يستمرّ التأثير النفسي لبعض الأفلام الوثائقية لمدة طويلة، خاصةً الأفلام التي تدور حول معاناة شعب في منطقة جغرافية قريبة جداً من المشاهد، في الوقت الذي تحظى فيه بقية المناطق بحياة طبيعية إلى حدّ ما.
من هذا المنطلق، يبدو فيلم عبد الله الخطيب، "فلسطين الصغرى... يوميات الحصار"، الذي أعاد عرضه قبل أيام، المعهد الفلسطيني للأفلام على منصته، واحداً من الأفلام المؤثرة والموجعة، خاصةً بالنسبة لنا، نحن السوريين الذين نعيش على بعد مسافات قليلة جداً من مكان أحداث الفيلم؛ المكان الذي وثّق وسجّل وشهد على معاناة مجموعة كبيرة من الفلسطينيين المحاصرين في مخيم اليَرموك.
ولكن قبل الحديث عن الفيلم الذي أعيد ثانيةً إلى الواجهة، نظراً للظروف المتسارعة التي مرّت بها المنطقة، يجدر بنا المرور على تفاصيل تتعلق بفلسطينيي سوريا وتاريخ تأسيس مخيم اليرموك، المكان الذي ستجري فيه أحداث الفيلم.

تبدأ قصة فلسطينيي سوريا منذ العام 1948، حين نزح فلسطينيون باتجاه سوريا تاركين خلفهم أراضيهم ورزقهم وقراهم، خوفاً من بطش الاحتلال، وعاشوا جنباً إلى جنب مع السوريين الذين احتضنوهم ورحّبوا بهم. يؤكد على ذلك الودّ والاحتضان كما ورد على لسان إحدى شخصيات الفيلم. وبدءاً من العام 1957، وربما نتيجة اليأس من العودة إلى الوطن، بدأ تأسيس عدد من المخيمات للفلسطينيين، منها الرسمية ومنها غير الرسمية، ويأتي في مقدمتها، وربما يكون أهمّها، مخيم اليرموك، الذي يبعد مسافة سبعة كيلومترات فقط عن مركز العاصمة دمشق.
يبدو مخيم اليرموك في الفيلم، ليس فقط "فلسطين الصغرى"، بل صورة طبق الأصل عن غزّة التي عانت لعامين من أوضاع مشابهه خلّفها العدوان الإسرائيلي عليهم
كان المخيم قد تأسس من دون أي دعم حكومي يُذكر، وشهدت الحياة فيه في البداية صعوبةً كبيرةً للغاية، ولكن منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي وبداية الثمانينيات، بدأ المخيم بالتطور بسبب الفلسطينيين أنفسهم، الذين أسسوا شركات ومصانع وفتحوا محالّ لبيع الذهب والألبسة والمواد الاستهلاكية. بطبيعة الحال كان لمنظمة الأونروا (وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين)، دورها في بناء المدارس والمستشفيات والعيادات الصحية، التي لم يستفد منها الفلسطينيون فحسب، وإنما أيضاً السوريون النازحون من الجولان وغيرهم.
أُطلقت على المخيم حينها تسميات عدة منها "مخيم الأشباح"، "عاصمة الشتات الفلسطيني"، و"غزّة الصغيرة"، إلى أنّ أصبح المخيم مكاناً تجارياً يختاره الدمشقيون أنفسهم للتسوّق منه بأفضل الأسعار، وشراء أجود السلع.
