شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
الناشط والمخرج ذي يزن العبيدي:

الناشط والمخرج ذي يزن العبيدي: "قتل الخوف وتقبل النفس لهما ثمن مرتفع"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والميم-عين

الثلاثاء 28 يناير 202501:44 م


لوغو قصص ملوّنة

ذي يزن العبيدي، مخرج وناشط اجتماعي وسياسي من أصول عراقية يعيش في النرويج.

حاز على جوائز عالمية لفيلم "مستقبل العراق"، ومن خلال عمله ونشاطه السياسي، استقبل في مقر جمعيته "سلام" أفراد العائلة الملكية النرويجية.

"سئمت حركات السياسيين"

كنّا قد اتفقنا أن نلتقي عبر تطبيق زوم، وبينما كنت أحضر الرابط، تلقيت رسالة: "عذراً، يجب أن أذهب إلى الشرطة. ممكن تأجيل الحوار إلى الغد؟". وإذ بفضولي وقلقي يعلنان بدء التسابق، الذي لم يهدأ إلا عند موعدنا في اليوم التالي.

"شو صار؟ إنت منيح؟". يجيب ذي يزن على الفور: "سئمت حركات البوليس والسياسيين في النرويج".

تدغدغ هذه الجملة فضولي أكثر فأكثر، وأنهمر على ذي يزن العبيدي بالأسئلة.

"حماية أفراد مجتمع الميم-عين تقع على السلطة والسياسيين والشرطة، وليس على الجمعيات أن تجد حلولاً أو تقترح أي نصائح أو حتى أن تشكل غطاءً سياسياً يدعو للتفاخر أمام الإعلام والتلفزيونات"

"ما علاقتك بالبوليس؟ هل يستدعونك غالباً بهذا الشكل؟ بماذا يتهمونك؟". فيوضح لي أن هذا يندرج ضمن عمله في جمعية "سلام"، إذ إنه كلما حصل اعتداء على أحد أفراد مجتمع الميم-عين في النرويج، تستدعي الشرطة مؤسسي هذه الجمعية، لتطلب منهم المساعدة حول كيفية التعامل مع الموضوع.

أقاطعه بالقول: "هم يريدون بناء الجسور والتعلم عن كيفية إيجاد حلول للجرائم التي تستهدف مجتمع الميم-عين. هذا شيء إيجابي. لا؟". فيرد قائلاً: "إنها مزيج من الشكليات وتدهور الكفاءات. حماية أفراد مجتمع الميم-عين تقع على السلطة والسياسيين والشرطة، وليس على الجمعيات أن تجد حلولاً أو تقترح أي نصائح أو حتى أن تشكل غطاءً سياسياً يدعو للتفاخر أمام الإعلام والتلفزيونات. هذه الاجتماعات تحصل بوجود سياسيين وضجة إعلامية صاخبة، وهي تتطرأ لمشكلة الأقليات: من المفترض أن يكون أحد الأطراف، المعتدي أو المعتدى عليه، من المهاجرين العرب و/أو الإسلام. لا يحصل أي ضجة إعلامية أو اجتماع طارئ في حال كان الطرفان من أصول أوروبية أو مثلاً عندما يكون المعتدي من النازحين الأوكرانيين".

واللافت أن جمعية "سلام" هي الوحيدة من نوعها التي تعنى بأفراد مجتمع الميم المسلمين في المنطقة الإسكندنافية، وهي تعمل على نشر التوعية وتأمين بيئة آمنة وصحية لكل أفراد هذا المجتمع، خاصة المتحدرين/ات من أصول إسلامية، الساكنين/ات في النرويج.

أسس ذي يزن هذه الجمعية مع صديقة له من أصول كردية-عراقية، منذ سبع سنوات، ما غيّر حياته رأساً على عقب، فقد أجبره هذا العمل على البوح بهويته الجنسية ووضع حدّ لسنين من المأساة والمعاناة النفسية.

