شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
رأينا ما رأينا هناك، والآن فلنسمعْ…

رأينا ما رأينا هناك، والآن فلنسمعْ… "غزة: ساوند مان"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والحقيقة

السبت 11 يناير 202509:43 ص

في الفيلم الوثائقي "غزة: ساوند مان"، تتجلّى حكاية الأصوات التي يمكن للمرء أن يستمع إليها على هامش سيمفونية الموت اليومية التي يعيش على وقعها أهل القطاع منذ أزيد من عام وشهرين. لنقل إن ذلك يحدث منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023. هاهنا يتم تحييد تلك الإشارات البصرية لتفسح المجال للسُلَّم الصوتي، أو من أجل قياس (ليفل) الموت بمساراته الصوتية، المتعددة، والمركَّبة!

نسمع فيما يسمع النائم مهندسَ الصوت الثلاثيني الأسمر، ذا الوجه المتعب، المهدد بحزن لم يتم التعرف إليه قبلاً، وهو يقود رتلاً من المشاهدين غير المرئيين إلى جنَّة الأصوات الغزاوية. هناك أصوات نحب الاستماع إليها، وهناك أصوات لا نحب الاستماع إليها. أمام هذه النوعية من أهل الفرجة لا يعود متاحاً التقلّب على أحد الجانبين للفوز بإحدى المعجزتين. الأصوات في غزة لوحدها معجزة بغض النظر عن أحقية ما نحب وما لا نحب.

هناك أصوات نستمع إليها مجبرين. يقول مهندس الصوت محمد ياغي بطل الفيلم الذي يحمل البومَ ويتجوَّل وسط دمار غير مسبوق. الأصوات في غزة مختلفة، لاتشبه أي أصوات أخرى في أي أمكنة أخرى، وهي ليست مجرد أصوات نسجلها لأناس كانوا هنا، وربما لم يعودوا بيننا. يضيف ياغي الذي يتغضَّن وجهه في كل دقيقة إضافية من زمن الفيلم الذي أتى في 43 دقيقة، من إخراج حسام أبودان، وبرؤية إخراجية لعواد جمعة.

 يغرقنا محمد ياغي في فيلم "غزة: ساوند مان" بأصواته البسيطة التي يريد أن يجمعها لنا حتى لا تتلاشى، فتتلاشى معها ذاكرة الإنسان الأولى. كل إنسان يعيش على هذا الكوكب، ويحمل البوم الخاص به، وبوسعه من كوكبه الخاص أن يرفع "ليفل" نداء الموت حين يكون له وقعُ أقدام وشكلٌ ولونٌ ورائحة

إذاً، هي أصوات الذاكرة الأولى، ولما لم تتضح صورة الذاكرة الثانية الملتقطة من زمن الحرب، فإن محمد ياغي يقف عند حدود الأصوات الأولى التي كانت توقظه مبكراً في الحي الذي يعيش فيه: صوت أحمد، بائع الكعك مثلاً، أصوات الباعة وهم ينادون على بضائعهم، أصوات الأطفال وهم ذاهبون إلى مدارسهم، زقزقة العصافير، صوت البحر. وهناك بالطبع المعادل الصوتي الذي ينسحب على شريط الصوت نفسه تلقائياً: شادر الخيمة الذي تحركه الرياح كما لو أنه فستان أنثى في سهرة سوريالية فاقعة، دولة القهوة وهي تنسكب في فنجان، الطائرة الزنانة التي تأبى مفارقة هذا الشريط، وكأنها أصبحت "تراك" يطبع كل أعمال محمد ياغي ويميزها عن سواها، فيما لو أراد التخلص من سطوتها يوماً ما، ليعيد تسجيل أعماله الصوتية الكاملة. لن يمكن التخلص من هذه الزنانة إلا بالتحرر النهائي من الاحتلال نفسه والعودة إلى سماء خالية منها بالكامل.

