وُلد أحمد فتحي زغلول، عام 1863، أي بعد ولادة أخيه الأكبر سعد بخمس سنوات. وبرغم أن للزعيم المصري العديد من الإخوة إلا أن أحمد كان شقيقه الوحيد (من الأب والأم).
برغم نشأتهما معاً، إلا أن اختلافاً كبيراً ميّز مسيرة كلّ منهما؛ فسعد الأكبر ارتبط اسمه بزعامة الأمة وقيادة ثورة 1919، أما الآخر فكان على العكس تماماً منه، حليفاً مخلصاً للإنكليز وقاضياً لمحكمة دنشواي التي أهدرت دم الفلاحين إرضاءً للاستعمار.
معاً خلف عرابي
برغم الاختلاف الشاسع الذي لاحق الأخوين زغلول طوال حياتهما، إلا أن نشأتهما لم تكن كذلك أبداً. عانى كل منهما من اليُتم المبكر بسبب رحيل والدهما وهما طفلان. كان سعد حينها قد تجاوز الخامسة بقليل، أما أحمد فبالكاد تجاوز شهره الأول. عاش الصبيّان في كنف عمهما، ثم أُلحق سعد بالأزهر فيما دخل أحمد المدارس الحكومية.
برغم نشأتهما معاً، إلا أن اختلافاً كبيراً ميّز مسيرة كلّ منهما؛ فسَعد الأكبر ارتبط اسمُه بزعامة الأمة وقيادة ثورة 1919، أما الآخر فكان على العكس تماماً منه، حليفاً مخلصاً للإنكليز وقاضياً لمحكمة دنشواي التي أهدرت دمَ الفلاحين إرضاءً للاستعمار
غياب الأب دفع زغلول لمحاولة لعب دور الأخ الأكبر مع أخيه الصغير، فسكنا معاً في غرفة واحدة واهتمَّ برعايته حتى نظر أحمد إلى سعد دائماً باعتباره مثله الأعلى لفترة طويلة من الزمن.
اعتاد الأخوان زغلول حضور صالون الأميرة نازلي فاضل معاً، وتتلمذا على يدي الإمام محمد عبده، وبحسب ما ذكره المؤرخ عبد الرحمن الرافعي في كتابه "الثورة العرابية والاحتلال الإنكليزي"، فإنهما أيّدا الثورة العرابية حتى أن أحمد كان يُلقي الخطب على زملائه في المدرسة بشأن الثورة ويُطالبهم بدعمها، وبسبب هذا الموقف فُصل من المدرسة.
هذا النشاط جعل الأخوين في مرمى انتقادات الشاعر الشهير أحمد شوقي الذي انتقد سعداً وأحمد بشدّة بسبب معارضته القوية لكل "العرابيين".
بعد فشل الثورة وملاحقة سعد، سافر أحمد إلى فرنسا حيث درس القانون. يقول مصطفى أمين في كتابه "من واحد لعشرة": "عاد فتحي من باريس بشخصية مستقلة، ولم يكن على استعداد لأن ينطوي تحت جناح أخيه الأكبر".
حينما قرّر الإمام محمد عبده تأسيس لجنة لرعاية جرحى الجيش في حرب السودان في 1898، اختار صديقه أحمد زغلول ليكون كاتب سرّ هذه اللجنة التي بذلت جهوداً كبيرةً لجمع التبرعات من الأثرياء. في الوقت نفسه كان سعد قد حصل على ليسانس الحقوق لتوّه تتويجاً للمسار الطويل الذي خاضه بين النيابة والقضاء.
تعليقاً على هذه الجهود، كتب الشيخ محمد رشيد رضا في كتابه "تاريخ الشيخ محمد عبده": "أشهد أن أحمد فتحي كان رجلاً كبيراً بمعارفه وذكائه، وأشهد أن سعد زغلول كان كبيراً في ذلك أيضاً، لكنه يسبق أخاه في الإرادة والثبات".
الغرب هو الحلّ
بعد عودته من الخارج، أصبح أحمد زغلول مؤمناً بأن النموذج الغربي هو الأمثل لإعادة مصر إلى المسار الصحيح وطالب في كتاباته بالاقتداء بالنموذج الإنكليزي في إدارة الدولة.
بحسب كتاب أمين، فإن سعداً عارض هذا الاتجاه لإيمانه بأن مصر يجب أن تصنع لنفسها هويتها المستقلة بدلاً من أن تكون صورةً باهتةً للغرب.
لم يتفق الشقيقان هذه المرة، واستغلَّ زغلول الأصغر تفوقه في اللغات لترجمة عدد من الكتب ذات المحتوى الليبرالي، مثل "أصول أصول الشرائع" لجيرمي بنتام، و"سرّ تقدّم الإنكليز السكسونيين" لإدمون ديمولان، و"روح الاجتماع" لغوستاف لوبون، و"العقد الاجتماعي" لجان جاك روسو.
