أثارت الأنباء حول عزم الإدارة الأمريكية غلق باب "الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية" (USAID) بعد وقف تمويلها بالكامل لمدة 90 يوماً، حفيظة الرأي العام المصري، لما له من تداعيات اقتصادية واجتماعية على مصر، ولما يمثّله من ضغط يمارسه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، على السلطة فيها، للرضوخ لطلباته في مشروعه لتهجير الفلسطينيين من قطاع غزّة، إلى مصر والأردن، وهو ما ترفضه إدارة الرئيس عبد الفتاح السيسي.
فهل الأمر كذلك، أو أنّ القرار لا يخصّ مصر في أيّ حال من الأحوال، كما يتصوّر كثيرون، بل هو مرتبط بفلسفة ترامب في الحكم، القائمة على شعار "أمريكا أولاً"، الذي يردده في اليوم 4 مرات؟
ما هي الـUSAID؟
في أيلول/ سبتمبر 1961، أصدر الرئيس الأمريكي جون كينيدي، قراراً بتوحيد جميع برامج المساعدات والإغاثة الخارجية التي تقدّمها الولايات المتحدة الأمريكية للعالم، وجمعها في وكالة واحدة تحمل اسم "الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية" (USAID). وبمرور الوقت، صارت الوكالة أكبر جهة مانحة في العالم.
"ماما أمريكا" ليست الأمّ الحنون التي تقطر يداها خيراً حيثما حلّت، فـ"الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية" (USAID)، لا تعدو كونها بالأساس ذراعاً سياسياً، أو جزءاً مما يمكن تسميته بالقوّة الناعمة. لكن ذلك لا ينفي أنّ للـUSAID أيادي بيضاء استفاد منها آلاف البشر في العالم
تكشف إحصائيات الأمم المتحدة، أنّ الوكالة الأمريكية قدّمت أكثر من 42% من إجمالي المساعدات الإنسانية في العالم عام 2024، بميزانية تجاوزت السبعين مليار دولار، وهو الرقم الذي جعلها الداعم الأساسي للكثير من الدول الفقيرة في ملفات الأمراض والأوبئة، ومحاربة الفقر والتلوث، وتمكين النساء، والتعليم وخلافه من الأنشطة التي تحتاجها المناطق الفقيرة في العالم.
بالطبع، "ماما أمريكا" ليست الأمّ الحنون التي تقطر يداها خيراً حيثما حلّت، فـ"الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية" (USAID)، لا تعدو كونها بالأساس ذراعاً سياسياً، أو جزءاً مما يمكن تسميته بالقوّة الناعمة التي ساهمت في ترسيخ الصورة الذهنية عن الولايات المتحدة، كبيرة العائلة والقوى العظمى في العالم. لكن ذلك لا ينفي أنّ للـUSAID أيادي بيضاء استفاد منها آلاف البشر في العالم، أغلبهم من البلدان الفقيرة المحتاجة فعلاً إلى من يمدّ لها يد العون.
صبيحة "القبض على" USAID
في صبيحة السبت الموافق الأول من شباط/ فبراير، تلاشى موقع الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) على الإنترنت، وبتعبير أكثر دقةً تم حجبه ولم يعد بالإمكان الوصول إليه، وذلك بفعل قرار رئاسي من دونالد ترامب، شخصياً. بعد ثلاثة أيام من تلاشيه، عاد الموقع مرةً أخرى، حاملاً رسالةً نصيةً مفادها أنّ جميع الموظفين في إجازة، وأنّ الموظفين خارج الولايات المتحدة سوف يتم تدبير عودتهم إلى البلاد في مدة أقصاها 30 يوماً. بعد يومين، تمّ إيقاف جون فورهيس، مدير الأمن في الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، ونائبه، عقاباً لهما على منعهما إيلون ماسك، وزير "الكفاءة الحكومية"، من الوصول إلى بيانات حسّاسة في الوكالة.
سبق ذلك، في العشرين من كانون الثاني/ يناير الماضي، صدور قرار ممهور بتوقيع الرئيس الأمريكي ترامب، نصّ على إيقاف جميع المساعدات الإنمائية الخارجية للولايات المتحدة لمدة 90 يوماً، لتقييم كفاءتها وتوافقها مع السياسة الخارجية للولايات المتحدة.
