أنا من إدلب، المدينة التي كانت تُلقب بالخضراء قبل أن تُحرم من خضرتها وأمانها. كبرتُ بين حقول الزيتون والتين، وأعيش تفاصيل حياة بسيطة.
حين أصبحت إدلب ساحةً للصراعات التي لا ناقة لنا فيها ولا جمل، هُجرتُ قسراً مع عائلتي، وتركنا خلفنا كل ما نملك، بما في ذلك ذكرياتنا. كانت إدلب في ذلك الوقت ساحة صراعات هائلة.
اليوم، أعيش في مدينة حماة، التي قصدتها منذ عشر سنين وأصبحت مدينتي الثانية. هنا، ومن خلال "رصيف22"، تعرّفت على كُتّاب وصحافيين كثر من اللاذقية. بالنسبة لي، هم ليسوا مجرد أشخاص، بل رمز يمثل تلك المدينة الساحلية بكل تفاصيلها وتعقيداتها وتناقضاتها؛ مدينة البحر والجبال، التي حُملت فوق طاقتها ووُصمت بـ" مدينة الشبيحة"، بينما يعيش فيها من عانوا بصمت من بطش النظام أو من غُرّر بهم ليصبحوا جزءاً من منظومة القهر.
جميعنا نعرف أن الغالبية العظمى من أفراد الجيش السوري سابقاً، وضباطه وألوِيته، هم من الساحل السوري، وهذا كفيل بأن يجعل كل من عانوا من القصف والتنكيل يحكمون مسبقاً على أبناء هذه المدينة، أو أبناء الساحل بشكل عام.
على وجه الخصوص، مدينتي إدلب، التي لم يتوقف القصف الهمجي عليها على مدار عشر سنين، والتنكيل بأبنائها الذين خرجوا منها قاصدين الأمان. مثلي أنا وعائلتي وغيرنا الكثيرين، استُشهد أبناء عمي وأصدقائي تحت قصف النظام البائد، دون أن يرفّ له جفن أو تهتزّ له شعرة. دُمّرت بيوت بحالها، ووُصم أبناء تلك المدينة بوصمة عار على مدار سنوات طويلة.
ماذا يعني أن يقف ابن مدينة إدلب على حاجز للجيش السابق، دون تهمة واضحة أو صريحة، وقفة قد تصل إلى نصف ساعة فقط لأنه ابن تلك المدينة؟ أو مثلاً أن تفتح منصات التواصل الاجتماعي فتقرأ جملة "قادمون يا إدلب"، كأنها تهديد صريح ومباشر لأبناء لم يعرفوا سوى القهر والفقدان والخوف من ظلم النظام الساقط البائد، أو أن تُحرم من فرصة عمل تناسبك فقط لأنك تنتمي لأرض قرّر حاكمها سابقاً بأنها معقلٌ للإرهاب، على الرغم من أن حاكمها هو من خرج منها قصداً وقصفها طوعاً بدمٍ بارد.
أسواق إدلب مليئة اليوم ببرتقال اللاذقية وليمونها، وفي المقابل، ترى زيت إدلب يغمر مطابخ الساحل. هذا الزيتون، الذي كان رمزاً لصمود مدينتنا، أصبح أيضاً رمزاً للتواصل بين المدن التي شتتها الحرب.
على الرغم من كل ذلك، فأنا ابنة مدينة إدلب، وأرى الأمر بشكل أوضح من خلال معاشرتي أبناء الساحل. كان لي حرية التنقل بين المدن على الرغم من تعقيدات الحواجز، على عكس أبناء مدينتي إدلب، الذين كانوا يقيمون فيها خلال سنوات الحصار ولا يمكنهم التحرك من تلك الأرض المظلومة، لأن النظام المجرم حاصرهم ورسم لهم خريطة خاصة بهم بكل ظلمٍ وقسوة.
إلا أن اللاذقية ليست كما يُروج لها في الخطاب العام. إنها مدينة تحتضن تنوعاً مذهلاً، من الصيادين الذين يعيشون على أرزاق البحر إلى الفلاحين الذين يهتمون بكروم الزيتون والحمضيات. ليست كل اللاذقية بحراً، وليس كل أهلها متورطين في الحرب. هناك من دفعوا الثمن بصمت، وهناك من وقفوا عاجزين أمام موجة القمع التي جرفت كل شيء. وبالتأكيد، لا ننكر المتورّطين في جرائم النظام البائد.
من جهتي، أعلم أن إدلب لم تكن أبداً مدينة متجانسة كما يتم تصويرها. صحيح أن المجموعات المتطرّفة سيطرت على إدلب لفترة طويلة، لكن ذلك لم يكن يعني أن جميع سكانها كانوا جزءاً من هذا التطرّف، بل على العكس، ظل أبناء إدلب الأصليون متمسكين بأرضهم ومنازلهم، ويعيشون حياتهم اليومية وسط ظروف استثنائية قاهرة، في محاولة للحفاظ على ما تبقى من وطنهم. لقد شهدت مدينتي تنوعاً في أفكار أهلها، حتى في أحلك الأوقات، ما يجعلها أكثر تعقيداً مما قد يظهره الخطاب العام.
