شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
القائد السوداني الذي نُفي في جبل طارق وأنشد الشّعر… الزبير باشا رحمة

القائد السوداني الذي نُفي في جبل طارق وأنشد الشّعر… الزبير باشا رحمة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتاريخ

الجمعة 31 يناير 202512:21 م

عام 1820 تقدمت جيوش الدولة المصرية لأول مرة، من أجل لملمة أطراف المناطق الواقعة جنوبها، ممثلة في سلطنات وممالك وقبائل السودان، لتصنع من كل هذا كياناً إدارياً وسياسياً واحداً، واستمرت مرحلة التوحيد والتكوين هذه قرابة نصف قرن، إلى أن اكتمل السودان الحديث عام 1874.

وبحسب الدكتور أحمد فؤاد، في كتابه المعنون بـ"مصر والسودان في نظر العلم والتاريخ"، فإن السودان الحديث اكتمل عندما ألحقت سلطنة دارفور به، على يد الزبير باشا رحمة الجموعي، الذي كان قائداً سودانياً في جيش مصر، وقت حكم الخديوي إسماعيل (1830-1895)، وأصبح له شأن كبير في البلاد، وذاع صيته، ولكن انتهى الأمر به منفياً في جبل طارق، ثم عاد إلى بلاده في أواخر أيامه، وتوفي بها.

يوضح الدكتور عز الدين إسماعيل، في مؤلفه "الزبير باشا ودوره في السودان في عصر الحكم المصري"، أن فكرة غزو دارفور وإخضاعها لسلطة الحكومة المصرية، ظلت هدفاً وأملاً يراود كل من تولى حكم مصر، إلا أن الجهود التي كانت تبذل في هذا السبيل كانت تتعثر في أغلب الأحيان لأسباب كثيرة، منها سياسة الحذر التي اتبعها كل من تولى حكم دارفور، وفي أواخر القرن التاسع عشر تجمعت الأسباب القوية التي جسدت فكرة غزوها، وهو ما تحقق على يد الزبير باشا رحمة.

من هو الزبير باشا رحمة؟

يعرف نفسه في حديثه مع الكاتب نعوم شقير، مؤلف كتاب "تأريخ السودان القديم والحديث وجغرافيته"، بقوله: "أنا الزبير بن رحمة بن منصور"، موضحاً: "هاجر أجدادي العباسيون بغداد، بعد هجوم التتار عليها سنة 676 هـ/1278، فأتوا مصر، فوجدوا الفاطميين حكاماً فلم يطيقوا الإقامة معهم، فنزحوا إلى بلاد السودان، فسكن بعضهم النيل، وبعضهم بلاد دارفور، وتشعبوا على النيل قبائل، فكان في جملتها قبيلتنا المعروفة بالجميعاب، نسبة إلى جدنا جميع".

فكرة غزو دارفور وإخضاعها لسلطة الحكومة المصرية، ظلت هدفاً وأملاً يراود كل من تولى حكم مصر، وفي أواخر القرن التاسع عشر تجمعت الأسباب القوية التي جسدت فكرة غزوها، وهو ما تحقق على يد الزبير باشا رحمة

ويؤكد المؤلف داود بركات في مؤلفه "السودان المصري ومطامع السياسة البريطانية"، أن قبيلة الجميعاب اشتهرت بالشجاعة، وعاهدت الأمير إسماعيل بن محمد علي يوم فتحه السودان عام 1820، وثبتت على ولاء الأسرة العلوية.

ويتابع الزبير حديثه عن نفسه مع الكاتب نعوم شقير، قائلاً: "ولدت في جزيرة واوسي (تقع شمال الخرطوم) في 17 محرم سنة 1246هـ/8 تموز/يوليو 1831، ونشأت في حجر والدي إلى أن بلغت السابعة من العمر، فأدخلني مكتب الخرطوم، فتعلمت القراءة والكتابة، وحفظت القرآن الشريف على رواية أبي عمر والبصري، وتفقهت على مذهب الإمام مالك، واشتغلت بالتجارة للتعيش بها".