أثارت هذه الترجمات إعجاب أحمد لطفي السيد، حتى أنه ذكرها في مذكراته قائلاً: "فتحي زغلول كان نابغةً في الفقه، نابغةً في الترجمة، أما مترجماته فإنك تقرأ فيها المعاني كأنك تقرأ كاتبها من غير فرق".
كذلك تمتّع أحمد بصداقة كبيرة مع اللورد كرومر، المندوب السامي البريطاني، حتى أن الوطنيين المصريين لجأوا إلى أحمد لإقناع كرومر بالموافقة على إنشاء أول جامعة مصرية. وبحسب ما ورد في كتاب "دور جامعة القاهرة المصرية في بناء مصر الحديثة" لأستاذ الحضارات دونالد مالكولم ريد، فإن كرومر وافق على المقترح بشرط أن يُقام على غرار نموذج جامعة "أليجار" في الهند التي سارت على النهج التعليمي الغربي واتخذت من "كامبريدج" البريطانية مثالاً تسير على خُطاه.
حتى هذه اللحظة لم يُظهر أحمد اختلافاً كبيراً عن نشاط أخيه، فهو داعم للنهج الليبرالي وصُنّف دائماً كأحد مؤيدي المفكر الكبير أحمد لطفي السيد وقاسم أمين وكانا من المقرّبين لأخيه لفترة كبيرة من الزمن، وفقاً لما رواه الدكتور محمد البيومي في كتابه "من أعلام العصر".
عام 1907، شارك أحمد في تأسيس حزب الأمة، وهو الحزب الذي لم يُشارك فيه سعد بشكل مباشر، لكنه حمل الكثير من أفكاره. قدّم الحزب للأمة نفسه كجماعة من كبار المُلاك والمفكرين المتأثرين بثقافة الغرب واتخذ خطّاً مناوئاً لمصطفى كامل وحزبه الوطني ذي الرجعية الإسلامية وصاحب المطالبات المستمرة بإعادة مصر إلى السيادة العثمانية.
سيقود حزب الأمة أحمد إلى خلافه الأول مع أخيه، فقد اتسع دور أحمد فتحي فيه، حتى أن لطفي السيد أسند إليه مهمة تحرير مجلته الرئيسية "الجريدة". أثار هذا الموقف غضب الخديوِي عباس الموالي لمصطفى كامل وحزبه، وبدأ بالإعراب لرجاله عن عدم رضاه عن حزب الأمة، كما ذكر أحمد بهاء الدين في كتابه "أيام لها تاريخ".
في مذكراته، اتهم سعد شقيقه أحمد بأنه زار الخديويِ لاسترضائه وتبرّأ أمامه من الحزب حتى أنه تعهّد له بإفساده من الداخل!
السياسي المصري حسين رشدي باشا، أطلَع سعداً على هذه الواقعة قائلاً له "إن أخاك خانك وأراد أن يفسد عليك أمرك وليست هذه آخر مرة يسيء إليك فيها، يجب أن تلتقي بالخديوي وقايةً لك من شرِّ أخيك"، فردَّ عليه سعد: "إني لا أريد أن أدافع عن نفسي بما يشين أخي، وإن كان هو البادئ بالتعدي، ويؤلمني من هذه السعاية ما اشتملت عليه من الكذب وكونها منقصةً لنا عند الجناب العالي".
بعدها بات سعد حذراً في التعامل مع أخيه، حتى امتنع عن مناقشة أسرار عمله أمامه.
حادث دنشواي
في حزيران/يونيو 1906، وقعت معركة صغيرة بين سرية إنكليزية وبين فلاحين من قرية دنشواي تصدّوا لمحاولة الإنكليز الصيد قُرب ديارهم، أسفرت هذه المعركة عن مقتل جندي وإصابة آخرين. اشتعل غضب اللورد كرومر وقرّر معاقبة الفلاحين بشدّة.
اختار السفير الإنكليزي صديقه فتحي زغلول رئيساً لمحكمة دنشواي التي أقرّت عقوبات صارمةً بحق المتهمين، فأمرت بشنق 4 فلاحين وجلد 4 وسجن 12 آخرين. حينها، كان سعد في أوروبا، ولما بلغته هذه الأنباء غضب ووصفها في برقية بـ"الحادث المشؤوم".
لاحقاً ستُثير هذه العقوبات المبالغ فيها ردود أفعالٍ واسعةً خارج مصر، حتى أنها أجبرت اللورد كرومر على تقديم استقالته، وداخلياً عاش المصريون المتورطون في هذه الجريمة أزمةً كبرى بعدما باتوا محطَّ ازدراء باقي الشعب، وعلى رأسهم أحمد زغلول والمحامي إبراهيم الهلباوي المدّعي العمومي في المحكمة الذي عاش بقية عمره يعتذر عمّا فعل ويتبرأ من وجوده في المحكمة، حتى أنه انخرط في نشاط الحركة الوطنية المصرية.
