظهر في كتاب "أقوال آباء البرية"؛ على سبيل المثال، ما قاله الأب بامبو لهيلاريا، بأن تذهب إلى دير آخر عند الأب أنطون، وشدد على أنّ الحياة هناك أسهل من الحياة هنا، خاصةً لمن تربّى في حياة الرخاء والثراء.

توضح الباحثة مادلين تيرنكيفيست أنّ تلك الحكايات لا تسرد الكثير عن الحياة في الأديرة، بل تمحورت حول الحالات الشخصية للنساء أنفسهنّ، والواضح أنّ الحكايات القبطية تركّز على تيمة محددة هي "التحوّل". للوهلة الأولى، يبدو أنّ النساء هؤلاء تحوّلن إلى رجالٍ بالفعل، ولكن هذا لم يحدث. هُنَّ فقط شُبّهن بـ"الخصيان"، الذين يُعرَفون باسم "الجيش الثالث" في الأدب البيزنطي.

لم يُرِد كُتّاب الأساطير أن يُروّجوا للرهبنة أو الزُهد، فلو كان هذا صحيحاً لما كانوا قد كتبوا عن النساء، كما أنّ معظم الحكايات تُظهر مدى تردد الشيوخ الرهبان إزاء انضمام أعضاء صغار جُدد إليهم

إلى ذلك، تميّز الأدب اليوناني بتقديسه للجسد الذكري باعتباره جسداً مثالياً، أما الجسد الأنثوي، فهو شيء غير إنساني، أو على الأقل جسد غير ناضج. زيادةً على ذلك، تميّز الذكر بأنّه عنصر نشيط، بينما الأنثى عنصر سلبي، فنجد على سبيل المثال في مسرحية "يومينيدس"، لإسخيليوس، أنّ الإله أبولو لا يعتبر الأمّ "والدةً حقيقيةً"، بل هي مجرد حقل تنمو فيه بذرة الأب. بينما افترض بعض الباحثين في حالات الراهبات، أنّهن بلا جنس أو تصنيف جندري، فهنّ لم يصبحوا رجالاً من الناحية البيولوجية. وفرضت البروفسورة "أبسون سايا"، أستاذة الأديان في جامعة أوكسيدنتال في الولايات المتحدة، في بحث لها بعنوان "Gender and Narrative Performance in Early Christian Cross-Dressing Saints' Lives"، أنّهُنَّ لم يصبحن رجالاً بسبب أصواتهنّ الناعمة ووجوههنّ الخالية من اللحى (الذقون)، فوحدهم الرجال الحقيقيون هم من يستطيعون أن يحققوا ذلك، ولكن بما أنّ الملامح الأنثوية ذبلت عندهنَّ، فيبدو الأمر وكأننا نتعامل مع المؤلفين الذين يحاولون نشر المُثل العليا للمرأة القبطية، وربما حاولوا أن يكونوا شيئاً أقرب إلى الكمال، شيئاً لا هو ذكر ولا هو أنثى، ليتقرّبوا إلى الربّ.

وقد مررن بالعديد من التغيّرات الجسدية، ففي ترجمة "دريشر"، لحكاية هيلاريا، وصف الكاتب ثديَيها كالتالي: "بالنسبة لثدييها أيضاً، لم يكونا مثل أثداء جميع النساء"، والمهم هنا أنهنَّ لم يخضعن للعنة النساء. لأنّ الرب قدّر لهنَّ شيئاً معيّناً". والمقصود هنا بـ"لعنة النساء"، فترة الحيض الشهرية؛ ففي حكاية هيلاريا، تلك الفترة انقطعت تماماً عنها، وهنا يبرز الكاتب أنّ حياة أولئك النساء لم تتغير من الناحية الروحية والاجتماعية فحسب، بل أيضاً من الناحية الجسدية (الجسد المادي). ولكن الباحثة مادلين تيرنكيفيست، ترى أنّ معنى التغيير المذكور لا يتنافى مع وجود جندر لهنَّ، فأولئك الراهبات سعين إلى حياة العزوبية، وهو ما يقودنا إلى الدافع الثاني لتلك القصص.

أوضحت الباحثة ومؤرخة الأديان النرويجية كاري فوجدت، في بحثها "The "Woman Monk": A theme in Byzantine hagiography"، أنّ الخطيئة الجنسية حدث متكرر في حكايات الراهبات، فلا يمكن القضاء على أنوثتهنّ، إذ ما زال السحر الأنثوي يسبب لهنَّ بعض الاتهامات الجنسية! ولم ينجحن في الوصول إلى الرجولة الكاملة، ما جعل البطل الأنثوي، مُجدياً أكثر على عكس البطل الرجل، لأنّ الرجال لم يكونوا مقيّدين اجتماعياً أو دينياً مثل النساء، ولا يمكن التغافل عن التفاني الذي أظهرته أولئك النساء فهو تفانٍ مُبهر للغاية، برغم كونهنَّ نساءً! ففي حكايات "هيلاريا" و"مريم" و"أناستاسيا"، اختارت البطلات هذه الحياة الشاقّة لسببيين؛ أولاً لأنهنّ أردن تكريس حياتهنّ للرب، فكانت الطريقة المثالية للقيام بذلك من خلال نمط حياة نسكي لم يكن متاحاً إلا للرجال فقط، فاضطررن إلى ارتداء ملابس الرجال أولاً، ما أدى إلى تحوّلهنّ الظاهري، ثانياً أردن التقرّب من الرب، وهذا هو المعنى الحقيقي الملموس للتحول في تلك القصص.

فبعد تركهنّ حياة الرخاء والثراء، تحوّلن إلى حياة الزهد والتقشف الخالية من أي إغراء حسّي أو جنسي، والسبب وراء خوضهنّ تجربة إخفاء الهوية والذهاب إلى الصحراء هو السبب ذاته الذي حرّك الرهبان الذكور نحو العزلة في الصحراء؛ وهو الذهاب إلى موطن الشياطين والانفصال عن العالم، فمن شأن تلك التجربة أن تضعهنّ في أعلى مستوى من التفاني الإلهي، ويتحداهنّ على المستوى الروحي والعقلي والجسدي كل ذلك حتى يتمكنن من التخلي عن حياتهنّ من أجل المسيح والرب.

وتكمل الباحثة، أنّ قيمة تلك الحكايات في الأدب القبطي والمسيحي، التحوّل، لذا حاول المؤلفون نقل رسالة ثقيلة ذات قيمة مسيحية خالصة، من خلال التحوّل إلى شيء ليس بذكر ولا أنثى، فلم يؤثر تغيّرهن الروحي عليهنّ كبشر فحسب، بل تغيرت أجسادهنّ وأصبحن على صورة الرب، حسب اعتقاد الكُتّاب، وحقّقن الكمال الجسدي والروحي.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard
Popup Image