السفر إلى بحر الغزال من أجل التجارة

تزوج الزبير باشا رحمة ابنة عم له، حين بلغ الخامسة والعشرين، واستمر على نهج قبيلته، وولائه للأسرة العلوية في مصر، وكان له شأن يذكر في تاريخ السودان. بدأ حياته في التجارة، ثم سافر مع ابن عمه إلى بحر الغزال عام 1856 في خدمة تاجر مصري يدعى علي أبي عموري، من نجع حمادي بقنا، جنوب مصر.

ومن هنا حانت لحظة التحول في حياة الزبير باشا رحمة، إذ يؤكد: "سفري إلى بحر الغزال كان سبب نجاحي وشهرتي ورفع منزلتي إلى مقام لم ينله أحد في السودان قبلي، وهيهات أن يناله أحد فيه بعدي".

في بحر الغزال بجنوب السودان كان التجار المصريين كُثراً، وكل واحد منهم يبني زريبة من الشوك يخزن فيها بضائعه، والكل يبيع للزنوج الخرزَ الملونة وحيلة القصدير مقايضةً بالعاج وريش النعام والحديد والنحاس. فهاجم الأهالي على الزرائب لنهبها، فدافع الزبير عن زريبة علي أبي عموري، فهابه الأهالي وذاع أمره، وكافأه الأول بأن جعل له عُشر أرباحه، فكانت ألف جنيه، وحاول أن يجعله شريكاً له بالنصف، لكن الزبير، لقوّة شخصيته رفض وقرر الاستقلال في تجارته، فانفرد وربح، ثم قصد إلى بلاد النمانم، فرحب به سلطانها المسمى تكمة، وزوّجه بكبرى بناته المسماة رانبو، فعَلَا قدره بهذه المصاهرة، وزادت تجارته، وفقاً لما حكاه مع شقير.

وبحسن ظن منه، وربما سقطة، لم يكتف الزبير باشا رحمة بذلك، وإنما اشترى من ملك النمانم 500 شاب درَّبهم على حمل السلاح، وجعلهم حراساً له، حتى صاروا كأنهم جيش، ودولة داخل دولة، وكان هؤلاء الشبان من المحكوم عليهم "أصحاب الجرائم في السوق"، وعادة أهل البلاد أن يذبحهم الزبير وجيشه دولة داخل دولة.

خشي ملك النمائم من قوة الزبير، فخرج الأخير وذهب إلى ملك آخر، هو عدو تكمة. فأرسل حموه رجالَه للفتك به في الطريق، فتغلب عليهم، ولما لجأ إلى الملك الثاني جهز حموه جيشاً لقتاله، ففرَّ هذا الملك من وجهه، واضطر الزبير أن يلجأ إلى بلاد قولو، وملكها يدعى "عدوه شكو"، وكان هذا الملك قد غدر بشقيق الزبير، وقتله وأخذ تجارته، وفقاً لما يذكر بركات.

التحول من التجارة إلى السياسة

يروي محمد أحمد الراشد، في كتابه "صانع حياة"، أن الزبير قرر سنة 1865 التحدي، فأزال الملك عدوه شكو، وقتله في معركة، وأسر ابنه، وصارت تلك البلاد تحت حكمه، فحكمها بالقرآن وسنة النبي، وأشاع العدل فيها، وحرص على تمدينها وعمارتها وتسهيل تجارتها.

انتشر خبر العدل في مملكة الزبير، وكذلك جيشه القوي المسلح، فبدأت الوفود تأتي، وكثر التجار الذين نقلوا تجارتهم إلى مملكته وعاصمته (ديم الزبير)، فاتخذ لهم طريقاً غريباً يتصل بمملكة كردفان ثم إلى الخرطوم أو الشمال، ولا يمر بالنيل الأبيض ومتاعب الملاحة. واقتضى ذلك منه أن يستدعي مشايخ قبائل الرزيقات (أكبر القبائل العربية في السودان، وتنتشر في إقليم دارفور)، يفرضون سلطتهم جنوب كردفان. فجاءه ثمانون شيخاً، عقد معهم اتفاقاً على تأمين الطرق مقابل أجرة يأخذونها من كل تاجر. أقسم الشيوخ على ذلك، وحصل الأمان مدة، وظهر الأثر الإيجابي لهذا القرار التنموي الاستراتيجي، ولبث الازدهار يزداد، والأمن والعدل، فدخلت في طاعة الزبير مناطق مجاورة.

