في عشرينيات القرن الماضي، كانت القاهرة تشهد تحولات ثقافية واجتماعية غير مسبوقة، تجلت بوضوح في المشهد الفني الذي شكّلته مجموعة من النساء الرائدات. كتاب "منتصف الليل في القاهرة" لرفائيل كورماك، يستعرض هذه الفترة بوصفها مرحلة ازدهار غير مألوفة لنساء تحدين القيود الاجتماعية والدينية، وأسّسن لأنفسهن مكانة بارزة في عوالم المسرح، الموسيقى والسينما، يقدّم دراسة شاملة عن الدور الحيوي الذي لعبته النساء في تشكيل المشهد الفني والثقافي خلال فترة العشرينيات.
الكتاب يسرد قصصاً متنوعة لنساء مثل روز اليوسف، التي أصبحت واحدة من أبرز ناشرات الصحافة الثقافية والسياسية، وفاطمة رشدي التي قادت فرقاً مسرحية بارزة، وتحية كاريوكا التي أعادت تعريف فن الرقص في سياق أكثر تعبيراً عن الهوية المصرية. يُلقي الكتاب الضوء على التحديات والفرص التي واجهتها هؤلاء النساء في مجتمع يواجه صراعاً بين الحداثة والتقاليد.
ما يميز الكتاب هو استناده إلى مصادر أولية موثوقة، مثل مذكرات الفنانات والمجلات الفنية التي ازدهرت في تلك الفترة، بالإضافة إلى وثائق محفوظة في "دار الكتب المصرية". يقدم كورماك صورة تفصيلية عن الحياة الليلية المزدهرة في القاهرة، وعن كيفية تحول التياتروهات والكباريهات إلى مساحات نسوية بديلة، حيث استطاعت النساء كسر القيود المجتمعية وفرض وجودهن في مجتمع يواجه صراعاً بين الحداثة والتقاليد.
الكتاب لا يركّز فقط على الإبداع الفني، بل يربط بين التجارب الفردية لتلك النساء وبين التحولات الثقافية والاجتماعية الكبرى، ما يجعل منه قراءة أساسية لفهم النضال النسوي في مصر خلال تلك الحقبة.
المسرح كنافذة على التغيير
بدأ المسرح في مصر كأداة للنخبة المتأثرة بالثقافات الأوروبية، إلا أنه تطوّر تدريجياً ليصبح منصّة للنساء للتعبير عن أنفسهن. في البداية، كانت الأدوار النسائية تُمنح للرجال، حيث كان ظهور النساء على المسرح يعد مخالفاً للأعراف السائدة. مع مرور الوقت، استطاعت نساء، مثل فاطمة رشدي وكوكب صادق، كسر هذه الحواجز، ليصبحن نجمات للمسرح الذي كان يشهد ازدهاراً في حي "إزبيكيا"، القلب النابض للمشهد الفني في القاهرة.
لكن طريق النجاح لم يكن مفروشاً بالورود؛ فقد كانت النساء في المجال الفني يواجهن نظرة مجتمعية قاسية، تربط بين عملهن في المسرح أو الغناء وبين الانحراف الأخلاقي، ورغم ذلك، واصلن التحدي وأعدن تشكيل هذه الصورة النمطية.
في البداية، كانت الأدوار النسائية تُمنح للرجال، حيث كان ظهور النساء على المسرح يعد مخالفاً للأعراف السائدة. مع مرور الوقت، استطاعت نساء، مثل فاطمة رشدي وكوكب صادق، كسر هذه الحواجز، ليصبحن نجمات للمسرح الذي كان يشهد ازدهاراً في حي "إزبيكيا"، القلب النابض للمشهد الفني في القاهرة
في تلك الفترة، العقدين الثاني والثالث من القرن العشرين، لم يكن الفنّ مجرد وسيلة للترفيه أو منصّة لإظهار المواهب، بل كان جزءاً من مشروع أوسع لتشكيل هوية مصرية جديدة. في فترة اتسمت بالاحتكاك الثقافي بين الشرق والغرب، وبين الإرث العثماني والحداثة الأوروبية، ظهرت الحاجة إلى إعادة صياغة مفهوم "المصرية". قدمت النساء اللواتي عملن في المسرح والموسيقى، مثل منيرة المهدية وأم كلثوم، نموذجاً مختلفاً عن الصور التقليدية للمرأة المصرية.
على خشبة المسرح وفي قاعات الموسيقى، مزجت تلك النساء بين التقليدي والحديث، بين الموشحات الشرقية والأنماط المسرحية الغربية، ما خلق هوية فنية هجينة، عبّرت عن تطلعات الشعب المصري للتحرّر الثقافي والسياسي، كما أن وجود النساء في هذا السياق كان رمزياً للغاية: فقد جسدن تحدياً مزدوجاً للسلطة الذكورية المحلية والاستعمار البريطاني الذي حاول فرض سرديات ثقافية محدّدة تخدم مصالحه.