عاش الفلسطينيون جنباً إلى جنب مع السوريين، وهناك جيل كامل منهم لا يعرف فلسطين إلا من الصور أو القصص التي رواها ذووهم عنها، إلى أن بدأت الدراما تهتم بشتاتهم فتقدّم أعمالاً دراميةً عنهم، مثل "التغريبة الفلسطينية". هم لا يعرفون قراهم ولا حتى تفاصيل حياة أجدادهم، إلى درجة شعر معها أغلبهم، خاصةً الشباب، بالانتماء إلى الشعب السوري الذي استقبلهم بقلبٍ كبير وتشارك معهم نكبتهم، وكانوا بدورهم يردّون الجميل له كلما سنحت لهم الفرصة، وكانوا يلقون نصيبهم من ذلك، كما في العام 1983، بحجة مساندة بعضهم للإخوان المسلمين أو بسبب الصراع المسلح الذي نشب داخل المخيم بين فصائل فلسطينية مساندة لنظام الرئيس الأسبق حافظ الأسد، وأخرى كانت تدعم ياسر عرفات.

أو ما حصل معهم في أثناء الثورة السورية التي انطلقت شرارتها في العام 2011، والتي كان المخيم حاضناً لبعض القائمين بها، حيث بدأ سكان المخيم منذ العام 2012، يتعرضون للعقوبة الجماعية من خلال القصف بالبراميل المتفجرة، وصولاً إلى محاصرتهم لسنوات بجدار يفصلهم عن العالم، ويمنع عنهم دخول الطعام والشراب إلى أن انتشرت المجاعات والأمراض. ويقال إنّ بعض العائلات لم تكن فقط تأكل الأعشاب البرّية التي تلتقطها وتجمعها، بل كانوا يأكلون لحم الكلاب الضالّة جوعاً، ليس هذا فحسب بل إنّ القصف الذي طال المخيم لم يبقِ منه لا شارعاً أو حتى بناءً، إلى درجة بات فيها المخيم مكاناً غير مؤهل بالمطلق للحياة.
وفيلم "فلسطين الصغرى" الذي أخرجه عبد الله الخطيب، الفلسطيني الأصل والسوري الإقامة، يُعدّ وثيقةً للتاريخ سجّلت بشكل حيّ يوميات معاناة الفلسطينيين الذين بقوا في المخيم تحت ضغط حصار لاإنساني، وكان الخطيب قبل ذلك الحصار قد تخرّج في جامعة دمشق متخصصاً في علم الاجتماع، وعمل لسنوات كمنسّق للنشاطات والمتطوعين في الأمم المتحدة، وأنشأ مع مجموعة من أصدقائه جمعية الإغاثة الإنسانية "وتد"، وكانت تلك الجمعية تقوم بعشرات المشاريع في مختلف مناطق سوريا، خاصةً في مخيم "اليرموك"، وسبق له أن شارك في مشاريع كمصوّر. أما بالنسبة إلى فيلم "فلسطين الصغرى"، فلقد تناوب على تصويره بالشراكة مع أصدقائه الفلسطينيين الذين حوصروا في المخيم.
يهمّ عرض الفيلم بعد سقوط الأسد، حيث بات من المهم الحديث عن الأضرار النفسية والجسدية التي تسبب فيها ذلك النظام للفلسطينيين الذين تاجر باسمهم لسنوات، وحرَم شعبَه من أشياء كثيرة بحجة المقاومة والممانعة
ترافق كاميرا الخطيب، في جزء من العمل، والدته الطبيبة التي تذهب لمتابعة حالة مرضاها الذين أضناهم الجوع، كما أنه يرصد الحياة اليومية لسكان المخيم، فيقابل منهم الكهلة والشيوخ، والنساء، والشباب، ويرصد حالات الموت اليومي، ويتوقف طويلاً عند الأطفال الذي باتوا بلا حياة أو أمل، فهم بلا تعليم وبلا طعام، إلى درجة باتت أقصى أمنيات من بقوا في المخيم، وليس الأطفال فحسب، الحصول على الطعام. يقول أحد رجالات الفيلم: "لا نريد تحرير فلسطين. كل ما نريده أن نخرج من المخيم فقط"، في إشارة منه إلى أنّ حجّة تحرير فلسطين والعودة التي استخدمها النظام لسنوات لم تعد مهمةً حتى بالنسبة لهم كلاجئين فلسطينيين في ظلّ الظرف اللاإنساني الذي يعيشونه.