لكن ما الذي حدث في المساحة المخصصة لهذه الأصوات التي يتحدث عنها محمد ياغي بشاعرية قلقة، وبنبرة صافية ملفتة؟! إنها الحرب التي أعدمت كل هذه الأصوات، ومن يقل غير هذا، فإنه أعمى وأصم درجة أولى. هل يمكن للحرب أن تخلق بشراً متساوين في النظر والاستماع إلى نفس الأصوات، ومن نفس المصادر؟! لا يبدو السؤال في محله، فالتدقيق بكل صوت على حدة يتطلَّب ثقافةً خاصة بكل فرد، ولا يمكن الإحالة الجماعية إليها، ولكن في حالة أصوات الموت والحياة في غزة كما نتتبعها في الفيلم، فإن حواسَّ خاصةً تتشكل أيضاً في ظل أبشع حرب تُدار في العصر الحديث من فوق، من أعلى سموات رقمية، وحدها يمكنها تضليل كل هؤلاء البشر غير المرئيين الذين يحتلون المقاعد الأولى، في دار عرض مدمرة لم تعد داراً لأحد. وربما يشكل الفيلم الذي أعيد تجميعه صوتياً على خامة بصرية متقدة بذكاء وحرفة عاليتين، إضافة وثائقية مهمة إلى علب الصوت الخام التي يبحث عنها مهندسو الصوت يومياً من أجل أرشفتها والعودة إليها في كل حين. 

ملصق فيلم "غزة: ساوند مان"

لا يفترق محمد ياغي عن البوم الذي يتجوَّل به في قطاع غزة بحثاً عن أصوات جديدة لم يسبق له أن استمع إليها، أو قام بتسجيلها من قبل. هاهنا يتحوَّل الْبومُ بريشه المنفوش إلى أداةِ وصلٍ مع أصوات بائدة: أول صوت قام بتسجيله كان صوت ولادة طفل. كيف يمكن لكتلة لحمية غير واضحةِ المعالم أن تطلق صرخة أولى لحظة ارتطامها بهواء العالم الجديد. نوع الصرخة سوف يحدد ماهية وهوية هذا العالم. هل هو عالم دنس يقبل عليه المرء مرغماً؟ أم إنه خيار تطوعي بهدف إنقاذ هذا العالم من قذاراته. يمكن قياس مستوى الصوت (الليفل) كما يُشاع عنه بين مهندسي الصوت الأنقياء، واكتشاف هوية هذا العالم. ربما تشكّل هذه الصرخة في عرف محمد ياغي صورةً مختلفة عن عالم لا يريد أن يتطهَّر أبداً من دنسه.

"غزة: ساوند مان" ينتصر على أنانيات هذا العالم وأوهامه الكبرى والصغرى، وكل مآثره المزيفة بالتحضر!

هل حقاً تسجيل أصوات عملية ولادة هو صوت الحياة فعلاً، أم إن هناك وهماً من الأوهام التي يقضي المرء عمره وهو يحاول أن يصطادها، فيغدو مع التقدم بالعمر، كمن يتصيَّد في الماء العكر أقوالاً مأثورة ليس لها وزن أو قيمة، وإن هذه الحياة التي تُمنح بكل هذا القهر لأصحابها ليست حياة في الواقع، وإنما مجرد عودة رمزية لا وزن لها من موت مؤجل؟!