ذي يزن العبيدي مع ولي عهد النرويج

نكران الرغبات

لم يعان ذي يزن فقط من اضطراب ما بعد الصدمة جرّاء الحرب والتهجير من العراق، إنما تصارع مع الاكتئاب: "كم يحرر التوقف عن الكذب! ولكن اتضح أن قتل الخوف وتقبل النفس لهما ثمن مرتفع جداً".

دُعيت والدة ذي يزن إلى "صبحية" نساء عراقيات في جنوب النرويج. وخلال جلسة الثرثرة والنمنمة، لم تكتف النساء بالسؤال عن موقف الأم من جمعية ابنها، وتطرّأن لحياته الشخصية وتفضيلاته الجنسية، طبعاً مع مزيج من الازدراء والاحتقار.

انقطع التواصل منذ ذلك الحين بين الأم وابنها. ولا يزال.

 "كم يحرر التوقف عن الكذب! ولكن اتضح أن قتل الخوف وتقبل النفس لهما ثمن مرتفع جداً"

استمر مسلسل التغيير عند ذي يزن، ولكن هذه المرة على صعيد شخصي، فذاك الصبي، منذ صغره في العراق، كان يشعر أنه مختلف عن باقي الأولاد. لم يكن يحب لعب "شرطة وحرامية" وألعاب الحرب، بل كان يهوى ألعاب الرعاية، كلعب أدوار الطبيب والأستاذ. وعندما كان يشاهد "مغامرات سندباد" على التلفاز، على عكس أصدقائه الذكور الذين كانوا يريدون التشبه بسندباد، كان يحلم أن يكون "ياسمين".

وفي سن الثامنة عشرة، أتى إلى أوروبا مع عائلته، حيث تطور في بيئة منفتحة، ولكن أجبر نفسه على نكران رغباته وطبيعة مشاعره، إلى أن أصبح الأمر غير محتَمل له. فلجأ إلى لعبة غير مألوفة مثيرة للاهتمام، وهي عبارة عن ثلاث هويات ينسبها ذي يزن لنفسه حسب الحاضرين: أحياناً كان يُعرّف عن نفسه كذي يزن، الشاب غير المثلي الذي يناهض الإسلاموفوبيا ويحارب اليمين المتطرف في النرويج. وبين العرب، كان يُعرّف عن نفسه باسم "ثيون"، وهو شاب مثلي متحدر من أصول هندية، تبنته عائلة نرويجية. كأنه يريد أن يحمي نفسه من الهوموفوبيا التي تستهدف العرب بشكل خاص وتحمي باقي الأقليات من خبثها. وفي أوساط الأوروبيين/ات، كان يُعرّف عن نفسه بالشخصية الثالثة: "يوستي"، وهو يهودي من أصول عراقية يعيش في فلسطين المحتلة.

ساعدت هذه اللعبة ذي يزن على فهم الديناميكيات العلائقية في المجتمع، ولكن سرعان ما أصبحت عبئاً عليه: بدأ الأصدقاء بالتلاقي، وبدأت المعلومات تتضارب. فارتطم ذي يزن مرة جديدة بحائط الكذب حتى قرر أن يكسره وباح عن مثليته، رامياً كل شخصياته وراءه.

ولكن من خلال شخصية "يوستي"، تعمق ذي يزن بتاريخ اليهود العراقيين الذين تعرضوا للتهديد وللقتل والتهجير، فأعطاه هذا رؤية مختلفة لمعاداة السامية، سمحت له بالتعاطف مع العراقيين العرب المدافعين عن فلسطين.

اهتم ذي يزن بهذا الموضوع وأراد التعمق به وتصوير وثائقي عن اليهود العراقيين الذين يعيشون حالياً في فلسطين، وهم الآن وللأسف أصبحوا يميلون إلى التطرف والإسلاموفوبيا: "في البدء منعني وصول جائحة كورونا عن التصوير، ولكن الآن وبعد الحرب على غزة، للأسف، أصبح صعباً التحدث عن وجهات النظر المختلفة ولو من منظور تاريخي واجتماعي"، على حدّ قوله.