في سنة 1869، اتخذت السياسة البريطانية المصرية قراراً بإرسال سير صمويل باكر، لفتح خط الاستواء، وإخضاع مناطقه للسلطة المشتركة، وكان من فروع ذاك التدبير إرسال حاكم الخرطوم لجيش يقوده الحاج محمد البلالي، المغربي الأصل، لإخضاع بحر الغزال. فأخضعها، ثم توجه نحو مملكة الزبير، فكمن له الأخير، ودارت معركة، أصيب فيها رحمة بطلقة في ذراعه اليمنى. ولكن أباد بعض جيش البلالي بالحرق والقتل، وأسر البقية، وكان البلالي في عداد القتلى، وانتشر خبر انتصاره، فزاد ملكه ثباتاً وسمعة، وكان الحاكم في الخرطوم آنذاك جعفر باشا مظهر، وفقاً لـكتاب "تاريخ السودان القديم والحديث وجغرافيته".

ملك النمائم يهدد صهره الزبير

لم يمر الأمر بسلام، وإنما اتساع ملك الزبير، تسبب في ضيق ملك النمائم، فأرسل إليه يهدده إن لم يترك الملك، ويعود إلى التجارة. فأَبَى، فقامت بينهما الحرب التي انتهت بانتصار بن رحمة، فضمّ بلاد النمانم، وكان الزريقات قد نقضوا العهد وقطعوا الطريق، فاستنجد عليهم سنة 1873 بسلطان دارفور. لكنها لم ينجده، فقاتلهم وكسرهم وأسر فقيههم عبد الله التعايشي، غير أن العلماء منعوه من قتله.

وعبد الله التعايشي هذا، صار خليفة للمهدي، وحاربه الجيش المصري وفَرَّ من أم درمان، فأدركه الجيش بمكان يسمى "جديد"، في 24 تشرين الثاني/نوفمبر عام 1899، وفتك بمن معه، أما هو وأصحابه فإنهم لما أيقنوا بالهلاك فرشوا فريهم وجلسوا ينتظرون الموت فلم يكن بعيداً منهم بل جاءهم مسرعاً، بحسب بركات.

الخديوي ينعم على الزبير بالرتبة الثانية

يكشف المؤلف داود بركات، أنه "بعد فتح كردفان (إقليم في وسط السودان)، أرسل الزبير إلى إسماعيل باشا أيوب، حكمدار السودان، يطلب منه أن يرسل من يستلم البلاد التي فتحها، فجاءه الرد منه بأن الخديوي أنعم عليه بالرتبة الثانية وبلقب بك، وولَّاه حاكماً على تلك البلاد مقابل أن يدفع جزية سنوية قدرها 15 ألف جنيه، فقبل"، وعمره آنذاك ستة وثلاثون سنة.

يؤكد الزبير: "سفري إلى بحر الغزال كان سبب نجاحي وشهرتي ورفع منزلتي إلى مقام لم ينله أحد في السودان قبلي، وهيهات أن يناله أحد فيه بعدي".

كان ذلك عام 1973، فتولى الزبير أمر البلاد رسمياً، وشرع في تنظيمها وعمرانها، ثم دارت الحرب بينه وبين سلطان دارفور، فأوتي النصر، وأرسل أولاد سلاطين دارفور إلى مصر. ثم حدث خلاف بين حكمدار السودان والزبير، وجاء الأخير إلى مصر سنة 1875.

وهنا يوضح عبد الله حسين في الجزء الثاني من مؤلفه "السودان من التاريخ القديم إلى رحلة البعثة المصرية"، أن الزبير باشا جاء إلى القاهرة، بعد الوشاية به، فمنع من السفر إلى السودان.

