شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
المنصور بن أبي عامر… قائد استثنائي استلهم من الأحلام و

المنصور بن أبي عامر… قائد استثنائي استلهم من الأحلام و"الهليون" في انتصاراته

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتاريخ

الأربعاء 17 يوليو 202412:17 م

من يُرد الانتصار، عليه أن يستدعيه عقلياً وروحياً، وعليه أن يملأ به حياته ويعيش به آماله، فلا ينتصر غير ذي خيال، وذي حلم. أما هؤلاء المثبّطون الذين يرون أنفسهم صغاراً ضعفاء، فسيظلون على وضعهم لن تُتعتعهم قوة، ولن يبرحوا ضعفهم إلا إلى ضعف.

لدى كل منتصر عبر التاريخ حُلم بالنصر راوده، ورآه متجسداً أمامه، ومدّ يده ليناله. دائماً يبدأ النصر من حُلم يراود المُنتصر في يقظته قبل نومه، وقد لعبت الأحلام دوراً كبيراً في حركة التاريخ، فكانت من حيث لا يدري أبطالها توجّه دفة التاريخ، لتكون نقطة التقاء الميثولوجيا بالأحداث التاريخية على أرض الواقع.

يضرب القائد الأندلسي المنصور محمد بن أبي عامر، نموذجاً في استدعاء النصر، وتحضيره ولو بنبات الهليون، وهو سلوك غير بعيد عن تاريخ الأندلس الذي ينفرد بخصوصية تجربته، وكأن كل حكاية فيه جزء من كتاب خيالي، تمتزج فيه الأسطورة بالأحداث.

تاريخ ممتلئ بالمعارك

منذ اللحظة الأولى لدخول المسلمين إلى الأندلس، وحتى آخر لحظات حكمهم تلك البلاد، لم تكن تهدأ المعارك حتى تشتعل، سواء بينهم وبين الممالك المسيحية الأوروبية، أو حتى في ما بينهم؛ فكأنها كانت سمة عصرهم.

يضرب القائد الأندلسي المنصور محمد بن أبي عامر، نموذجاً في استدعاء النصر وتحضيره ولو بنبات الهليون، وهو سلوك غير بعيد عن تاريخ الأندلس الذي ينفرد بخصوصية تجربته، وكأن كل حكاية فيه جزء من كتاب خيالي، تمتزج فيه الأسطورة بالأحداث

وبرغم ذلك فقد نجحوا في تأسيس حضارة تُعدّ نموذجاً فريداً في التقدم العلمي والفكري والفلسفي، وكذلك في التسامح وتقبّل الآخر، لم يتكرر كثيراً عبر التاريخ.

معظم معارك العصور الوسطى، لم تكن تمرّ دون أن تُضفَى عليها صبغة من القداسة أو العظمة والإثارة. هكذا أحبّ صانعو تلك الحقبة أن يُروى تاريخهم.

المنصور محمد بن أبي عامر

في كتابه "الكهانة العربية قبل الإسلام"، يروي توفيق فهد، عن ابن الأثير، روايته حلماً منسوباً إلى محمد بن أبي عامر المُلقّب بـ"المنصور"، وكان حاجب الخليفة الأُموي هشام المؤيد بالله، لكنه لم يكن مجرد حاجب، فقد كان الحاكم الحقيقي والرجل القوي في الدولة.

للرجل قصص كثيرة، فقد طغى طموحه على شبه الجزيرة الأيبيرية ومن بعده أسرته لعقود عدة، فقد أصبح الوصيّ على الخليفة هشام الثاني، الذي كان يبلغ 12 عاماً عندما توفي أبوه الخليفة الحكم المستنصر بالله.