الأغاني الوطنية التي قدمتها أم كلثوم في الثلاثينيات والأربعينيات مثال واضح على هذا التفاعل، فقد حولت الغناء من مجرد أداة ترفيهية إلى وسيلة تعبئة سياسية وثقافية. كلمات أغانيها، التي كتبها شعراء مثل أحمد رامي، جسّدت تطلعات المصريين نحو الاستقلال وبناء دولة حديثة، وفي الوقت ذاته، لم تكن النساء اللواتي قدن هذا التحول بعيدات عن النقد، حيث وصفتهن القوى المحافظة بـ "المخرّبات للأخلاق والقيم الاجتماعية".
السياسة والفن: تحالف غير متوقع
امتد تأثير هؤلاء النساء إلى ما هو أبعد من الفنون، فقد تقاطعت حياتهن المهنية مع قضايا سياسية واجتماعية كبرى، مثل النضال ضد الاستعمار البريطاني وحركة التحرّر الوطني. كانت أدوارهن على المسرح وخارجه تثير جدلاً واسعاً حول مكانة المرأة في المجتمع ودورها في الحياة العامة، ومن المثير للاهتمام أن هؤلاء النساء لم يأتين جميعهن من خلفيات اجتماعية ميسورة؛ العديد منهن كُنّ من أصول متواضعة، واستطعن تحقيق نجاح غير مسبوق بفضل طموحهن ومثابرتهن.
التحولات التي شهدتها القاهرة خلال فترة "العشرينيات الهادرة" لم تكن مجرّد انعكاس لرغبة في التحرّر الثقافي، بل كانت أيضاً متجذّرة في واقع اجتماعي شديد التعقيد. لقد خرج العديد من النساء اللواتي هيمنّ على المشهد الفني من خلفيات اجتماعية متواضعة، بينما وفّر لهن الفن ملاذاً للهروب من قيود الفقر والتمييز الطبقي.
روز اليوسف، على سبيل المثال، كانت ابنة لعائلة متواضعة، إلا أنها تمكنت من تسلق السلم الاجتماعي من خلال عملها في المسرح، ومن ثم انتقلت لتأسيس واحدة من أهم المجلات الثقافية والسياسية في تاريخ مصر الحديث. هذا الصعود السريع لم يكن مجرّد إنجاز شخصي، بل كان يعبّر عن تحول جذري في الطريقة التي أصبح بها الفن منصّة لتمكين النساء من الفئات الأقل حظاً.
في المقابل، نجد أن النساء اللواتي تحدّرن من طبقات اجتماعية أعلى، مثل زملائهن من الفنانات الأوروبيات في القاهرة، كُنّ يمتلكن امتيازات سمحت لهن بالمخاطرة بشكل أكبر، بيد أن هذا لم يعفهن من النقد أو الاستغلال؛ فقد واجهن أيضاً ضغوطاً اجتماعية وسياسية تهدف إلى تقويض نجاحاتهن.
النقطة الأبرز هنا هي أن هذه الحركات الفنية، التي بدت وكأنها محصورة في النخبة، كانت في الحقيقة تمثل فرصة للنساء، من جميع الطبقات، للتأثير في المجتمع، لكن الثمن الذي دفعه العديد من هؤلاء النساء كان باهظاً؛ فبينما وصل بعضهن إلى قمة المجد، انتهى الحال بأخريات في عزلة أو معاناة اقتصادية نتيجة القيود الاجتماعية وعدم وجود بنى داعمة لهن.
في عشرينيات القرن الماضي، لم يكن الفن مجرّد وسيلة للتعبير الإبداعي، بل كان مساحة نسوية بديلة وفريدة للنساء في القاهرة، بعيداً عن القيود التقليدية التي فرضتها البُنى الاجتماعية والسياسية
الفن كمساحة نسوية بديلة
في عشرينيات القرن الماضي، لم يكن الفن مجرّد وسيلة للتعبير الإبداعي، بل كان مساحة نسوية بديلة وفريدة للنساء في القاهرة، بعيداً عن القيود التقليدية التي فرضتها البُنى الاجتماعية والسياسية. يقدّم كتاب "منتصف الليل في القاهرة" لرفائيل كورماك، صورة معقدة لهذه الفترة، موضحاً كيف أصبحت التياتروهات والكباريهات متنفّساً للنساء، وميداناً لصراعاتهن الشخصية والاجتماعية.
تلك المساحات، رغم ارتباطها بأحكام مجتمعية قاسية وربطها أحياناً بالانحلال الأخلاقي، كانت حاضنات لحراك نسوي غير تقليدي، فهي لم تكن مجرد أماكن للغناء والرقص أو التمثيل، بل ساحات صنعت فيها النساء هويات جديدة، أعادت تعريف أدوارهن بعيداً عن الأطر المنزلية والقيود الاجتماعية السائدة. كورماك يوضح أن هذه المساحات لم تكتفِ بتوفير فرص اقتصادية أو مهنية، بل أصبحت منصّات لتحدي الأنماط الذكورية المهيمنة في المجتمع.