أحياناً، أفكر كيف يمكن لابن إدلب، الذي عانى التهجير والتعميم والظلم والحصار، أن يقع في فخ التعميم ذاته تجاه أبناء اللاذقية. كيف نسمح لأنفسنا أن نضع كل أهل المدينة في خانة واحدة؟ هل ننسى أن في إدلب نفسها تمّ تعميم الظلم؟ لقد وُصمنا جميعاً بأننا إرهابيون لأن مجموعات متطرّفة سيطرت على مدينتنا. ألا يكفي هذا الدرس كي نرفض أن نعامل اللاذقية بالمثل؟
رغم الجراح التي خلفتها الحرب، هناك إشارات خفية تعبر عن وحدة يمكن أن تكون أقوى مما نتخيل. في إدلب، التي لطالما كانت تُعرف بخضرتها وزيتونها، ترى اليوم أسماك اللاذقية على الموائد. إنه البحر الذي حُرم منه سكّان إدلب لعقد، والذي وصل إلينا عبر أسماكه، كأنها تقول إن المسافة بيننا وبين الساحل لم تكن يوماً سوى وهم أو خطة رسمها النظام المخلوع كي تنحفر في أذهاننا.
أسواق إدلب مليئة اليوم ببرتقال اللاذقية وليمونها، وفي المقابل، ترى زيت إدلب يغمر مطابخ الساحل. هذا الزيتون، الذي كان رمزاً لصمود مدينتنا، أصبح أيضاً رمزاً للتواصل بين المدن التي شتتها الحرب.
العلاقة بين إدلب واللاذقية تتجاوز مجرد التبادل التجاري. السمك والزيتون يرويان قصة عن التكامل الطبيعي بين الجغرافيا السورية، وعن الترابط الذي لم تستطع الحرب أن تقطعه بالكامل. السمك، رمز البحر الذي يشتهر به الساحل، وصل إلى إدلب عبر طرق التجارة، وأصبح جزءاً من موائد الإدلبيين، في المقابل، الزيتون، الذي يميز سهول إدلب، وجد طريقه إلى موائد الساحل، كأنه يربط بين الأرض والبحر بخيط من التضامن الصامت.
أتخيل صياداً من اللاذقية يخرج في الصباح الباكر، يلقي شباكه في البحر، ثم يبيع صيده للتجار الذين يحملونه إلى أسواق إدلب. في الوقت ذاته، أتصور مزارعاً إدلبياً يعتني بشجر الزيتون في سهولنا، يحصد الثمار، ثم يرسل زيته إلى الساحل. إنها علاقة سهلة وبسيطة، لكنها بشكل قاطع كانت صعبة التحقيق بسبب سلطة الأسد المجرمة.
هذا الوطن الذي نحلم به لن يتحقق إلا إذا رفضنا أن نكرر أخطاء الماضي. لا يمكن لإدلب أن تكون حرة إن لم تكن اللاذقية أيضاً حرة، ولا يمكن للاذقية أن تعيش بسلام إن لم تجد إدلب طريقها للسلام
ابن إدلب يعرف تماماً ما يعنيه الظلم. نحن الذين عانينا التشريد والقصف والتهميش، كيف لنا أن نرضى بأن نضع أهل اللاذقية جميعهم في سلة واحدة؟ لقد عشنا التعميم على أجسادنا. كنا نُعامل كأننا إرهابيون لأن مدينتنا أصبحت معقلاً لقوى متطرّفة. هل يمكن لابن إدلب أن ينسى كيف كان يُنزع منه صوته، وكيف كان يُحكم عليه قبل أن يُسمع؟ لهذا، يجب أن نكون أول من يرفض التعميم، لأننا أكثر من يعرف مدى قسوته وظلمه.
اللاذقية، بكل ما فيها من تعقيدات، هي جزء من هذا الوطن الذي نحلم به. لا يمكننا أن نبني سوريا الجديدة على أساس الانتقام الجماعي. لا يمكننا أن ننسى أن هناك من اللاذقيين من عانوا كما عانينا، وأن العدالة الحقيقية يجب أن تطال المجرمين فقط، دون أن تجر معها الأبرياء.
الزيتون والسمك، الحمضيات والتين، الشاي والمتة، كلها رموز بسيطة لوحدة يمكن أن تكون أقوى من كل محاولات التفرقة. لا يجب أن نبني علاقاتنا على أساس ما يفرقنا، بل على أساس ما يجمعنا.
هذا الوطن الذي نحلم به لن يتحقق إلا إذا رفضنا أن نكرر أخطاء الماضي. لا يمكن لإدلب أن تكون حرة إن لم تكن اللاذقية أيضاً حرة، ولا يمكن للاذقية أن تعيش بسلام إن لم تجد إدلب طريقها للسلام.
حين نعيد بناء سوريا، يجب أن نفعل ذلك بقلوب مفتوحة. يجب أن نؤمن بأن ما يجمعنا أكبر مما يفرقنا، وأننا جميعاً نستحق وطناً يعاملنا بكرامة وعدالة، بغض النظر عن مدننا أو طوائفنا أو انتماءاتنا.
ربما لن يكون هذا الحلم قريب المنال، لكنه يستحق المحاولة، لأنه بدون هذا الحلم، سنبقى أسرى للظلم والتفرقة، ولن نتمكن أبداً من تحقيق العدالة التي ننشدها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 19 ساعةوحدث ما كنا نتوقعه ونتأمل به .. وما كنا نخشاه أيضاً
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومصادم وبكل وقاحة ووحشية. ورسالة الانتحار مشبوهة جدا جدا. عقاب بلا ذنب وذنب بلا فعل ولا ملاحقة الا...
mahmoud fahmy -
منذ 5 أيامكان المفروض حلقة الدحيح تذكر، وكتاب سنوات المجهود الحربي، بس المادة رائعة ف العموم، تسلم ايديكم
KHALIL FADEL -
منذ أسبوعراااااااااااااااااااااااااائع ومهم وملهم
د. خليل فاضل
Ahmed Gomaa -
منذ أسبوععمل رائع ومشوق تحياتي للكاتبة المتميزة
astor totor -
منذ أسبوعاسمهم عابرون و عابرات مش متحولون