شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
عن مشهد بطولي في جنوب لبنان وكواليسه وارتداداته

عن مشهد بطولي في جنوب لبنان وكواليسه وارتداداته

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والحقوق الأساسية

الاثنين 27 يناير 202512:20 م

قال لي صديق مرّة إن أرض جنوب لبنان تربتها حمراء لأنها مجبولة بدم أبنائها المسكوب عليها منذ قرون، ولا يزال. وفي الـ 26 من كانون الثاني/يناير 2025، روى مئات الجنوبيين تراب بلداتهم وقراهم بدمهم النازف وهم يحاولون العودة إليها.

قد لا يعرف كثيرون أن أبناء بلدات وقرى الشريط الحدودي المحاذي لإسرائيل لم يُهجَّروا من منازلهم، لا عند بدء العمليات البرية الإسرائيلية في أول تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، أي قبل نحو أربعة أشهر، ولا قبل التاريخ المذكور بنحو أسبوع، في الـ 23 من أيلول/ سبتمبر، ذلك اليوم المشؤوم الذي ملأت فيه صور الجنوبيين الهاربين من الموت وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، من زاوية الزحمة الخانقة التي عرقلت وصولهم إلى أماكن آمنة لساعات طويلة. معظم أبناء القرى الحدودية تركوا منازلهم منذ الأسبوع الأول الذي تلا السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، بعدما ارتأى حزب الله أنه قادر على "مشاغلة" إسرائيل ومساندة غزة.

قال لي صديق مرّة، إن أرض جنوب لبنان تربتها حمراء لأنها مجبولة بدم أبنائها المسكوب عليها منذ قرون ولا يزال. وفي الـ 26 من كانون الثاني/ يناير 2025، روى مئات الجنوبيين تراب بلداتهم وقراهم بدمهم النازف وهم يحاولون العودة إليها


شُرّد هؤلاء من منازلهم، ومُنعوا من العودة إليها رغم التوصل إلى اتفاق لوقف الأعمال العدائية بين إسرائيل وحزب الله، وقيل لهم إن هذا القيد سيزول بعد ستين يوماً من دخول الاتفاق حيّز التنفيذ، وتسلُّم الجيش اللبناني المواقع التي تحتلها إسرائيل، وعندما أتى اليوم الموعود قيل لهم: ستتأجل عودتكم لأن إسرائيل تريد ذلك! أكثر من 15 شهراً وهؤلاء الجنوبيون مطرودون عنوةً من أرضهم ومنازلهم، فهل كثير أن يجبلوا طريق عودتهم بدمائهم؟

أيقونة الزحف الشعبي

"هذه بلادنا، هذه أرضنا"، صرخت امرأة جنوبية وهي تنحني وتمسك بكمشة من التراب ثم تنتصب فاتحةً ذراعيها وهي تتقدم نحو مجموعة جنود إسرائيليين يتترسون خلف ساتر شُيّد من ركام المنازل التي دمروها، وتطل منه فوهة مدفع دبابة ميركافا، غير آبهة بالطلقات التحذيرية القريبة من قدميها، في صورة تشبه الصورة الشهيرة لتظاهرات ميدان "تيان آن مين" في الصين عام 1989.


انتشر أيضاً فيديو لامرأة أخرى تقف أمام دبابة ميركافا وتتحدث مع جنودها، والأرجح أنها كانت تشتمهم، ولكن هذه السيدة لم نرَ وجهها ولم نسمعها وهي تتكلم. وقد تشبه أي لقطة من هذا الفيديو أكثر صورة "تيان آن مين" الشهيرة، لأن بطلتها تظهر وحيدة تماماً بينما يختفي الحشد. رغم ذلك شدّتني المرأة الأولى أكثر، لأنها في شكلها وهيئتها ولباسها وسلوكها جنوبية أكثر.



هذا هو المزاج الشعبي للزاحفين إلى قراهم. مارسوا حقاً لهم كفلته القوانين الدولية والأعراف الإنسانية وحفّزهم عليه حبهم لمسقط رؤوسهم، ووجهوا بالرصاص الإسرائيلي القاتل، وسقط منهم العشرات بين قتيل وجريح، لكنهم غيروا معادلات ودخلوا إلى مجموعة واسعة من القرى والبلدات التي كان الاقتراب منها ممنوعاً.

أكثر من 15 شهراً والجنوبيون، من أبناء بلدات وقرى الشريط الحدودي المحاذي لإسرائيل، مطرودون عنوةً من أرضهم ومنازلهم، فهل كثير أن يجبلوا طريق عودتهم بدمائهم؟


خلف الكواليس

هكذا كان المشهد البطولي، ولكن خلفه كانت كواليس أدارها أشخاص لا يمتّون إلى البطولة بصلة وكانوا يعرفون ما سيقع، فهو كان متوقعاً لأنه يتشابه مع سيناريوهات أُعِدَّ لها ونُفّذت في مراحل سابقة.

بدأت قصة هذه الكواليس بحلقة أولى شهدناها مباشرة بعد بدء سريان اتفاق وقف الأعمال العدائية. حينها قيل للجنوبيين: "سيروا إلى بلداتكم وقراكم"، فسار متحمّسون منهم، وعندما وصلوا تفاجأوا بأن جنوداً إسرائيليين يتمركزون في قلب هذه البلدات والقرى، وأُطلقت عليهم النيران وقُتل عدد منهم، وتراجعوا خائبين، ولم يتحقق لمحمّسيهم مبتغاهم السياسي.

