اسم ميمي الشربيني يستحضر أكثر من مجرد صوت معلّق رياضي؛ بل يُبرز شخصية جسّدت الزمن الذي مزج بين المهارة الفنية والمتعة الإنسانية للعبة. صوته فتح للمشاهدين نافذة تطل على مشاهد نابضة بالحياة، وهو يعيد بناء المباريات كحكواتي ينحت أساطير بخياله، ويرسم بالكلمات ما تعجز الكاميرات عن التقاطه.
لم يكتف برصد الوقائع أو وصف اللعب، بل نسج تعليقاته بأسلوب شعري يحمل الحماس والعاطفة. ربط المستمعين بالملعب مباشرة، وجعل كل مباراة حكاية حيّة مليئة بالأبطال والصراعات والمشاهد الدرامية. بحبه وإتقانه، أضفى روحاً على اللحظات، وجعلها تتحول إلى ذكريات خالدة في عقول عشاق كرة القدم.
جسّد ميمي الشربيني الجسر الذي مزج متعة اللعبة بروح الجماهير. بصوته العميق وتجربته الطويلة، صاغ من كل مباراة قصة فريدة، وحوّل اللحظات العابرة إلى مشاهد خالدة تتكرّر في ذاكرة الملايين.
الجملة التي أصبحت أغنية
ميمي الشربيني رسم بكلماته لوحات حية تتجاوز حدود الوصف الرياضي التقليدي. عندما أطلق عبارة مثل "مواليد منطقة الجزاء"، جسّد أمام المشاهد صورة لاعب يولد في قلب الملعب، يتنفّس كرة القدم ويُتقن تسجيل الأهداف كأنه وُجد لهذه المهمة وحدها. ومع تعبيره "يتقمّص شخصية السوبرمان"، أعلن لحظة تحول لاعب عادي إلى بطل خارق يكسر حدود التوقعات ويخترق منطق اللعبة.
صاغ كلماته بدقة مدروسة، مدفوعاً بفهم عميق للعبة وبإدراكه لقوة الكلمة في إضفاء بُعد جديد على المشهد. في تعليقاته، لم يكتف بنقل ما يحدث، بل حوّل المباريات إلى تجارب غنية تفيض بالمشاعر. قال للمشاهدين من خلال نبرته وكلماته:"أنتم لستم مجرد متفرجين؛ أنتم شركاء في اللعبة وشهود على أسطورة تصنع أمامكم."
بتقنية لغوية أشبه بالسحر، حول ميمي الكرة إلى كائن حي يتحرك ويتحدث ويرتدي "ثوب الإجادة"، وكأنها تحمل إرادة خاصة. تعليقاته أضفت بُعداً درامياً على كل لحظة، حيث نقل المباريات، من كونها سلسلة من الحركات التكتيكية إلى حكايات مشوقة مليئة بالمفاجآت.
جسّد ميمي الشربيني الجسر الذي مزج متعة اللعبة بروح الجماهير. بصوته العميق وتجربته الطويلة، صاغ من كل مباراة قصة فريدة، وحوّل اللحظات العابرة إلى مشاهد خالدة تتكرّر في ذاكرة الملايين
استطاعت عباراته أن تتجاوز حدود الوصف البسيط وتخاطب خيال الجمهور مباشرة. كل جملة صاغها حملت مزيجاً من الحماس والدهشة، ما جعلها سهلة الحفظ والتكرار، وكأنها توقيع دائم على كل مباراة شهدها. لم تكن مباراة تنتهي دون أن يترك خلفه جملة أيقونية تعلق في الأذهان.
ما جعل أسلوبه فريداً هو قدرته على الابتكار المستمر. بينما اكتفى كثير من المعلقين بالوصف المباشر، ابتكر ميمي تعبيرات جديدة أضافت نكهة خاصة لكل مباراة. لم تكن كلماته تقليدية أو عابرة، بل حية ومتجددة، تملأ المستمع بشعور الانتماء لعالم كرة القدم الذي جعله أكبر من مجرد لعبة.
صوت الذكريات الذي لن يُنسى
لجيل الثمانينيات والتسعينيات، كان صوت ميمي الشربيني أكثر من مجرد تعليق؛ كان شريان حياة يربطهم بعالم كرة القدم.
أحد المعجبين، الذي تعلّق بصوت ميمي منذ الصغر، روى كيف اعتاد تقليد تعليقاته الشهيرة في دفاتر المدرسة، ليس لمجرد التسلية، ولكن لأنه شعر بأن تلك الكلمات هي إرث يجب تخزينه. في لحظة لا تُنسى، تمكّن هذا المشجع من إيصال صوته إلى الإذاعة الوطنية، حيث قلّد ميمي الشربيني مباشرة على الهواء. المفاجأة لم تكن فقط ضحك ميمي على هذا الأداء، بل الدعوة الشخصية التي تلقاها من المعلّق الكبير للقاء في النادي الأهلي.
هذه الحكايات البسيطة تعكس روح ميمي، الرجل الذي لم يضع حاجزاً بينه وبين جمهوره. صوته كان صديقاً يُشارك المشاعر، لا مجرد معلق يصف الأحداث. كان يمنح كل مباراة قلباً وروحاً، يزرعها في ذكريات الأجيال لتبقى معهم سنوات طويلة.
بالنسبة لميمي الشربيني، لم تكن المباريات مجرّد صراع على النقاط أو الألقاب؛ كانت ساحة لإبداع أدبي ورياضي متداخل.
بالنسبة لميمي الشربيني، لم تكن المباريات مجرّد صراع على النقاط أو الألقاب؛ كانت ساحة لإبداع أدبي ورياضي متداخل.