يقول عنه صاحب "سير أعلام النبلاء"، شمس الدين الذهبي، إنه كان "من رجال الدهر رأياً وحزماً ودهاءً وشجاعةً وإقداماً"، ويصفه بقوله إنه "طلب العلم، والأدب، ورأس، وترقّى، وساعدته المقادير، واستمال الأمراء والجيش بالأموال، ودانت لهيبته الرجال، وتلقب بالمنصور، واتخذ الوزراء لنفسه، وبقي المؤيد معه صورة بلا معنى؛ لأن المؤيد كان أخرق، ضعيف الرأي، وكان للمنصور نكاية عظيمة في الفرنج، وله مجلس في الأسبوع، يجتمع إليه فيه الفضلاء للمناظرة، فيُكرمهم، ويحترمهم، ويصلهم، ويجيز الشعراء. افتتح عدة أماكن، وملا الأندلس سبياً وغنائم، حتى بيعت بنتُ عظيم من عظماء الروم ذات حسن وجمال بعشرين ديناراً، وكان إذا فرغ من قتال العدو، نفض ما عليه من غبار المصاف، ثم يجمعه، ويحتفظ به، فلما احتضرَ، أمَرَ بما اجتمع له من ذلك بأن يُذرّ على كفنه، وغزا نيفاً وخمسين غزوة، وتوفي مبطوناً شهيداً وهو بأقصى الثغر، بقرب مدينة سالم، سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة".

ليس لما سبق فقط يصلح المنصور بن أبي عامر أن يكون بطلاً من أبطال أساطير العصور الوسطى، فذلك القائد الذي هيمن على الخلافة الأموية في الأندلس، وهدد الوجود السياسي المسيحي في شبه الجزيرة الأيبيرية، ينتسب إلى قبيلة المعافرة، إحدى قبائل اليمن. دخل جدّه عبد الملك بن عامر الأندلس، في جند طارق بن زياد، وأقام بعد الفتح في الجزيرة الخضراء.

استطاع المنصور كسب ثقة أم الخليفة صبح البشكنجية أو البشكنسية (نسبةً إلى بلاد البشكنس أو الباسك في إسبانيا)، وتردد في عدد من المصادر أنه كان على علاقة بها، من دون دليل واضح سوى التحليل، إذ ذُكر أنه كان يتفنن في جلب الهدايا النفيسة لها، وكانت "صُبح" أو "أورورا" جاريةً لدى الخليفة، وأنجبا ولدين: عبد الرحمن الذي توفي طفلاً، وهشاماً الذي صار خليفةً في طفولته.

القائد الذي حارب في 57 غزوةً، لم يُهزم في أي منها، فقد كُتب على ضريحه في مدينة سالم الإسبانية، حيث توفي ودُفن:

"آثاره تُنبيك عن أخبارِهِ... حتى كأنك بالعيانِ تراهُ

تالله لا يأتي الزمانُ بمثلِهِ... أبداً ولا يحمي الثغورَ سواهُ".

كأن الشاعر، كما يقول الباحث محمد إلهامي، كان ذا نظر ثاقب، فما هي إلا سنوات سبع بعد موت المنصور بن أبي عامر حتى بدأت رحلة انحدار الأندلس من القمة، ولم يتكرر المنصور منذ ذلك الوقت وحتى هذه اللحظة.

يتحدث عنه كارلوس دومينغيز، في مقال له بعنوان "Almanzor against the Christian Kingdoms.. Leader of the Jihad" (المنصور في مواجهة الممالك المسيحية... قائد الجهاد"، فيقول إنه خاض حملات عسكريةً ضد الحصون والبلدات المسيحية لأكثر من عقدين، معتمداً على قوات أمازيغية من شمال إفريقيا، ولم يسبق لحملته مثيل من حيث نطاق ودرجة الدمار الذي ألحقه بالممالك المسيحية وأمرائها ومعنوياتها.

قبائل صنهاجة... سيف المنصور

في الوقت الذي كان فيه المنصور منشغلاً في السيطرة على أمور الحكم، وإبعاد الممالك المسيحية، كانت هناك خلافات بين بعض أبناء قبائل صنهاجة الأمازيغية على الشاطئ الإفريقي، فبحسب ما روى ابن الأثير، في كتابه "الكامل في التاريخ"، وقع خلاف بين أولاد زيري بن مناد، وهم زاوي وجلالة وماكسن إخوة بلكين، مع أخيهم حماد، كجزء من صراعات النفوذ في البلاد، وعندما غلبهم أخوهم حماد، توجهوا إلى طنجة ومنها عبروا البحر إلى قرطبة، وهناك "أنزلهم محمد بن أبي عامر، وسُرّ بهم وأجرى عليهم الوظائف وأكرمهم وسألهم عن سبب انتقالهم فأخبروه، وقالوا له إنما اخترناك على غيرك، وأحببنا أن نكون معك نُجاهد في سبيل الله، فاستحسن ذلك منهم ووعدهم ووصلهم فأقاموا أياماً"، ويبدو أن المنصور رأي فيهم صورةً لانتصاراته القادمة على أيديهم، فأحسن ضيافتهم كجزء من استدعائه الانتصار.

معظم معارك العصور الوسطى، لم تكن تمرّ دون أن تُضفَى عليها صبغة من القداسة أو العظمة والإثارة. هكذا أحب صانعو تلك الحقبة أن يُروى تاريخهم.

ويُكمل ابن الأثير: "ثم دخلوا عليه وسألوه إتمام ما وعدهم به من الغزو، فقال انظروا ما أردتم من الجند نعطِكم، فقالوا ما يدخل معنا بلاد العدو غيرنا إلا الذين معنا من بني عمّنا وصنهاجة وموالينا فأعطِهم الخيل والسلاح والأموال وابعث معهم دليلاً".

ويستفيض ابن الأثير في حديثه عن مقاتلي صنهاجة الذين أتوا من بلادهم بهدف الجهاد والغزو، لا لشيء آخر، والذين تحولوا إلى قوّة باطشة في يد المنصور بن أبي عامر، أتته من حيث لم يحتسب، لكنه نجح في إدارتها واستدعى بها انتصاراته، وحقق بهم مآربه في شن موجة كبيرة من الغزوات ضد الممالك المسيحية في شمال شبه الجزيرة الأيبيرية.

كانت أخبار شجاعة مقاتلي صنهاجة تنتشر بين الجيوش المسيحية قبل وصولها إلى المسلمين، وكانت بداية غزواتهم على مملكة جليقية أو غاليسيا الواقعة في أقصى شمال غرب شبه الجزيرة الأيبيرية، وهو المكان الأكثر تحصيناً وبُعداً بين الممالك المسيحية الأخرى.

كانت غارتهم على جليقية غير مسبوقة. قال عنهم فيها ابن الأثير: "قتلوا خلقاً كثيراً وغنموا دوابهم وسلاحهم وعادوا إلى قرطبة فعظم ذلك"، ومنذ ذلك الحين وثق بهم المنصور، وأحسن إليهم وجعلهم بطانته.

ويقول ابن الأثير إنه "لما رأى أهل الأندلس فعلَ صنهاجة حسدوهم ورغبوا في الجهاد، وقالوا للمنصور بن أبي عامر لقد نشطنا هؤلاء للغزوِ، فجمع الجيوش الكثيرة من سائر الأقطار للخروج إلى الجهاد".

نبات الهليون ومعركة ليون

تقول الأسطورة إن المنصور اكتسب شهرةً واسعةً في كل الأندلس بسبب حملاته العسكرية المستمرة ضد الإسبان. وفي عام 983م، جمع جيشاً عظيماً للقيام بحملة كبيرة على مدينة ليون الإسبانية، عاصمة مملكة ليون الصليبية، كان السبب فيها رؤية رآها في منامه، ولا يبدو أن المسألة هنا مُجرد أضغاث أحلام، فقد كان الرجل يعيش أحلامه في اليقظة والمنام، حتى يُحققها.

ففي ظل ما سبق من قدوم قبائل صنهاجة، وما ذكره ابن الأثير من تحمس الأندلسيين للجهاد، جمع المنصور الجيوشَ، وعندئذ تحدث ابن الأثير عن تفاصيل المنام الذي رآه، إذ رأى في منامه رجلاً يعطيه نبات الإسبراج، فأخذه من يده وأكل منه، وفي تفسير المنام نصحه الشيخُ ابن أبي جمعة، بالخروج إلى ليون، قائلاً له بحسب ما نقل ابن الأثير: "فإنك ستفتحها"، وعندما سأله المنصور من أين أتيت بتفسيرك، قال له من نبات الإسبراج، الذي يُقال له في المشرق "الهليون"، فملك الرؤيا قال لك: "ها ليون"، أي ها هي ليون، خُذْها.

 انتصار المنصور في ليون، والذي بدأ بمنام يتحدث عن نبات الهليون، كان نتيجةً لاستدعاء فكرة الانتصار، وليس مجرّد تأويل لرؤيا، وإنما كان تحقيقاً لحلم استحضره المُنتصر في عقله وملأ به نفسه

والمدقق في المنام يجد أنه بسيط للغاية، ومجرد سطر يحكي عن مقابلة قصيرة بين القائد ورجل لقّبه الشيخ ابن أبي جمعة، بملك الرؤيا، وأعطاه نباتاً تعددت أسماؤه بين المغرب والمشرق العربيَين، بين "الإسبراج، وكشك الماز، واليرامع، وسكوم، وجربوة، وحليون، وأخيراً الهليون". مجرد نبات معمّر مزهر يتبع للفصيلة الزنبقية، بحسب ويكيبيديا، ويُستخدم في علاج التهابات المسالك البولية والكليتين، والمثانة من الحصوة والترسبات، ويُستعمل لإدرار البول وتنقية الرواسب من المثانة، كما يُحفّز نمو الشعر ويُساعد على تقويته.

وقال عنه أبو بكر الرازي: "يُدفئ الكلى والمثانة ويفيد جنسياً للعجائز ذوي الطبيعة الباردة ومفيد لأمراض الرئة والفخذ".

فليس للأمر دخل بالعدو أو الغزو، لكن ابن أبي جمعة كان يعرف ما يدور في قصر المنصور، وبين حاشيته، ويرى استعداداته المتواصلة للقتال، كما سمع بما فعله رجال صنهاجة في جليقية، وربما لفّق للمنصور قصة الهليون وربطه بمدينة ليون، لعلمه المسبق برغبة القائد في تلك الغزوة.

كانت مدينة ليون الواقعة في الشمال الغربي لشبه الجزيرة الأيبيرية، حصناً منيعاً يتحصن فيه الإسبان الصليبيون، ويتخذونه ملاذاً إلى حين الانقضاض على المدن الأخرى الواقعة تحت السيطرة الإسلامية، في ما يُعرف عندهم بـ"حروب الاسترداد"، التي أدت في ما بعد إلى ما يسميه المسلمون "سقوط الأندلس".

وبالفعل تجهّز المنصور برجاله وعتاده، وشنّ حملةً ناجحةً على المدينة، التي كانت لفترة طويلة عاصمةً لأكثر من دولة مسيحية لقرون عدة، وكانت لها رمزيتها في شبه الجزيرة.

وعن المعركة يقول ابن الأثير: "فخرج إليها ونازلها وهي من أعظم مدائنهم، واستمدّ أهلها الفرنج، فأمدهم بجيوش كثيرة، واقتتلوا ليلاً ونهاراً، فكثر القتل فيهم، وصبرت صنهاجة صبراً عظيماً، ثم خرج قائد كبير من الفرنج لم يكن لهم مثله فجال بين الصفوف، وطلب المبارزة، فبرز إليه جلالة بن زيري الصنهاجي، فحمل كلّ واحد منهم على صاحبه فطعنه الفرنجي، فمال عن الطعنة وضربه بالسيف على عاتقيه، فأبان عاتقه فسقط الفرنجي على الأرض وحمل المسلمون على النصارى، فانهزموا إلى بلادهم، فقتل منهم ما لا يحصى وملك المدينة، وغنم ابن أبي عامر غنيمةً لم يرَ مثلها، واجتمع من السبي ثلاثون ألفاً، وأمر بالقتلى فنضدت بعضها على بعض، وأمر مؤذناً، فأذّن فوق القتلى المغرب وخرّب مدينة قامونة ورجع سالماً هو وعساكره".

وهكذا فإن انتصار المنصور في ليون، والذي بدأ بمنام يتحدث عن نبات الهليون، كان نتيجةً لاستدعاء فكرة الانتصار، وليس مجرّد تأويل لرؤيا، وإنما كان تحقيقاً لحلم استحضره المُنتصر في عقله وملأ به نفسه، واستعدّ له بالفعل، قبل أن يراه في يقظته ربما قبل منامه، حتى حققه على أرض الواقع.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel

ماضينا كما يُقدَّم لنا ليس أحداثاً وَقَعَت في زمنٍ انقضى، بل هو مجموعة عناصر تجمّعت من أزمنة فائتة ولا تزال حيّةًً وتتحكم بحاضرنا وتعيقنا أحياناً عن التطلّع إلى مستقبل مختلف. نسعى باستمرار، كأكبر مؤسسة إعلامية مستقلة في المنطقة، إلى كسر حلقة هيمنة الأسلاف وتقديم تاريخنا وتراثنا بعين لا تخاف من نقد ما اختُلِق من روايات و"وقائع". لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. ساعدونا. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard
Popup Image