في هذا السياق، يمكن النظر إلى تلك المساحات كأداة مزدوجة التأثير، فمن جهة، استفادت النساء من الفرص التي أتاحها عالم المسرح والكباريه، مثل امتلاك الأندية أو قيادة الفرق المسرحية، وهي أدوار منحت بعضهن درجة غير مسبوقة من الاستقلال المادي والسيطرة على حياتهن المهنية، ومن جهة أخرى، كانت هذه المساحات ميداناً لمعارك يومية ضد مجتمع يرى في وجودهن تحدياً صارخاً للأعراف.
يقدّم كتاب "منتصف الليل في القاهرة" لرفائيل كورماك، صورة معقدة لهذه الفترة، موضحاً كيف أصبحت التياتروهات والكباريهات متنفّساً للنساء، وميداناً لصراعاتهن الشخصية والاجتماعية.
التاريخ الذي يوثّقه كورماك يكشف عن عمق هذا الصراع. المسرحيات التي أنتجتها النساء أو العروض التي قدمنها لم تكن فقط للترفيه، بل غالباً ما حملت إشارات رمزية عن الحرية والاستقلالية. هذه الأعمال جذبت جماهير متنوعة، ودفعت بالنساء إلى الواجهة بوصفهن رموزاً للحداثة والانفتاح.
ولكن، كما يشير الكتاب، فإن هذه "المساحة النسوية البديلة" كانت ذات طبيعة معقدة، فهي لم تكن خالية من الاستغلال أو التحديات، إذ تعرّضت النساء العاملات فيها لاستغلال اقتصادي وضغوط اجتماعية عنيفة، سواء من القوى الذكورية داخل هذا المجال أو من خارجه، ومع ذلك، فإن إرثهن يبقى شاهداً على قدرتهن على تحويل هذا العالم إلى منصّة لتحرير أنفسهن ومواجهة القيود المفروضة عليهن.
هذا المزيج من التحدي والفرصة، كما يعرضه الكتاب، يجعل من تلك المساحات نموذجاً فريداً للمقاومة النسوية، حيث لا يمكن اختزال النضال النسوي في تلك الحقبة فقط في التحركات السياسية أو الإصلاحات الاجتماعية، بل يتسع ليشمل الإبداع الفني كوسيلة قوية لفتح أبواب الحرية وإعادة تشكيل صورة المرأة في المجتمع المصري.
ما يجعل قصص هؤلاء النساء في عشرينيات القاهرة ملهمة هو أنها لا تدور فقط حول الفن كإبداع، بل كأداة للتغيير. في ظل ظروف سياسية مضطربة واجتماعية تقليدية، استطاعت نساء، مثل روز اليوسف وأم كلثوم ومنيرة المهدية، أن يخرجن من هامش المجتمع ليصبحن رموزاً للتحرّر الثقافي والاجتماعي.
ربما تبدو هذه الفترة من التاريخ وكأنها حقبة مضت، إلا أنها تقدم دروساً حية حول كيفية تعامل الثقافات مع قضايا الهوية والجندر، وأهمية الفنون في تشكيل مسارات التحرّر، فهؤلاء النساء لم يكنّ فقط صانعات للثقافة، بل كنّ أيضاً مهندسات للوعي الجمعي المصري، وفتحن المجال للنقاش حول أدوار النساء وحقوقهن بطريقة تتجاوز حدود الزمان والمكان.
*****
رفائيل كورماك، أكاديمي متخصص في الدراسات الإسلامية والشرق أوسطية، مع تركيز خاص على المسرح المصري، حصل على درجة الدكتوراه من جامعة إدنبرة ويعمل أستاذاً مساعداً في الدراسات العربية بجامعة دورهام. صدرت بترجمة علاء الدين محمود عن دار "خان" المصرية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
حوّا -
منذ يومشي يشيب الراس وين وصل بينا الحال حسبي الله ونعم الوكيل
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل هذه العنجهية فقط لأن هنالك ٦٠ مليون إنسان يطالب بحقه الطبيعي أن يكون سيدا على أرضه كما باقي...
Ahmed Mohammed -
منذ 3 أياماي هبد من نسوية مافيش منطق رغم انه يبان تحليل منطقي الا ان الكاتبة منحازة لجنسها ولا يمكن تعترف...
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياموحدث ما كنا نتوقعه ونتأمل به .. وما كنا نخشاه أيضاً
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أيامصادم وبكل وقاحة ووحشية. ورسالة الانتحار مشبوهة جدا جدا. عقاب بلا ذنب وذنب بلا فعل ولا ملاحقة الا...
mahmoud fahmy -
منذ أسبوعكان المفروض حلقة الدحيح تذكر، وكتاب سنوات المجهود الحربي، بس المادة رائعة ف العموم، تسلم ايديكم