مجيء الزبير إلى مصر، كان للتشرف بمقابلة الجناب العالي، وعرض حقيقة الحال عليه، وبالفعل قابله في سراي الجيزة، فرحب بي وهنأه بالسلامة، وانزله في إحدى سرايات العباسية مع عائلته وأتباعه، ورتب له كل ما يحتاج إليه من أكسية ومؤونة.

بعد فترة من وجوده بمصر، أبلغه الخديوي أن يستعد للسفر مرة أخرى إلى السودان، وكان ذلك في رجب 1292، الموافق 3 آب/أغسطس سنة 1875.

الزبير باشا ممنوع من السفر

وفي ذلك يقول الزبير باشا، وفقاً لما نقله نعوم شقير: "مكثت أنتظر صدور الأمر بالسفر حتى كانت غاية رمضان سنة 1293، 19 تشرين الأول/أكتوبر 1869، فدعاني الأمير إلى مقابلته، وقال لي: 'يا زبير باشا قد استصوبت بقاءك في القاهرة في ظل ساحتي حتى أنظر في أمرك'. فأدركت أن ذاك الغرض الذي دعيت لأجله، وتم ما توقعت حدوثه، ولكن لم يكن لي سوى الطاعة، فقلت: 'أمرك يا مولاي، وانصرفت والأسف ملء فؤادي على هذا المصير'".

ظل الزبير باشا رحمة في القاهرة، لكن لما كانت الحرب بين الروس والدولة العلية سنة 1294هـ،1877م، جرى انتدابه إلى مرافقة النجدة المصرية فذهب معها، وأبلى بلاء حسناً، وبعدها بعام عاد إلى مصر، عقب طلب تركيا الصلحَ وإيقاف العمليات الحربية برفع الحصار عن موسكو.

وبينما هو كذلك، ثار ابنه سليمان على الحكومة في السودان، فأرسل غوردون جسي بك لقتاله، فقتل سليمان، خاصة أن الزبير عند قدومه إلى مصر، ترك جيشه بقيادة نجله، فأسأت الحكومة إليه، فاضطر إلى الخروج عن طاعتها.

مقتل ابن الزبير بعد الوشاية بوالده

ويشير الزبير إلى أنه "وشي بي بعض المنافقين، بقولهم إني عند قيامي من داري أوصيت ابني سليمان بالثورة إذا حجزت الحكومة علي في مصر، بل قالوا إني كتبت إليه من مصر أحرضه على الثورة، وكان على السودان إذ ذاك غوردون باشا، فصدق الوشاية وأمر بتصدير أموالي في السودان، وأرسل في طلب ابني سليمان فحاربه في عدة وقائع، فكتبت إلى سليمان بالتسليم إلى الحكومة، وترك الحرب، فسلم إلى جسي، فقتله غدراً".

ولما حضر غوردون إلى مصر سنة 1884، اجتمع به الزبير في بيت اللورد كرومر، المندوب السامي في مصر، بحضور سردار الجيش المصري، ونوبار باشا، رئيس مجلس النظار، فسأله رحمة عن سبب تصدير أمواله، وقتل ابنه سليمان.

يؤكد الزبير: "وجدته (غوردون) مقتنعاً بأني كتبت إلى ابني كتاباً أحرضه فيه على الثورة، فقلت له إذا ظهر هذا الكتاب وأنه مني فإني أقدم نفسي للقتل، وإلا فإني أطالب بدم ابني ورد أموالي إلي، وبالطبع لم يظهر الكتاب". وفي عام 1884 استدعاه غوردون لاستلام البلاد السودانية ليكون حاكماً عليها، فرفض، لأن الإنكليز أهانوه بوصفه أنه نخّاس.

