شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
الغلطة

الغلطة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الأربعاء 26 يونيو 202409:12 ص

يُنشر هذا النصّ ضمن "لنتخيّل"، وهو ملفّ مفتوح يضم نصوصاً، مدوّنات، قصصاً، مقابلات وتقارير صحافيةً نتخيّل من خلالها المستقبل الذي نوّد أن نعيش فيه، أو ذلك الذي سيُفرض علينا.

بحَث بعينين متلهفتَين عن أي طفل آخر في محطة القطار، لكنه لم يعثر على أحد، فأخذ يجرّ "مرمر" وراءه محاولاً إخفاء جسدها الصغير خلف جسده، أو وراء الحقيبة. لكنها كانت تواصل الإفلات منه، محتجّةً بأصواتها الطفولية، وكان يتمنى أن تطغى على ضجيجها أصوات القطارات. لم تفلح محاولاته لإخفائها في تجنب بعض نظرات المسافرين الغاضبة والمشمئزّة، وخيّل إليه أن سيدةً صارمةً في منتصف العمر قد بصقت نحوهما بلا صوت، وهي تدير وجهها إلى الناحية الأخرى. وحين جلسا أخيراً على أحد المقاعد الرخامية الخالية، أخذ يداعب صغيرته قائلاً لها بصوت مسموع:

- تعالي يا غلطة حياتي… بس يا غلطة.

ولم تفلح محاولات التبرؤ البائسة تلك في تفادي المزيد من نظرات الاستياء.

لقد نفدت مبررات من ينجبون، ولم يعد أيّ منها يجدي نفعاً. حتى حضانات الأطفال أغلقت أبوابها لقلة مرتاديها أو خوفاً من الاحتقار العام. فبعد أعوام من اليأس الشامل، تمددت قناعة ترى أن المقاومة الوحيدة هي عدم الإنجاب، ونشأ اتفاق سرّي يعدّ التكاثر دليلاً على تأييد الأوضاع السياسية، أو على الأقل الرضا بها.

في ظل ذلك، صار يوضح في كل مناسبة أن "مرمر" جاءت كغلطة، سواء كان يجالس المعارف أو حتى يحدّث عابرين في شارع أو جالسين في مطعم. غير أنه كان كالصارخ ببراءته في قفص المحكمة، يردد حجة جميع المخطئين نفسها، وهم -لسوء حظه- أصبحوا قلةً.

كان أحياناً -أقلّ فأقلّ- يقابل بعض نظرائه وهم يسيرون في الشوارع مسرعين وخافضين رؤوسهم، يدفعون عربات أطفالهم في صمت فوق الأرصفة أو يجرّونهم من أذرعهم الصغيرة بوجوه مكفهرة. وعلى الرغم من أنهم عُدّوا منافقين، إلا أنهم لم ينالوا أي ميزة رسمية، وعُدّ ذلك التجاهل الرسمي لهم دليلاً إضافياً -من القدر- على خطيئتهم.

لقد نفدت مبررات من ينجبون، ولم يعد أيّ منها يجدي نفعاً. حتى حضانات الأطفال أغلقت أبوابها لقلة مرتاديها أو خوفاً من الاحتقار العام

"أنا حامل"

لم يظهر في ذلك اليوم أي "خطّاء" غيره في المحطة، وتسلقت "مرمر" ركبتيه، وصارت تداعب وجهه، فأفشلت آخر محاولات إخفائها. واقترب القطار فحوّل نظره إليه، غير أنها لم تلتفت وبقيت تحاول جذب نظارتيه، حتى توقف القطار فانتبهت إليه.

صعدا إلى العربة نصف المزدحمة، واتجه بمرمر إلى مقعد أخذ يبتعد عنه الركاب ليتركوهما جالسَين وحدهما، كما كانا على الرصيف، ومن النافذة رأى قطاراً آخر يسير في الاتجاه العكسي، وقطاراً أخيراً يمر أعلاهما. قال لنفسه مستعيراً أسلوب بونابرت: "ها هي مئة عام من القطارات الكهربائية تنظر إلينا من كل مكان". قطارات تكوّن سماءً إضافيةً محملةً بركاب ذوي هرم سكاني مقلوب. قطارات هادئة تفيض بحكمة الشيوخ وهموم الذين في منتصف العمر. هي هموم كان راضياً بها لسنوات في نطاق الاعتياد حتى جاء اليوم الذي صعقته فيه "كارمن" بالخبر:

- أنا حامل!