يقول عبد الوهاب الكيالي، في كتابه "موسوعة السياسة"، إن مصطفى كامل استغلَّ الحادث للهجوم الشديد على فتحي زغلول وهدم مستقبله السياسي.
من ناحية أخرى، لم يتخلَّ الإنكليز عن صديقهم، فكافأوه على دوره في دنشواي عبر تعيينه رئيساً لمحكمة ابتدائية، ثم وكيلاً لوزارة الحقانية، وهي خطوة دعت الشاعر أحمد شوقي للهجوم على كرومر قائلاً: "أم من صيانتك القضاء بمصر أن تأتي بقاضي دنشواي وكيلاً؟".
بمناسبة تعيينه وكيلاً للحقانية، تقرّر إقامة حفل لأحمد زغلول في فندق شبرد لتهنئته على منصبه الجديد. دعا الشاعر أحمد الكاشف لمقاطعة هذا الحفل قائلاً: "إذا ما جمعتم أمركم وهممتم بإهداء شيءٍ للوكيل لعين/لا تكتبوا شيئاً إليه فحسبه من الكتب حُكم خطّه بيمين/ولا تقربوه في 'شبرد' بل اقرأوا على/ملأ من دنشواي حزين".
أشعلت محكمة دنشواي الشقاق بين الأخوين، وتوترت علاقتهما بشدة، وهو ما تطرّق إليه سعد في مذكراته التي أعرب في أكثر من موضع فيها عن طبيعة العلاقة المعقدة التي باتت تجمعه بأخيه بسببها. في أحد المواضع ذكر التالي: "تنوعت أفكاري في شأن فتحي، فتارةً كنت أفكر أنه لم يفعل ما نُسب إليه، فأشفق عليه، وتارةً أفكر أنه فعل ما قيل عنه فأحزن وأغتمّ لوقوعه في هذه السقطة". وفي سياق آخر أكّد: "كلما تصورت أن الناس الذين اتصلت بهم هذه الحادثة يتصورون أن في دمنا الخيانة للأصدقاء، دارت رأسي وخنقني البكاء".
برغم الاختلاف الشاسع الذي لاحق الأخوين زغلول طوال حياتهما، إلا أن نشأتهما لم تكن كذلك أبداً. عانى كل منهما من اليُتم المبكر بسبب رحيل والدهما وهما طفلان
توسع هذا الخلاف في 1910، عقب تعيين سعد وزيراً للحقانية التي يعمل أحمد فيها وكيلاً. يقول أمين: "بدلاً من أن يتعاون الشقيقان اختلفا، واعتقد فتحي زغلول أنه أحقّ من أخيه الأكبر بمنصب وزير العدل، وأنه أكثر علماً وأكفأ"، وهي الوقائع التي تطرّق إليها سعد أيضاً في مذكراته، فقال: "هذا الشخص لديه غيرة شديدة منّي، ويرى أن وجودي مانع له من التقدم، فهو يعمل على إسقاطي لتزول من أمامه عقبة، تطمع نفسه للوزارة ويرى أنه أحقّ بها مني".
وبحسب مذكرات سعد فإن مواجهةً عنيفةً وقعت بين الأخوين، هاجم فيها سعد، أحمد بقوة قائلاً: "الناس باتوا يقولون عليك أشياءً كثيرة، يقولون إنك دساس، وإنك تسيء إلى إخوانك ولا تبالي إلا بفائدتك".
في الواقع فإن أحمد مهما فعل لم يُكن ليُعيَّن وزيراً أبداً، وبحسب ما ذكره المؤرخ صلاح عيسى، في كتابه "حكايات من دفتر الوطن"، فإن حادثة دنشواي قضت على المستقبل الواعد الذي كان ينتظر أحمد زغلول كمُترجم وفقيه قانوني وسياسي بارع حتى أنها أفقدته ثقة أخيه الزعيم الوطني الكبير به وعاش يتجنّبه ويتعامل معه بريبة.
سنوات صعبة لم تطُل كثيراً على أحمد زغلول إذ تُوفي في 1914. يكشف مصطفى أمين أن أحداً "لم يشعر بالخلاف بين الشقيقين، وبقي محصوراً بينهما إلى أن مات فتحي زغلول، عندئذٍ بكاه سعد زغلول كما لم يبكِه أحد".
بكَى سعد أخاه لكن أحداً من المصريين لم يشاركه هذا البكاء. يقول صلاح عيسى: "لم يغفر لأحمد ما فعله يوم دنشواي، لم يغفر له أنه شقيق سعد زغلول، حتى أن ذكراه كانت تمرُّ في عزّ سُلطة سعد دون أن يدعو أحد للاحتفال بها".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه