شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!

"شحاد ومشارط؟"... كابوس الولادة في مشفى حكومي في فلسطين

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والنساء

الجمعة 31 يناير 202502:07 م


لوغو مش ع الهامش


لم يخطر ببالي من قبل أن أكتب عن تجربة الولادة في مستشفى حكومي في رام الله تابع لمؤسسات السلطة الوطنية الفلسطينية، إلا أن مرور وقت كاف عن التجربة جعلني أستحضرها بكل تفاصيلها، وصار بوسعي أن أرويها كتجربة قاسية تحدث مع النساء اللواتي لا يمتلكن تأميناً صحياً في مشفى خاص، أو ليس بوسعهنّ تحمّل تكلفة الولادة في المشافي الخاصة أو الأهلية.

كيف لهذا أن يحدث؟

لم يكن يوم ولادة ابنتي الثانية يوماً للاسترخاء ومحاولة البدء في رحلة التعافي اللازمة بعد الولادة، كان يوماً للتشنّج والقلق والارتباك، فما إن خرجتُ من غرفة الإنعاش بعد الولادة مباشرة حتى وجدت نفسي في مهجع مليء بالنساء اللواتي أنجبن للتو.

أدخلتني الممرضة إلى غرفة فيها ما يزيد عن ثماني نساء أنجبن للتو، كل واحدة منهنّ يرافقها عدد من أفراد أسرتها، وتفصل بين سريرها والسرير المجاور لها ستارة خفيفة يفتحها كل من يدخل باحثاً عن إحدانا.

"دخلت الممرضة المكفهرّة والتي لا تطيق نفسها ولا تبتسم ولا تتعاطف ولا تحاول أن تفهم شكوى أو طلب امرأة مثلها، ومع ذلك كررت عليها طلبي بأن أذهب إلى الحمام لأضع فوطة صحية وأبدّل ملابسي وأغسل جسدي من آثار العملية القيصرية، إلا أنها أجابتني على عجل وبدون أدنى شعور بي: "ما بتقدري تتحركي قبل ثماني ساعات من الولادة"

مرت دقائق طويلة عليّ وأنا أحاول استيعاب ما يحدث حولي ومعي، حاولت جاهدة ألا تظهر مشاعري على وجهي، إلا أن أسئلة كثيرة ظلت تتقافز في رأسي، أهمها: كيف لهذا أن يحدث؟

في تلك الأثناء كان معي زوجي ووالدته وابنتي الأولى وبعض صديقاتي، ولم يستطع أي منهم أن يلتقط الخوف الذي يحاصرني، وأحد لم ينتبه لما يدور في رأسي وأنا مستلقية في زاوية "المهجع"، كما يسمونه،، أسمع الأصوات العالية والكثيرة والمتداخلة في الغرفة، وأنظر إلى سلة المهملات المليئة بمخلفات السيدة التي نامت قبلي على السرير، وأتفحص شكل الجدران البالية والبشعة والتي تمرر شعوراً بالبؤس لمن يدقق النظر فيها.

بعد انقضاء دقائق الذهول والشعور برغبة كبيرة بأن أختفي أنا ومن حولي فوراً وإلى الأبد، بدأت أشعر بأن الدم يتسرّب من جسدي، وانتبهت إلى أن السرير والغطاء ملطخين بالدم من آثار الولادة ومن الحيض بعدها. صار قلبي يخفق بسرعة وحاولت إخفاء الأمر عمّن حولي لأني شعرت بالحرج الكبير، لكن لم يكن باستطاعتي فعل أي شيء سوى أن أطلب من الممرضة القدوم.

دخلت الممرضة المكفهرّة والتي لا تطيق نفسها ولا تبتسم ولا تتعاطف ولا تحاول أن تفهم شكوى أو طلب امرأة مثلها، ومع ذلك كررت عليها طلبي بأن أذهب إلى الحمام لأضع فوطة صحية وأبدّل ملابسي وأغسل جسدي من آثار العملية القيصرية، إلا أنها أجابتني على عجل وبدون أدنى شعور بي: "ما بتقدري تتحركي قبل ثماني ساعات من الولادة".

أليس بالإمكان أن نغير السيناريو؟

للحظات بسيطة وسط تلك المهزلة ابتسمت. تخيّلت لو أني بين أناس يفهمون ما تحتاج إليه المرأة بعد الولادة وفي أولى لحظات النفاس؛ حصلت على الكثير من الأحضان والتربيت والشكر والطمأنينة ممن حولي، وشعرت بالامتنان تجاه الممرضة التي تقبّلت طلباتي وتفهّمتْها وابتسمت لي وهي تغادر، ونمت لساعة كاملة بعمق، وانخفضت نسبة شعوري بالألم، وسألني طاقم التمريض فيما لو كنت قادرة على الاعتناء بابنتي في نفس الغرفة أم أفضل أن تبقى معهم. وكان كل ما أنظر إليه يبعث الشعور بالراحة والأمل. أودّ حقاً لو أكمل هذا السيناريو إلا أن صوتاً من هنا أو هناك قطع ذلك الحلم الجميل.