برغم ذلك، لم تلتقط كاميرا الخطيب، أيّ مظاهر للخوف لدى أيّ من سكان المخيم، بقدر ما أظهرت قوتهم وشجاعتهم وقدرتهم على التأقلم وسط ظرف قاهر، جعل الأطفال أكبر سنّاً من أترابهم، فهم يتحملون ليس فقط جوعهم وبردهم وعزلتهم، بل مسؤولية أهلهم أيضاً؛ فيبدو المخيم اليوم بالنسبة لنا، ليس فقط "فلسطين الصغرى" بل صورة طبق الأصل عن غزّة التي عانت لعامين من أوضاع مشابهه خلّفها العدوان الإسرائيلي عليهم، سواء على صعيد الحصار والتجويع، أو على صعيد القصف المتكرر الذي لم يرحم لا بشراً ولا حجراً، وينهي الخطيب فيلمه بعبارة قاسية تخدش الروح، فيكتب: "عندما يُخرج المستقبل لسانه بسخرية"، وهي عبارة استمدّها المخرج من كتابه الذي نُشر بعنوان "40 قاعدةً للحصار".

سبق للفيلم أن عُرض قبل سنوات في مهرجانات دولية عدة، منها مهرجان "كان" العريق، وحاز على جوائز عدة نذكر منها "التانيت الذهبي" للأفلام الوثائقية الطويلة في الدورة الـ32 لأيام قرطاج السينمائية، وجائزة TV5 Monde لأفضل عمل أوّل من بين 13 فيلماً، وسبق أن حاز الفيلم على جوائز كبرى في مسابقات عالمية على غرار مهرجان سان باولو السينمائي في أمريكا اللاتينية، ومهرجان مونبلييه في فرنسا، إلا أنه مؤخراً عاد إلى الواجهة لأسباب عدة، أهمها المعاناة التي عاشها الغزّيون والتي تذكّرنا بشكل مباشر بمعاناة إخوتهم الفلسطينيين في مخيم اليرموك، من حيث كونها جغرافيا ضيقةً جداً ومحاصرةً والضحية واحدة ولكن الجاني مختلف، وثانياً أهمية عرض الفيلم بعد سقوط الأسد، حيث بات من المهم الحديث عن الأضرار النفسية والجسدية التي تسبب فيها ذلك النظام للفلسطينيين الذين تاجر باسمهم لسنوات، وحرَم شعبَه من أشياء كثيرة بحجة المقاومة والممانعة.
الجدير ذكره، أنّ عبد الله الخطيب، أسوةً بالكثير من السوريين، كان قد غادر ووالدته سوريا قبل سنوات، واتجه إلى ألمانيا طالباً اللجوء ولولا ذلك لما استطاع الحصول على دعم لإنتاج فيلمه، وتالياً عرضه جماهيرياً في محتلف أرجاء العالم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 5 ساعاتاول مرة اعرف ان المحل اغلق كنت اعمل به فترة الدراسة في الاجازات الصيفية اعوام 2000 و 2003 و كانت...
Apple User -
منذ يومينl
Frances Putter -
منذ يومينyou insist on portraying Nasrallah as a shia leader for a shia community. He is well beyond this....
Batoul Zalzale -
منذ 3 أيامأسلوب الكتابة جميل جدا ❤️ تابعي!
أحمد ناظر -
منذ 4 أيامتماما هذا ما نريده من متحف لفيروز .. نريد متحفا يخبرنا عن لبنان من منظور ٱخر .. مقال جميل ❤️?
الواثق طه -
منذ 4 أيامغالبية ما ذكرت لا يستحق تسميته اصطلاحا بالحوار. هي محردة من هذه الصفة، وأقرب إلى التلقين الحزبي،...