القرار الرسمي وإن قضى بـ"تعليق" المساعدات لمدة 90 يوماً، إلا أنّ الأمور تسير على مسار الإلغاء، أو على الأقلّ هكذا صرّح ضمنياً ترامب حين اتّهم الوكالة بأنّها تُدار من قبل مجموعة من اليساريين المجانين. لكن الحديث الأوضح كان على لسان إيلون ماسك، وزير الكفاءة الحكومية، حين قال بوضوح، إنّ الوكالة فاسدة بشكل لا يمكن إصلاحه، وإنّ الرئيس وافق على ضرورة إغلاقها.
أتى ترامب إلى السلطة في أمريكا محمّلاً بأفكار بدت غريبةً ومتنافرةً تماماً مع أفكار كلّ من سبقوه، ليس من حيث تصوّراته اليمينية أو لغة خطابه التي تتّسم بالوقاحة إلى حد بعيد فحسب، ولكن أيضاً لمفهومه عن صلاحيات الرئيس وسلطاته
سؤال المؤسسات
أتى ترامب إلى السلطة في أمريكا محمّلاً بأفكار بدت غريبةً ومتنافرةً تماماً مع أفكار كلّ من سبقوه، ليس من حيث تصوّراته اليمينية أو لغة خطابه التي تتّسم بالوقاحة إلى حد بعيد فحسب، ولكن أيضاً لمفهومه عن صلاحيات الرئيس وسلطاته.
ترامب، في سبيله إلى الكشف، ولأوّل مرة في التاريخ الأمريكي، عن أنّ الولايات المتحدة ليست دولة مؤسسات كما تخيّلناها، وأنه لا توجد دولة عميقة قوية كما ظننا، وأنه ها هو ذا رئيس مجنون (كما يصف هو نفسه)، شاء القدر أن يكون الكونغرس معه، فيقرر التلاعب ليس فقط بالسياسة الخارجية، بل بأهمّ شيء يعرفه الأمريكيون، وهو الفصل بين السلطات واستقلال الوكالات والأجهزة عن الرئيس. ففي أقلّ من أسبوعين، أطاح الرجل بمسؤولين، وأوقف برامج لم يكن ليخطر على بال أحد أن يتم وقفها يوماً.
وفق منطق التاجر، يرى ترامب، أنّ أمريكا تنفق مليارات على العالم بلا طائل، سواء في شكل معونات أو تسليح وحروب، وأنّه آن الأوان لتوقف هذا النزيف المالي، وتوجيه تلك الأموال نحو ما يراه هو في مصلحة الولايات المتحدة. ومن هنا جاء قراره بغلق الـUSAID. القرار إذاً داخلي بالأساس. لا علاقة لموقفَي مصر والأردن منه ولا لمشكلات الشرق الأوسط، بصدوره.
تداعيات وقف تمويل الـUSAID على مصر
لكن عند الرجوع إلى السجلات الرسمية المعلَنة من قبل هيئة المعونة الأمريكية، يتكشف لنا أنّ إجمالي المنفَق على التنمية الاجتماعية والاقتصادية في مصر، يقترب من 300 مليون دولار سنوياً، وهو رقم لا يمكن وصفه بالهيّن إذ إنه يتجاوز الـ15 مليار جنيه.
رصيف22، التقى بأحد المديرين في مشاريع الـUSAID سابقاً، وتحدث إلينا عن تداعيات القرار على مصر -شرط عدم ذكر اسمه- واستهلّ حديثه بالقول: "منذ العام 1981، ومع بدء المعونات المصرية بشقّيها المدني والعسكري، والمعونة تلعب دوراً يتزايد يوماً بعد يوم في هيكلة ورسم ملامح الاقتصاد المصري. ولا أريد أن تأخذني نظرية المؤامرة وأتحدث عن اختراق للبلد، وفي الوقت نفسه التقليل من قيمة ودور المعونة الإيجابي، فذلك محض جهل بطبيعة الدور التي تلعبه الـUSAID. فالأخيرة لها وجهان، وجه إيجابي وآخر سلبي، وتقييم الموقف يجب أن يشمل الوجهين لا أحدهما فقط".
يستطرد المسؤول السابق ويضيف: "هناك ثلاثة قطاعات رئيسية استفادت من المعونة والمساعدات الأمريكية، بشكل قويّ:
أولها قطاع الصناعات الزراعية الغذائية، الذي بفعل الـUSAID وبرامجها، قفزت صادراتنا منه إلى الولايات المتحدة إلى 12 مليار دولار، وهو رقم كبير وضخم أحدث فرقاً في القطاع بشكل كبير.