للحظات بسيطة وسط تلك المهزلة ابتسمت. تخيّلت لو أني بين أناس يفهمون ما تحتاج إليه المرأة بعد الولادة وفي أولى لحظات النفاس

في الواقع لم أجد مناصرة في تلك اللحظة ممن حولي، لقد كانوا منشغلين بالطفلة الصغيرة، و يحاولون أن يشاركوني الحديث عن تفاصيلها وملامحها وما إلى ذلك. لكني كنت أشعر بالتقزز من نفسي، وأفكر في الحل، إلى أن جاءت صديقة لي تفهم ما تحتاجه امرأة خرجت للتو من الولادة، وتعرفني جيداً ولا يخفى عنها ما يدور في رأسي، فطلبت من الجميع الابتعاد عني قليلاً وقادتني إلى الحمام كي أغتسل وأرتدي ملابس مناسبة تمنع أي تسريب للدم. ثم صرخت في كل الممرضات وطلبت منهنّ تبديل الأغطية عن السرير بأخرى نظيفة، وظلت بجانبي إلى أن نُقلت سريعاً (بسبب إصرارها) إلى غرفة ثانية تشاركني فيها امرأة واحدة فقط.

كابوس الليلة الأولى

مرت الليلة الأولى ككابوس غبي متوقع، لأن ما حدث لم يكن مفاجئاً بالنسبة لي، لكن المرء يعتقد بقوته على التحمّل أكثر من الحقيقة بكثير، إذ قبل أن ألد كان كل ما يهمني أن أجري العملية وأخرج أنا وطفلتي ولا يهم ما سيحدث بعد خروجي من غرفة العمليات، لكني لم أتسامح مع الإهمال المتوقّع في المشافي الحكومية.

حين جاء وقت العشاء، وصلت لي صينية شكلها سيء فيها نصف رغيف خبز، وصحن حمّص صغير، وصحن لبنة. نظرت إلى الصينية بالكثير من السخرية ثم بالاحتقار ورغم ذلك تناولتها لأن شعوري بالجوع كان يسيطر عليّ. وفي اليوم التالي صباحاً جاءت الصينية ذاتها بنفس المكونات. رفضت تناولها، وفتحت إحدى علب الشوكولاتة التي وصلتني، وأكلت أكثر من نصفها من شدة الجوع والغضب، وكان كل ما يدور في رأسي هو كيف بوسعي أن أوقف هذه المهزلة في أسرع وقت ممكن؟

"شحاد ومشارط"؟

المستشفيات الحكومية تحمل قصصاً أسوأ من قصتي بكثير، وقد يعاني المريض/ة من منظومة صحية رديئة وظالمة بكل من فيها، بدءاً من الطبيب/ة مروراً بالممرضات/ين ووصولاً إلى العاملين/ات في كافة الأقسام والمجالات.

للأسف وفي الكثير من الأحيان، يتم إهمال المرضى ورعايتهم بعد تقديم الإجراء الطبي اللازم، فقد نبهني خلال الحمل، الطبيبُ الذي أجرى لي عملية الولادة أن ليس عليّ أن أتوقع خدمة جيدة بعد الولادة. وأذكر أنه استخدم جملة "ما في فندقة بالمستشفى" ويقصد بها خدمات فندقية، وأنا لم أكن أتوقع أو أطالب بذلك، لكنّ هناك حدّاً أدنى على القطاع الصحي توفيرُه.

قد تشعر الحامل بالقهر وكأنها تطلب ما ليس من حقها، لأنه وبحسب نظر أصحاب القرار: "شحاد ومشارط؟ منيح اللي لقيتي حد يولّدك ببلاش وتطلعي بصحة وعافية"

إن بعض من يلجأ للقطاع العام لأغراض الطبابة، يتعرض لتجربة مخيبة للآمال تشعره بالذنب جراء اتخاذه قراراً بالمجيء إلى أماكن العلاج المجاني التي تمنحها الدولة كـ"حق" لكل مواطنيها.

قد تشعر الحامل بالقهر وكأنها تطلب ما ليس من حقها لأنه وبحسب نظر أصحاب القرار: "شحاد ومشارط؟ منيح اللي لقيتي حد يولدّك ببلاش وتطلعي بصحة وعافية".

لا أعرف ما هي الأسباب التي تعيق وزارة الصحة الفلسطينية عن تحسين جودة خدمات المشافي الحكومية، ولا أعرف حقاً إن كان هناك فرق في تكلفة وجبة الإفطار أو الغداء أو العشاء التي تقدم لنساء أنجبن للتو لو كانت تناسب احتياج أجسادهنّ لطعام مليّن للأمعاء وخفيف على المعدة، كالشوربات والخضار المسلوقة.

إنه كابوس الولادة "ببلاش" ولا أعرف كيف تحول الحق لشيء آخر "ببلاش"، لكنه كابوس عصي على النسيان طاردني وسيطارد كثيرات غيري.

كل ما في الأمر أن الولادة ما زالت تُعامل كتجربة بسيطة تقوم فيها كل الثدييات، لا أحد يحب أن تخوض النساء في الحديث عن جانبها الذي يتمثل في الخوف والقلق وقلة الدعم أو الحب الممنوح للمرأة بعد الولادة، وفي إهمال كافة التفاصيل البسيطة والفارقة في أثرها على نفسية الأمهات. ليست تجربة بسيطة وكل من يعتقد ذلك لم يعط نفسه المجال للتأمل وفهم ما حدث داخل جسد المرأة وما يحدث خارجه.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image