عند حلول هذا الوقت من الحوار، كنت قد فهمت من أين يأتي حب ذي يزن للعب واللهو والاكتشاف؛ كأن لعبة الشخصيات لا تكفي. ففي حياته المهنية يبحث أيضاً عن سبل للاختراع والخلق.

ولي عهد النرويج هاكون

وثائقي يحصد الجوائز

لا يلهو ذي يزن فقط مع الأولاد في روضة الأطفال، مجال تخصصه ودراسته، إنما يتقن أيضاً الترجمة، حيث عمل في بلاتوهات التصوير، ما جعله يكتشف فن الإخراج، وإذ به بعد فترة يبدأ بالعمل على فيلمه الوثائقي الأول، جامعاً موضوع الطفولة، اختصاصه العلمي، بموضوع الحرب والتروما، سيرته الذاتية، رافعاً صوت الناشط الذي فيه، كالعادة، إنما هذه المرة من خلال عدسة الكاميرا.

كان يشعر أنه مختلف عن باقي الأولاد. لم يكن يحب لعب "شرطة وحرامية" وألعاب الحرب، بل كان يهوى ألعاب الرعاية، كلعب أدوار الطبيب والأستاذ. وعندما كان يشاهد "مغامرات سندباد" على التلفاز، على عكس أصدقائه الذكور الذين كانوا يريدون التشبه بسندباد. كان يحلم أن يكون "ياسمين"

"مستقبل العراق"، فيلم قصير مدته 25 دقيقة، يحاور أطفالاً عراقيين وأكراداً يحكون عن المآسي التي تعرضوا لها وشهدوها في الحرب. لا يزال يحصد هذا الفيلم عدة جوائز، سواءً في أوروبا أو في القارة الأمريكية، منذ صدوره عام 2018 حتى الآن.

وبانتظار إخراج أفلام أخرى، تأخذ جمعية "سلام" الكثيرَ من وقت ذي يزن؛ هو يزور المدارس بهدف التوعية عن المثلية الجنسية والصحة النفسية، ينظم جلسات حوار للتطور الذاتي لأفراد الجمعية الذين يتعدى عددهم المئتين، ينظم مسيرة الفخر الخاصة بالجمعية، والتي على عكس مسيرة الفخر في أوسلو، لا تُمَوّل من بنوك ومؤسسات تقوم أيضاً بتمويل الاحتلال الإسرائيلي، إذ يرفض ذي يزن تمويل الجمعية من مؤسسات خاصة كي يضمن استقلاليتها التامة، واختار مع شريكته أن يكون الممول الوحيد هو الدولة النرويجية.

عمل ذي يزن المفضل في الجمعية هو تحضير جلسات أيام الآحاد، حيث يجتمع نحو الأربعين عضو لتمضية النهار، كعائلة كبيرة محبة، تتحدى وحدة البلاد الأوروبية ووحدة أفرادها الذين هم مثل ذي يزن، قد تخلت عنهم عائلاتهم. هذا ويغطى الإعلام المحلي أنشطةَ عمل الجمعية باللغة النرويجية: "إنما أهلي لا يتقنان اللغة، وبالتالي ليس بإمكانهما متابعة أعمالنا"، وفق ما يقول.

ولي عهد النرويج هاكون

وردّاً على السؤال التالي: "إذا قرأت والدتك هذا المقال، ماذا تحب أن تقول لها؟"، يجيب: "ماما، أريد أن أقول لك قبل كل شيء إنني أحبك، وأعلم أنك تهتمين لكلام الناس وسمعة العائلة. لم يناسبني المنهج التعليمي كما هو عندما كنت صغيراً، ولا أزال أذكر كيف عيّرني إخوتي بذلك، هازئين من المستقبل الذي ينتظرني. لكن ليتك تنظرين إليّ الآن، كيف استضفتُ أفراد العائلة الملكية في النرويج إلى مقر جمعيتنا واحتسيت المشروب معهم".

ويختم حديثه بالقول لأمه: "كنت أتمنى لو بإمكانكِ أن ترَي أهمية إنجازاتي حتى الآن وما حققته وما سأترك من بعدي، لكنتِ افتخرتِ بي".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image