القطاع الثاني هو قطاع المنسوجات والملابس، الذي تم تطويره وتضفيره مع اتفاقية 'الكويز' التي فتحت لنا الأسواق الأوروبية والأمريكية.
أما القطاع الثالث، فقطاع البتروكيماويات الذي حدثت فيه نقلة نوعية على يد الخبراء الأمريكيين. هذا بالطبع إلى جانب المنح الدراسية وبرامج الصحة فضلاً عن تهيئة الشركات الناشئة، ومجتمع ريادة الأعمال الذي يُنفَق عليه سنوياً ما يقرب من 33 مليون دولار، فضلاً عن تشغيل 25 ألف موظف في مشاريع الوكالة في مصر، وأولئك فقدوا عملهم في لحظة".
اختلف مع الإدارة الأمريكية كيفما شئت، وارفض سياساتها العنصرية تجاه غزّة. هذا طبيعي ومنطقي. لكن قرار وقف تمويل الـUSAID، لم يحدث للضغط على مصر. هذا أولاً، وثانياً لهذا القرار تداعيات اقتصادية على مصر أكبر من أن يتم التعامل معها بخفّة… "خدوها مش عاوزينها"
ويتابع المسؤول السابق: "لكن على صعيد آخر، المعونات ليست كلها خيراً، فهناك جانب آخر لا يمكن إغفاله، هو جانب السيطرة والتحكم في التشريعات، وهنا يحضرني المثال الأبرز الذي يجب الالتفات إليه لفهم طبيعة عمل الـUSAID. هناك هيئة حيوية في مصر اسمها هيئة سلامة الغذاء، هذه الهيئة تتبع المواصفات الأوروبية في ما يخصّ معيار الغذاء الوارد إلى مصر. ووفقاً لتلك المعايير، فإنّ المنتجات الحيوانية الأمريكية تختلف عن معاييرنا نتيجة وجود نسبة عالية من الهرمونات التي تعمل على تحويل الأعلاف إلى لحوم. هذه المعايير تمنع الهيئة من قبول تلك المنتجات. لكن الذي حدث أنّ الهيئة غيّرت قبل مدة معاييرها، بحيث يمكنها قبول عملية الاستيراد تلك من الولايات المتحدة، وهو ما يترتب عليه مليار دولار سنوياً مستورَدات من أمريكا كان لا يمكن أن تدخل قبل ذلك، وهذا هو النفوذ الذي أتحدث عنه".
نموذج آخر يلفت نظرنا إليه، هو أنّ البلد "مفتوحة"، على حد تعبيره، للخبراء الأمريكيين الذين تغلغلوا في كل القطاعات، وأتيحت لهم جميع البيانات والمعلومات عن مصر واقتصادها، وتلك المعلومات تمكّن الشركات الأمريكية من دخول السوق وتقديم الطلبات المرجوّة بدقّة.
ويختم المسؤول السابق حديثه قائلاً: "لا أريد تضخيم الأمر، ولكنها عمليات اختراق تامة للبلاد، اقتصادياً على الأقلّ".
اختلف مع الإدارة الأمريكية كيفما شئت، وارفض سياساتها العنصرية تجاه غزّة. هذا طبيعي ومنطقي. لكن قرار وقف تمويل الـUSAID، لم يحدث للضغط على مصر. هذا أولاً، وثانياً لهذا القرار تداعيات اقتصادية على مصر أكبر من أن يتم التعامل معها بخفّة… "خدوها مش عاوزينها".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Europe in Arabic-Tarek Saad أوروبا بالعربي -
منذ يوممقال رائع..
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامالحبة الحمراء أيديولوجية يقتنع بها بعض من النساء والرجال على حد السواء، وبرافو على هذا الشرح الجميل
Hani El-Moustafa -
منذ 4 أياممقال أكثر من رائع واحصائيات وتحليلات شديدة الأهمية والذكاء. من أجمل وأهم ما قرأت.
حوّا -
منذ أسبوعشي يشيب الراس وين وصل بينا الحال حسبي الله ونعم الوكيل
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعكل هذه العنجهية فقط لأن هنالك ٦٠ مليون إنسان يطالب بحقه الطبيعي أن يكون سيدا على أرضه كما باقي...
Ahmed Mohammed -
منذ أسبوعاي هبد من نسوية مافيش منطق رغم انه يبان تحليل منطقي الا ان الكاتبة منحازة لجنسها ولا يمكن تعترف...