في كل هدف، كان يخلق سرداً جديداً. في نهائي كأس العالم 1998، لم يقتصر دوره على وصف الركلات والتمريرات، بل كان كمن يروي ملحمة شعرية بين طرفيْ صراع أسطوري. في مخيلته، كان رونالدو وزيدان أشبه بفرسان من العصور الوسطى، يحملان دروعهما في ساحة معركة كروية، يقودان جيوشاً من المهارة والفخر.
حياة بسيطة بروح مميزة
ميمي الشربيني عاش بعيداً عن أضواء الشهرة وصخب الملاعب، وفضل حياة هادئة في فيلته بمدينة جمصة، حيث احتضنت البلدة الساحلية ذكرياته وحكاياته. في منزله المتواضع، حافظ على روحه المرحة وتواضعه، وكأنه لم يلمع يوماً في سماء كرة القدم والإعلام. لم تفرض عليه العزلة، بل اختارها عن وعي ليعيد تأمل حياته الغنية بالمغامرات والتجارب.
حتى بعد رحيله، بقيت ذكرى الشربيني حية في كل مباراة تُذاع وفي كل تعليق ينبض بالحياة. صوته يرن في الأذهان حين نسمع تعليقاً حماسياً أو جملة شهيرة، وكأنه لا يزال بيننا يردّد عبارته الخالدة :"يا ترى يا هل ترى"
مع بساطة حياته اليومية، ظل ميمي يجذب احترام الجميع. السنوات لم تنل من حبه للرياضة أو من التزامه بقيمه. صوته على الميكروفون بقي رمزاً للنزاهة، بعيداً عن الانحياز أو التعصب. ميمي جمع عشاق اللعبة حول شغفهم بكرة القدم نفسها، متجاوزاً الصراعات والانقسامات.
في السنوات الأخيرة، عانى التعليق الرياضي من تراجع واضح في مستواه، حيث طغت العبارات المكرّرة والتعبيرات الجافة على روح المباريات. غابت الابتكارات اللغوية، وحل مكانها السرد الميكانيكي الذي يفتقر إلى الحماس والإبداع. في ظل هذا التراجع، تبدو تجربة ميمي الشربيني أقرب إلى أسطورة يصعب تكرارها. لم يكن ميمي مجرد ناقل للأحداث، بل كان صانعاً للتجربة الكروية، يضيف للمباريات بُعداً أدبياً وإنسانياً يُشعل حماسة الجماهير.
غيابه، هو وعدد من المعلقين الأسطوريين كحمادة إمام، جعل التعليق الرياضي يفتقر إلى العمق والجاذبية، ما يبرز مكانة ميمي كشخصية استثنائية في تاريخ اللعبة. في التعليق الرياضي، حيث غالباً ما تُستخدم الكلمات كأداة تقنية، أضاف ميمي بُعداً جديداً، إذ جعل كلماته وسيلة للتعبير عن الجمال والدراما في اللعبة. تعليقاته دمجت بين التشويق والإبداع، حيث عاش الجمهور المباراة من خلال عينيه، وشاركته إحساسه العميق بكل لحظة.
مع مرور الزمن، واجه ميمي الشربيني تحديات العمر التي أثرت على نبرات صوته. رغم فقدانه لبعض من حماسه الشبابي، عوّض ذلك بعمق يعكس خبرة الحياة. صوته في تلك المرحلة بدا وكأنه موسيقى ختامية لعازف قرّر إنهاء رحلته بمقطوعة هادئة تحمل احتراماً لفنه وجمهوره.
حتى في سنواته الأخيرة، ظل يقدم تعليقاته بإخلاص، يمنح كل كلمة قيمة خاصة. انسحب تدريجياً من المشهد، لكنه ترك خلفه إرثاً خالداً من الإبداع، كأن صوته يهمس بحب واحترام وداعاً لجمهوره دون أي صخب.
ميمي الشربيني تجاوز حدود الرياضة ليصبح رمزاً ثقافياً يعكس الجمال البسيط والعميق في كرة القدم. صوته لم يكن مجرد وسيلة نقل للمباريات، بل كان سفيراً للمشاعر، وعباراته أصبحت توقيعات خالدة في تاريخ الملاعب.
حتى بعد رحيله، بقيت ذكراه حية في كل مباراة تُذاع وفي كل تعليق ينبض بالحياة. صوته يرن في الأذهان حين نسمع تعليقاً حماسياً أو جملة شهيرة، وكأنه لا يزال بيننا يردّد عبارته الخالدة :"يا ترى يا هل ترى". هذه العبارة ليست مجرد كلمات، بل تساؤل أبدي عن روح كرة القدم، تلك الروح التي تبقى نابضة بالحياة ولا تموت أبداً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
mahmoud fahmy -
منذ 11 ساعةكان المفروض حلقة الدحيح تذكر، وكتاب سنوات المجهود الحربي، بس المادة رائعة ف العموم، تسلم ايديكم
KHALIL FADEL -
منذ يومينراااااااااااااااااااااااااائع ومهم وملهم
د. خليل فاضل
Ahmed Gomaa -
منذ يومينعمل رائع ومشوق تحياتي للكاتبة المتميزة
astor totor -
منذ 6 أياماسمهم عابرون و عابرات مش متحولون
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعفعلاً عندك حق، كلامك سليم 100%! للأسف حتى الكبار مش بعيدين عن المخاطر لو ما أخدوش التدابير...
Sam Dany -
منذ أسبوعانا قرأت كتاب اسمه : جاسوس من أجل لا أحد، ستة عشر عاماً في المخابرات السورية.. وهو جعلني اعيش...