بالنظر إلى معاناة محمد ياغي نفسه مع الأصوات التي يقوم بتسجيلها يمكن القول إن من يشاهد فيلم "غزة: ساوند مان" يشعر بالأسى الثقيل لأنه لم يتم ترشيحه مثلاً لجائزة كبرى، فبالرغم من بساطة الحكاية، إلا أن هذه الأصوات (الغزّية) تصبح سفينة فضاء لأصوات مغرقة في القدم، سبحت في الكون كاهتزازات فيزيائية، ويُعاد تجميعها بالبوم لتكون شاهدة على قيامة ما. فما يحدث في غزة على مرأى من هذا العالم وتخاذله، لا يمكن أن يشكل قرينة من قرائن العصر الحديث الذي لا يعترف شكلياً بأي نوع من أنواع الإبادات الجماعية، وإنما ينسبها إلى محطات سابقة من تاريخ تطوره. لكن هذه الأصوات التي تتفاخر بيننا بأنها يُعاد إنتاجها لتشكل شهادة سمعية عن أول إبادة جماعية يجري بثها مباشرة على السوشال ميديا، وكأنها تحفة من تحف هذا الزمان، كما لم يحدث من قبل في التاريخ الإنساني.

في الفيلم الوثائقي "غزة: ساوند مان"، تتجلّى حكاية الأصوات التي يمكن للمرء أن يستمع إليها على هامش سيمفونية الموت اليومية التي يعيش على وقعها أهل القطاع منذ أزيد من عام وشهرين

في الوسط يحدث سكوت عظيم في مشهد سيلويت يذكّر بفيلم "الختم السابع" لإنغمار برغمان، الذي كان قد قال عنه إنه حدث مصادفة عندما كان ملاك الموت قد انتهى للتوّ من التصوير، وتجهَّز برفقة مجموعة من فنيي الفيلم لمغادرة "اللوكيشن"، وهو يحمل منجله الذي يحصد الأرواح به بيمناه، فطلب برغمان إلى مصوره، في حينه، أن يصوب عدسة الكاميرا إلى هذا الرهط الفني، فحصل على مشهد تعبيري رمزي قوي تحوّل مع الوقت إلى مشهد أيقوني محفور ومقيم في ذاكرة الفن السابع.

هاهنا تتكرر صدفة "السيلويت" مع مهندس الصوت، الذي يحمل البوم بيمناه، كما لو أنه منجل الموت، وهو ينسحب مع فنيي فيلم "غزة: ساوند مان" عند خط الأفق، ويلي كل ذلك في الحالتين سكوت عظيم. رفقة الموت في كلا الفيلمين مكلفة، وإن بدا أن توظيف المشهد في فيلم غزة لم يكن موفقاً تماماً. بالطبع ليس مهماً محاكاة هذا الموت وتزييفه؛ ففي الفيلم الأول كان مجرد تعبير ذهني عن إحالة فلسفية تعصف في عقل برغمان نفسه، فيما يتعزز الموت في الفيلم الثاني بوصفه حياةً يومية متسلسلة لا نهايات أمامها، حتى وإن حدث مثل هذا الصمت والارتفاع في "تراكات" الموت، وهو يتراكم بين الأصوات التي دأب محمد ياغي على تسجيلها في دورانه اليومي في شوارع القطاع المدمر.

يغرقنا محمد ياغي بأصواته البسيطة التي يريد أن يجمعها لنا حتى لا تتلاشى، فتتلاشى معها ذاكرة الإنسان الأولى. كل إنسان يعيش على هذا الكوكب، ويحمل البوم الخاص به، وبوسعه من كوكبه الخاص أن يرفع "ليفل" نداء الموت حين يكون له وقعُ أقدام وشكلٌ ولونٌ ورائحة. ألم يقل القدماء إن الذاكرة الأولى تتشكَّل من الأصوات والروائح حتى لا يعود بالإمكان التخلّص منها، وصناعة ذاكرة ثانية مجرد وهم وأنانية لا يمكن شرحهما بالكلمات؟! يكفي كل إنسان غير مرئي يجلس في المقدمة أن يرفع مستوى الصوت الذي يقوم بتسجيله لينتصر على أوهامه وأنانيته، وفيلم "غزة: ساوند مان" ينتصر على أنانيات هذا العالم وأوهامه الكبرى والصغرى، وكل مآثره المزيفة بالتحضر!



إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard
    Popup Image