ما شاهدناه أخيراً هو الحلقة الثانية، وبدأت مع اقتراب انقضاء مهلة الستين يوماً قبل العودة. على وقع عدم التزام إسرائيل بهذه المهلة وإعلانها أنها لن تنسحب في الموعد المحدّد من كامل المواقع التي تتمركز فيها، راحت تخرج دعوات محلية على مستوى مجموعات جنوبيين على تطبيق "واتساب"، فشاعت، رغم أنها لم تكن علنية، لا بل عرفت كل الوسائل الإعلامية بتفاصيلها ونشرتها، وكل ذلك بدون أن يكون لها أب داعٍ شرعي!

للمهتمين، كان واضحاً وجود جهة تنسّق كل هذه الدعوات، والجهة القادرة على ذلك هي حزب الله، رغم تنصّله من الوقوف وراء ما جرى، على أساس أنه "مبادرة شعبية ولا علاقة لحزب الله بها"، كما صرّح عضو كتلة الوفاء للمقاومة علي فياض، مثلاً.

المشاهد المهيبة كشفت الكثير. المرأة التي فتحت صدرها للدبابة في مشهد تحدٍّ كانت أيضاً تطالب ثلة من الشباب الواقفين جنبها، ومن الواضح أنهم جزء من تنظيم الفوضى التي جرت، بالتقدم نحو الجنود الإسرائيليين لطردهم، مقرّعةً إياهم بعبارة: "إنتو ليش خيفانين؟!".

قد لا تعلم هذه السيدة الشُجاعة أن هؤلاء جزء من الفوضى المنظمة التي جرت والتي تتطلب الوقوف على حافة الخطر، فيسقط بعض مَن يتجاوزونها فيما ينجو الباقون، وقد لا تعلم أن مَن فاوضوا على اتفاق وقف الأعمال العدائية ووافقوا عليه، نسوا تفصيلاً قد يكون بسيطاً بنظرهم: لا يأتي لا على سيرة عودة الناس إلى بلداتهم وقراهم ولا على إعادة إعمارها.

في واقع الأمر، وقّع هؤلاء على اتفاق استسلام ولم يكن بمقدورهم فرض شروط، ولكن نسيان أهم شيء في أي صراع، أي الناس، لا يستوي مع مقولة الانتصار التي يرطنون بها بمناسبة أو بدون مناسبة.

قد لا تعلم السيدة الجنوبية الشجاعة التي فتحت صدرها متحدية دبابة الميركافا الإسرائيلية، أن مَن فاوضوا على اتفاق وقف الأعمال العدائية ووافقوا عليه، نسوا تفصيلاً قد يكون بسيطاً بنظرهم: لا يأتي لا على سيرة عودة الناس إلى بلداتهم وقراهم ولا على إعادة إعمارها.

والآن يريدون استعادة ما خسروه بعد هزيمتهم عسكرياً، ومنه هيبتهم وحضورهم المؤثر في المحطات المفصلية في حياة أبناء الطائفة الشيعية، وبالتبعية، حضورهم في المشهد السياسي اللبناني العام وفي الشارع العام، وهو ما حرّكوا من أجله "عراضات" دراجات نارية، جابت أحياء ذات أغلبية سكانية مسيحية للاحتفال بـ "النصر الجديد" وإثبات القدرة على خلق توترات.

ويسعى هؤلاء للتخلّص من صورة أنهم أتوا بسوء تقديرهم، وكرمى لإيران، بالاحتلال الإسرائيلي مجدّداً إلى جنوب لبنان، ولتعميم مقولة أنهم قادوا تحريره عندما فشلت ديبلوماسية المؤسسات اللبنانية الرسمية والجيش اللبناني في ذلك، ولإعادة إحياء مقولة "جيش وشعب ومقاومة" التي تمنح حزب الله شرعية عوضاً عن سحب سلاحه. 

"معادلة الجيش والشعب والمقاومة ليست تلك التي تُكتب على الأوراق وفي البيانات الوزارية، بل هي تُصنع على الأرض"، قال عضو كتلة الوفاء للمقاومة النيابية حسن فضل الله، في رسالة إلى رئيس الحكومة المكلّف نواف سلام، وأطراف سياسية أخرى تعترض على إدراج هذه المقولة المثلثة في البيان الوزاري للحكومة القادمة.

ودفع هؤلاء باتجاه ما جرى، وذلك على حساب دم مدنيين متحمّسين لعناق أرضهم وما تبقّى من منازلهم، زحفوا نحوها وهُم يرفعون رايات حزب الله التي يصدف دائماً أن تكون جاهزة للتوزيع عندما يتحرّك "الأهالي"، تماماً كما حصل مع عراضات الدراجات النارية التي كانت تحتاج إلى دم جنوبي لتستعرض أمام الطوائف الأخرى... وربما نجحوا في الوصول إلى مبتغاهم، وربما تنتظرنا حلقات جديدة من مسلسل مشاغلة بال اللبنانيين.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ما زلنا في عين العاصفة، والمعركة في أوجها

كيف تقاس العدالة في المجتمعات؟ أبقدرة الأفراد على التعبير عن أنفسهم/ نّ، وعيش حياتهم/ نّ بحريّةٍ مطلقة، والتماس السلامة والأمن من طيف الأذى والعقاب المجحف؟

للأسف، أوضاع حقوق الإنسان اليوم لا تزال متردّيةً في منطقتنا، إذ تُكرّس على مزاج من يعتلي سدّة الحكم. إلّا أنّ الأمر متروك لنا لإحداث فارق، ومراكمة وعينا لحقوقنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image