النفي إلى جبل طارق

ويشير مؤلف "السودان المصري ومطامع السياسة البريطانية" إلى أنه في عام 1985، نفي الزبير باشا إلى جبل طارق، بتهمة مراسلة محمد أحمد المهدي، قائد الثورة المهدية في السودان، فظل هناك 30 شهراً، ثم أُفرج عنه، وعينت له الحكومة راتباً شهرياً قدره 289 جنيهاً، تقاضاه حتى وفاته، وكان يطالبها بمبلغ مليون جنيه، تعويضاً عما أنفقه في السودان ومصر في خدمة الحكومة المصرية، وعما فقده هو وابنه سليمان من العساكر والأمتعة والأموال بسببها، وبعد استعادة السودان أعيد إليه كثير من أملاكه.

وفي ذلك يقول الزبير رحمة: "في سنة 1885، عاد المفسدون فوشوا بي بقولهم: إن بيني وبين متمهدي السودان مفاوضات سرية، فهجم رجال البوليس على بيتي ليلاً، وفتشوه لعلهم يعثروا فيه على ما يؤيد تلك الوشاية، فلم يجدوا شيئاً يلقى أقل تهمة، ومع ذلك فقد قبضوا علي وأخذوني إلى جبل طارق فحبسوني 30 شهراً، ثم لما تأكدوا براءتي أطلقوا سراحي وأرجعوني إلى القاهرة في أيلول/سبتمبر 1887".

وهنا لابد من الإشارة إلى أن إسراف الخديوي إسماعيل (1830-1895) تسبب في وقوع مصر تحت طائلة الديون الأجنبية التي انتهت باحتلال مصر من قبل بريطانيا عام 1882، ما ترتب عليه انفصال الأراضي السودانية عن مصر من عام 1885 إلى 1898، عندما قامت الثورة المهدية في الخرطوم، بحسب مؤلف كتاب "مصر والسودان في نظر العلم والتاريخ".

وجه آخر للزّبير

رغم كل ما مر من شجاعة الزبير وعدله، ودخول الكثير من الناس تحت لوائه، إلا أنه كان يميل أحياناً إلى استعمال الشدة والغلظة، ويعترف بذلك في حديثه مع المؤلف نعوم شقير، قائلاً: "كنت أميل في أحكامي إلى استعمال الشفقة على من وليت، إلا أني كنت أضطر في بعض الأحيان إلى استعمال الصرامة، نظراً لقساوة أهل البلاد، فمن جملة ذلك أني كنت أعلق المحكوم عليه بالشنق برجليه ليتدلى إلى أسفل وأتركه بلا أكل ولا شرب حتى يموت".

ولظروف المنفى، أصبح الزبير باشا رحمة، يكتب الشعر، حزيناً على ما لاقاه من ذل بعد العز، يقول: "لما كنت في جبل طارق تذكرت عزي في السودان، وقابلته بذل الحبس، فقلت منشداً:

بعد الأهل والونسة وبعد العزّ والحرسة

بعد انتظام العساكر المؤسسة وبعد فرسان تفس المغصة

انقلب الدهور وانعكسا بحبس الزبير في الأندلسة

يا رب يا خالق الكون، يا مؤسسه، عجّل بالفرج قبل الفسا

نرجع ونشوف عزا مؤسسا، من فضلك يا كريم لا ينقصا".

وبحسب المؤلف نعوم شقير، فإن بعض كتاب الإفرنج وصفوا الزبير باشا، بأنه رجل "تجاري سياسي حربي"، وقال بعضهم: "إنه خُلق ليحكم الناس"، وأظهَرُ صفاته كانت الكرم والنجدة وحب الفخر والسلطة.

بحسب كتاب "مصر والسودان في نظر العلم والتاريخ"، فإن السودان الحديث اكتمل عندما ألحقت سلطنة دارفور به، على يد الزبير باشا رحمة الجموعي، الذي كان قائداً سودانياً في جيش مصر

وعلى الرغم من النفي الذي تعرض له، إلا أنه أثنى على الإنكليز الذين ولوا أمر حراسته في جبل طارق، قائلاً في حديثه مع نعوم شقير: "إن الإكرام الذي لقيته من الإنكليز مدة أسري في جبل طارق أنساني حبسهم لي بلا حق، بل حملني منة لا أنساها أبد الدهر، ولا جلها إذا لقيت إنكليزياً في أقصى الأرض وقد وقع في ضيق أو خطر فديته بنفسي".