سمعها كصوت قادم من تلفاز ما قبل التاريخ. صوت من زمن الأبيض والأسود والإشارات المشوشة. لم يتذكر أنه سمع مثل هذا النبأ في عائلته. نشأ كآخر عنقود الأسرة، وخاض أول شبابه مع بداية موجة رفض الإنجاب التي اندلعت في الذكرى الثمانين لثورة يناير، وترسخت خلال العقدين التاليين.

- حامل؟!!

أومأت برأسها إيجاباً.

فتح فمه ليتكلم ثم أغلقه. أطفأ الهواتف وشغّل التلفاز فاندلعت الأشباح تمرح على جدار الصالة العريض. رفع درجة الصوت، وجذب "كارمن" إلى جواره وتكلم في أذنها:

- منذ متى؟

توقّع أن تقول منذ شهر على الأكثر، فلطمته بالإجابة:

- في الشهر الثالث!

ارتفع الغضب داخله كقنبلة حموضة مفاجئة، وكموجة بركانية، وندم في جزء من الثانية على أنه اعتمد عليها في هذا الأمر. في الواقع لم يخطر بباله أن "كارمن"، اللاإنجابية الأولى، عدوّة الأطفال، كارهة المستقبل، ويتيمة الأبوين، يمكن أن "تتورط" في الحمل، واحمرّت وجنتاه وأصابه شيء من دوار وهو يتخيل ذيوع الخبر بين معارفه، وهاجمه خوف مصدره جهله بأي شيء عن الأطفال. ثم تكلم بما أطفأ الهواتف من أجله:

- سنجهض الطفل طبعاً!

قالها وسكت.

ارتفع الغضب داخله كقنبلة حموضة مفاجئة، وكموجة بركانية، وندم في جزء من الثانية على أنه اعتمد عليها في هذا الأمر. في الواقع لم يخطر بباله أن "كارمن"، اللاإنجابية الأولى، عدوّة الأطفال، كارهة المستقبل، ويتيمة الأبوين، يمكن أن "تتورط" في الحمل

اللاإنجابية ورغبة السلطات

الحكومة لم تبدُ مشغولةً بمكافحة موجة اللاإنجاب؛ لم تعاقب اللاإنجابيين ولم تكافىء الإنجابيين، وفق تفسيرات متعددة رأت توافق عدمية اللاإنجابيين مع رغبة السلطات في التحرر من مسؤولية توفير موارد جديدة، إلا أنها برغم ذلك، حاربت الإجهاض بكل وسيلة، وهددت مرتكبيه، وضيّقت على وسائل منع الحمل، وفسّر البعض ذلك بارتفاع الميول الحكومية المحافظة التي توّجت بعودة الملكية قبل 6 سنوات من مئوية انتفاضة التحرير، أو بالرغبة-الأمنية في وضع العراقيل "حتى أمام العدمية"، أو بقرب انقلاب المتوسط العمري للمجتمع -على الطريقة الأوروبية- بعد نحو عقدين من تفشي اللاإنجابية، مما يهدد بصعوبة توفير الأيدي العاملة للمشاريع الجديدة. لكن الليلة الصادمة التي أخبرته فيها "كارمن" بحملها، الليلة التي مرت عليها الآن ثلاث سنوات وعشرة أشهر، لم تكن مكرسةً لنقاش كل ذلك، بل لاستيعاب الصدمة، ومحاولة تفسير اللغز؛ لماذا حملت "كارمن"؟ ولماذا حافظت على حملها؟ ولماذا أخفته عنه؟

لم تقنعه إجاباتها: "فوجئتُ بالحمل وشغلني التردد حتى صار أمراً واقعاً"، و"حين أصبحتُ حاملاً فعلاً، لا كافتراض، لم أجد التخلص من الجنين قراراً بهذه السهولة"، و"خشيتي من ردة فعلك فاقمت ترددي".

لا، لم يقتنع بكل ذلك الهراء. فهو لم يبدأ بمعرفتها بالأمس، ويكاد يعرف أن سبب "فعلتها" هو التقاء العناد بالعناد؛ العناد ضد الحكومة، مع العناد ضد نفسها، والعناد ضده. لم تعد اللاإنجابية مهمةً منذ تمادت الحكومة في اللااكتراثية، ولم يعد اللاشيء شيئاً حين مارسه -أو لم يمارسه- الجميع. هكذا ألقت "كارمن" بحجرها في حياتهما التي سوف تصير حياتهم، لأنهم صاروا ثلاثةً. نظر بغيظ ليلتها، إلى بطنها التي لم تنتفخ بعد، وأشار بيده فانطفأ التلفاز. وأشار مجدداً فاشتغلت الهواتف، ونهض لينام. إلى حين داعبه النعاس، لم تكن قد لحقت به. اكتفت بقولها بصوت خفيض وهو متجه نحو غرفة النوم:

- إنها بنت.

"العمر المتوقّع 86 سنةً"

راح يتخيل -رغماً عنه- الطفلة وهي تتجول في البيت، ويتذكرها كخيال يزحف بصمت بين الأرجاء، لا كالطفلة الضاحكة المزعجة التي تتقافز أمامه الآن، وهي تطل عبر نافذة القطار وتحاول أن تنظر إلى أسفل نحو الأرض البعيدة تحت الخطوط الكهربائية المتقاطعة. وهو ينظر إليها وإلى النافذة، ليتفادى نظرات الانزعاج والغضب المحسوسة، ويراقب حيويتها المتفجرة بالحياة، راح يتذكر تقرير التوقّع الطبي عند الولادة: "العمر المتوقّع 86 عاماً". يعرف أن العمر المتوقّع يعني "على الأقل" لا "العمر الأقصى"، ويعرف أن نحو تسعة عقود هي أكثر من كافية، خاصةً في أزمنة الملل البحت، مع ذلك فإنه لا يريد أن يتخيلها تموت حتى لو كانت عجوزاً في السادسة والثمانين، وحتى لو كانت في ضعف عمره الآن. يتخيلها تعيش إلى ما بعد المئة، ما بعد المئتين، ويتذكر كيف فاجأه الشيب مبكراً في أواخر العشرينات، وكيف منحه ذلك وسامةً في نظر الفتيات، لكن سرعان ما أضاف إليه -مع زيادة الوزن والاكتئاب- عمراً فوق عمره. استغل بياض شعره ليتهرب أحياناً من أبوّة "مرمر" في نظر المارة، وأخذ يتصرف معها أمامهم بحكمة مزيفة وحركة ثقيلة كأنه جدّها، وكأنها غلطة ابنه لا غلطته هو. تمادى في ذلك حتى اعتادت "مرمر" نفسها أن تداعبه على طريقة الحفيدات؛ أي أن تجذب نظارتيه وذقنه الخفيفة، وتطلب منه الحلوى أكثر مما تطلب منه أن يلاعبها أو يسابقها.

ما عمره المتوقّع هو؟ يتذكر يوم أدخلوا بيانات البلد في تطبيق ابتكره صديقه؛ بيانات التعليم وعدد الأحزاب والتنوع الاجتماعي والتفاوت الطبقي، واختبرا الأزمنة المحتملة قبل تحقق الديمقراطية أو العلمانية، وجاءت أرقام التطبيق تعد بانتظار يستمر مئات السنين. هكذا فرح يومها لأن يقينه ازداد باللاإنجابية. كان ذلك قبل أربعة أعوام من زواجه بكارمن، وتسعة أعوام من مفاجأتها إياه بمرمر.

لا، لم يقتنع بكل ذلك الهراء. فهو لم يبدأ بمعرفتها بالأمس، ويكاد يعرف أن سبب "فعلتها" هو التقاء العناد بالعناد؛ العناد ضد الحكومة، مع العناد ضد نفسها، والعناد ضده

"بالغون من قصار القامة"

طفل آخر دخل عربة القطار! ولد يبدو في الخامسة، ترتدي أمه ملابس واسعةً وقاتمة اللون. اتّجها إلى ركن بعيد وجلسا في صمت، لم يرياهما؟ رأياهما وتجاهلاهما؟ هل يزداد الاستفزاز إذا تجمّع الأطفال-الخطايا، في ركن واحد؟ هل يبالغ؟ كلا. الشوارع والمحطات والقطارات تبدو جميعها مثل مصلحة حكومية لمعاملة أصحاب الرواتب. الصمت وسماعات البلوتوث والعصيّ الإلكترونية والأجهزة التعويضية تحتل كل أفق. صحح لنفسه: كأنه في مشفى لقدامى المحاربين. في المرات النادرة التي يرى فيها أطفالاً يخيّل إليه أحياناً أنهم بالغون من قصار القامة، تساعده على ذلك التخيّل هيمنة الصمت والسكون اللذان أورثهما الأهل الخجلون أطفالهم.

بالصمت نفسه أنجبت كارمن، مرمر، بالأدوات الحديثة والولادة بلا ألم وبلا صوت كذلك. وفي البيت، كان بكاء مرمر الرضيعة صارخاً يكسر سنوات الصمت وأسماع الجيران حتى أنهما ركّبا لغرفة الطفلة -التي استحدثاها مكان مكتبه السابق- جدراناً عازلةً للصوت. نادراً ما دخلا وخرجا بها من البناية، وبلغة جسد اعتذارية. لم تكن ندرة الحضانات وحدها هي ما دفعهما إلى عدم إرسال "مرمر" إلى واحدة منها. أحبّا الجلوس معها. إجازة "كارمن" وعمله في الترجمة من البيت ساعداهما على ذلك، ليعترف أيضاً بأنهما تعرضا للنبذ من دوائرهما؛ عُدّا كاذبين، مدّعيين، مروّجين مزيفين لأفكار لا يلتزمان بها، وليعترف أكثر بأنه -بطرق غير مباشرة- ألقى باللوم على "كارمن" واستراح. لذلك، ليقل إذاً إن بقاءهما المتزايد في المنزل لم يكن بدافع حب "مرمر" وحده، بل لأنه لم يعد ثمة فارق بين مارة الشوارع المشمئزين من طفلتهما، وأصدقاء النضال العدمي، بل كان "المناضلون" -بالطبع- أشد قسوةً. أكان ذلك اللوم، والتخلّي عن "كارمن" من جانبه، هما دافعها إلى فعل ما فعلت؟

خرجت ولم تعُد

من المضحك قليلاً استخدام هذه العبارة: "فعلَ ما فعلَت"، لأنه في الحقيقة لا يعرف شيئاً "عما فعلت"، أو لنقل أنه يمتلك المعرفة الأقل في العالم عما فعلت زوجته. لقد رآها تسكت، تفكّر، تشرد، وقال لنفسه إنها تلوم نفسها وإنها تستحق ذلك. ثم خرجت يوماً وحدها، ولم تعد. لا أحد يردّ على هاتفها، والليل تسلل سريعاً من بين القطارات المتقاطعة في السماء، وقبل أن يخرج للبحث عنها كانوا قد وصلوا.

فتّشوا البيت بأجهزة الفحص الضوئي والموجي، أخذوا أجهزتها الإلكترونية بأنواعها. في صمت فعلوا كل ذلك بعد أن أجلسوه و"مرمر" أسفل جدار أشباح التلفاز. لم يوجهوا إليه أي سؤال، ولم يجيبوا عن أسئلته، وكان يعرف أنهم لن يجيبوا. رحلوا بالهدوء الذي جاؤوا به، ولم يعودوا، ولم تعد كارمن. منذ 18 شهراً لم تعد. منذ تلك الليلة صار هو تحت الرقابة أيضاً، الرقابة الإضافية؛ عليه الآن أن ينتبه إلى سلوكه على الإنترنت، إنهم يراقبون عمليات البحث. الخوارزميات تتنبه إلى ما قد تؤدي إليه تراكمات البحث عن موضوعات معينة. فليحتفظ بهدوئه من أجل "مرمر" التي لم تكن غلطته، وعليه الآن، ككل غلطات الحياة، أن يتعلّم حبها قدر ما يستطيع.

في المحطة النهائية توقف القطار الكهربائي. "هيا يا مرمر"، ناداها، فقزت من على المقعد المجاور للنافذة، فجذب الحقيبة على عجلاتها وأمسك بيد الصغيرة، وخرجا من القطار وبدآ بنزول الدرجات اللانهائية للسلالم الكهربائية. بعد دقائق طويلة اقتربا من مستوى الأرض، ثم خرجا من المحطة. الميدان واسع وبارد ومضيء، والنسيم يحرك الأعلام المتناثرة فوق الأرصفة ومداخل المحال. علم البلاد بألوانه الثلاثة الشهيرة وقد عاد التاج الملكي ليحلّ محل النسر الذهبي، تذكّر معرفته بأن هذا الميدان كان ملكيّاً في البدء، وها هو يعود للملك من جديد. ملك آخر في زمن آخر قبل سنوات قليلة من مئوية ثورة الميدان. لماذا يربط نفسه بالثورة؟ لا هو ولا أبوه ولا ربما جدّه عاصروها. ألأنها كانت الأخيرة قبل "نهاية عصر الثورات"؟ للعبارة وقع يشبه وقع عبارة "نهاية عصر الأسر" الذي درسه عن الفراعنة في المدرسة. لا أسر الفراعنة عادت ولا الثورات. عادت أسر أخرى غير فرعونية، فهل تعود ثورات أخرى، غير ميدانية ربما؟ قال لنفسه إنه وصل إلى درجة أن يفكر في الواقع بناءً على السجع، وإن هذا هو الخبل التام، وانتبه إلى "مرمر" تشير إلى محل لبيع الآيس كريم. عمر المحل أكثر من مئتي عام. أقدم بقرن كامل من الألم الذي حاق بهذا الميدان. أكلا الآيس كريم في طريقهما إلى بيت "نانا".

رحلوا بالهدوء الذي جاؤوا به، ولم يعودوا، ولم تعد كارمن. منذ 18 شهراً لم تعد. منذ تلك الليلة صار هو تحت الرقابة أيضاً، الرقابة الإضافية؛ عليه الآن أن ينتبه إلى سلوكه على الإنترنت، إنهم يراقبون عمليات البحث

"ربما أعود الليلة أو غداً"

استقبلتهما أمه. بأدواتها العتيقة ما زالت تشتغل التريكو، إرث العائلة. كانت تصنع له وللصغيرة كنزات صيفيةً تبدو كأنها خرجت من الماضي رأساً إليهما. وكانت تنظر بدهشة وحماسة حذرة إلى الحقيبة، وتسأل:

- ستقيمان معي أخيراً؟

يتأكد من انشغال الصغيرة بالتلفاز المسطح من النمط العتيق، ويجيب:

- "مرمر" ستقيم عندك.

- وأنت؟ إلى أين؟

يصمت لحظةً، ويعدّل كلامه:

- أقصد أنها ستبيت عندك، ربما أعود الليلة أو غداً.

تعرف أنه لن يضيف شيئاً. عنيد كأبيه وكزوجته المسكينة المختفية. وضعت الغداء، وقالت له: لا تنسَ البطاطس المقلية للصغيرة. التهم بعض الأرز. بطنه راحت تؤلمه مما هو مقدم عليه. نهض، قبّل أمه، نظر إلى "مرمر" وجاهد كي لا يدمع، ثم غادر البيت. شمس الشتاء ما زالت ساطعةً ومختبئةً في الآن نفسه. الشوارع الهرمة كانت في الماضي تزدان بأشجار نهايات الخريف. الآن يلمع المعدن في الإشارات والحواجز المعدنية وخطوط القطارات الكهربائية المعلقة في السماء. يندهش من نجاح أشعة الشمس في الوصول عبر هذا الزحام السماوي. في الليل تنبض المساحات بين القطارات المعلقة بأضواء الإعلانات التجارية التي يرسمها الليزر.

يقطع الميدان أولاً في اتجاه النيل، يقف على الكورنيش ويتطلع إلى موجات الماء الرمادي المستعد لاستقبال الشتاء، يبدو النهر أكثر قوةً من المارة العابرين على طرفيه، يمشي جنوباً باتجاه غاردن سيتي القديمة. يعبر الطريق مجدداً ويخترق الطرق الهادئة بين السرايات العتيقة. تحضر ذكريات قوية للأيام الأولى مع كارمن. يتذكر النزهات والقبلات الخاطفة. يفكر في أن كل شيء يصيبه التحديث إلا الحب يبقى هو نفسه. تزداد غاردن سيتي هدوءاً فوق هدوئها. يكاد يسير وحده في الشارع شبه الشتوي. يعبر شارع قصر العيني باتجاه المنيرة، يمر بزحام محدود سرعان ما ينتهي بعد سوق الفاكهة. على ناصية شارع منصور يتوقف، ويتأمل الإضاءة الصفراء الخافتة لعواميد الإنارة، والمصالح الحكومية التي انصرف موظفوها تاركين النوافذ مشرعةً، والهواء يحرّك أوراق المهملات. يداخله شعور غريب بأنه يعود في الزمن، وسرعان ما يفيق منه. يفكر في أن الزمن يكون أبطأ حيثما وُجد الموظفون والهيئات الحكومية. يواصل التوغل في المنيرة، وينظر إلى المبنى العتيق ببواباته الضخمة القاتمة، ثم يقترب بهدوء، وبطرف عينه يلمح أبراج الحراسة ولا يرى من في داخلها. يقترب أكثر، فيتطلع إليه جندي بلا اكتراث، وتقترب البوابة منه. يستوقفه رجل ببدلة مدنية يحمل سلاحا آلياً، ويسأله بصوت هادئ صارم:

- إلى أين؟

- أريد زوجتي.

إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image