اتهام بالتجارة في الرقيق

ولا يفوتنا في هذا المقام أن نشير إلى اتهام يوجه إلى الزبير باشا رحمة، ربما إلى الآن، وهو التجارة في الرقيق، وجاء ذلك انطلاقاً مما ذكر آنفاً، أنه اشترى من ملك النمائم 500 شخص من المحكوم عليهم، ودرّبهم على السلاح، وأخذهم حراساً له.

الزبير باشا ردّ على هذا الاتهام بنفسه؛ نقل ذلك عنه خليفة عباس العبيد، في كتابه المعنون بـ"الزبير باشا يروي قصته في منفاه بجبل طارق"، للكاتبة الصحافية البريطانية فلورا شو، التي التقت بالزبير باشا في منفاه بجبل طارق.

في حديثه مع هذه الكاتبة، نوه الزبير إلى مسألة تجارة الرقيق، قائلاً: "يتحدث الناس عني بأني كنت تاجر رقيق، وهذه فرية أبعد ما تكون عن الحقيقة، وقولٌ ليس بصحيح أبداً، لأني لم أقم إطلاقاً ببيع عبد واحد من الرقيق، إن الذين يقولون ذلك لا يفهمون حقيقة ماذا كان موقفي". متابعاً: "إن ما أريد منك أن تفهميه عني هو إنني كنت تاجراً، وإنني قمت فعلا بشراء عدد كبير من العبيد لأجندهم، ولكني لم أكن تاجر رقيق قط في يوم من الأيام... ربما يظن بي ذلك".

ويتضح من حديث الزبير مع فلورا شو، أنه كان يعادي فكرة تجارة الرقيق، التي كانت منتشرة في بلاده آنذاك؛ إذ يقول: "إن أي رجل دولة يعلم بأنه من المستحيل حكم أي بلد يسمح فيها باقتناص الرقيق، فعليك أن تقمع ذلك أولاً، قبل أن يستقيم أو يستقر لك أي نظام أو صناعة".

في السياق ذاته، خلص صلاح حامد عبد الرحمن، في دراسته المعنونة بـ"الزبير باشا رحمة الزعيم السوداني المفترى عليه"، الصادرة عن جامعة غرب كردفان، إلى أن اتهام الزبير بتجارة الرقيق محض افتراء، قائلاً: "ممارسته لتجارة الرقيق هي محض افتراء من جانب الأوروبيين للإساءة إليه، والزبير باشا كان ملتزماً بتعاليم الإسلام وصبوراً تحمل كل المظالم التي وقعت عليه حتى تم إنصافه أخيراً قبل مماته بقليل".

الزبير باشا يقيم في حلوان

بعد فترة قضاها الزبير في مصر، سمح له بالرجوع إلى بلاده، وأعيدت إليه أملاكه، وبقي في الخرطوم سنتين، شاهد فيهما أهله ودبر أملاكه، ثم عاد إلى حلوان بالقاهرة، حيث ابتنى لنفسه منزلاً فخيماً ليسكن فيه، قبل أن يرحل إلى السودان في 9 آب/أغسطس عام 1912. وتوفي بالخرطوم في صباح يوم 6 كانون الثاني/يناير عام 1913، عن عمر ناهز 82 عاماً.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

‎من يكتب تاريخنا؟

من يسيطر على ماضيه، هو الذي يقود الحاضر ويشكّل المستقبل. لبرهةٍ زمنيّة تمتد كتثاؤبٍ طويل، لم نكن نكتب تاريخنا بأيدينا، بل تمّت كتابته على يد من تغلّب علينا. تاريخٌ مُشوّه، حيك على قياس الحكّام والسّلطة.

وهنا يأتي دور رصيف22، لعكس الضرر الجسيم الذي أُلحق بثقافاتنا وذاكرتنا الجماعية، واسترجاع حقّنا المشروع في كتابة مستقبلنا ومستقبل منطقتنا العربية جمعاء.

Website by WhiteBeard
Popup Image