شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
من الملعب إلى المسجد... لماذا يُشهر رونالدو إسلامه كلّما أردنا؟

من الملعب إلى المسجد... لماذا يُشهر رونالدو إسلامه كلّما أردنا؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والخطاب الديني

الاثنين 18 نوفمبر 202411:36 ص

في ظهيرة يوم حار من أيام حزيران/ يونيو، وأثناء عودته من مقر المستشارية الألمانية، حمل الشيخ أمين الحسيني، مُفتي القدس حينها، رسالة من "الحاج محمد هتلر"، إلى مسلمي العالم العربي، يطمئنهم فيها أن الوعد الإلهي بالنصر على الحلفاء بات قريباً.

نعم؛ كل القادة العظام وجب عليهم أن يكونوا مسلمين، من خالد بن الوليد حتى "علي بونابرت"، نابليون سابقاً، عبدُ الله المتدين، الذي يفتتح خطاباته بالبسملة والصلاة على النبي، مثل تلك الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم، ناصر المستضعفين، قرّرنا نحنُ العبد الفقير إلى الله، الحاج علي بونابرت، ساري عسكر مصر، قصف جامع الأزهر بالمجانيق، دفاعاً عن الدين الإسلامي الحنيف من همجية المسلمين، بعد أن ثبت استخدامه كستارٍ لتمرير أفكار ثورية ضد الحكومة الفرنسية وأسياد البلد، ولا عدوان إلا على الظالمين".

ولم تكن تلك هي الرسالة الوحيدة المحكوم عليها "بالإسلام"، إذ وجدت بجانب رسالة أخرى كتبها إلى خليفته الجنرال كليبر، أوصاه فيها بأن يولي وجه "الكرسي الكهربائي" شَطرَ المسجد الحرام أثناء حفلات الإعدام، حتى تكون الذبيحة حلالاً بلالاً، وكل ذلك بجانب زجاجة شمبانيا "Veuve Clicquot"، وحبتي فياجرا من النوع المفتخر، لأنه كان يعاني من "الضعف الجنسي"، (وتلك هي المعلومة الصحيحة الوحيدة في كل ما سبق)، وكأن الشعوب المُسلمة تحاول بكل جهدها شرعنة الاحتلال بإيجاد صبغة دينية لا تخطئ القلب، وإطلاق إشاعة لن تخيل على "عيَّل صغير" حتى ترضخ تماماً للمستعمر، بجعل دينها مطية لأي شخص.

وبما أن مُستعمري ونجوم اليوم ليسوا من أصحاب النياشين والرتب، بل من لاعبي كرة القدم، والرياضيين، والسينمائيين، وتجّار المخدرات، ومهربي السلاح، فكان من الطبيعي أن تنتشر إشاعة إسلام كريستيانو رونالدو، لاعب النصر السعودي، وأشهر شخص في العالم، طبقاً لتطبيق انستغرام، وأن تظهر على السطح في كل مرةٍ يرتدي فيها العقال، أو يدخل على "قوم من الأعراب" قائلاً: "السلام عليكم"، فهل أصبح كل من يرتدي ثوباً تقليدياً أو ينطق بكلمات عربية مسلماً؟ ومتى تحوّل الرياضيون إلى أدوات للتسويق والتسوق الديني؟

من الطبيعي أن تنتشر إشاعة إسلام كريستيانو رونالدو، لاعب النصر السعودي، وأشهر شخص في العالم، طبقاً لتطبيق انستغرام، وأن تظهر على السطح في كل مرةٍ يرتدي فيها العقال، أو يدخل على "قوم من الأعراب" قائلاً: "السلام عليكم"

معضلة المنافسة

مبدئياً، لماذا كريستيانو رونالدو تحديداً؟ أي لماذا لم نسمع عن شائعة إسلام ميسي أو نيمار أو حتى مبابي، صاحب الأصول الجزائرية من جهة والدته، من قبل؟

طبقاً لما ذكره الكاتب والصحفي الرياضي يوسف حمدي لـرصيف22: "أن شائعة إسلام رونالدو تتكرّر باستمرار على مدى الـ 15 عاماً الماضية، اعتماداً على قصة أخرى تفيد بأن أوزيل كان يوقظه من النوم لأداء صلاة الفجر، وعندما زار ميسي حائط المبكى، انتشرت شائعة أخرى تفيد بأنه تبرّع بحذائه الذهبي من أجل أطفال غزة، والسبب الرئيسي في هذا التسلسل، أن ميسي، كلاعب، أفضل من كريستيانو، ولذلك فالمبرّرات التي يسوقها جمهور رونالدو العربي لإثبات أفضليته، عادةً ما تكون بعيدة عما يحدث فعلاً داخل الملعب، مثل أنه لا يضع الوشوم، ولا يشرب الخمر، ويتبنى نظاماً صحياً أقرب للإسلام".

ببساطة أكبر، هو صراع بين سرديتين من صُنع جمهور رونالدو نفسه: سردية ميسي، غريب الأطوار والمستهتر والمتخاذل، المولود بموهبة خارقة، مقابل سردية رونالدو، الوحيد، المضطهد. ميسي الحاكم بأمر الله في نادٍ واحدٍ تكفّل بكل شيء، في دوري ضعيف، مقابل رونالدو الذي عانى الأمرّين للقبول في مانشستر يونايتد، ثم فتح العالم بحد سيفه. ميسي اليهودي، الباكي كالأطفال أمام "حائط المبكى"، ليملأ خزانته، بناءً على ذلك، بالنقود والجوائز، مقابل رونالدو الذي يتبرّع لأطفال غزة، وهذا يفسّر سبب حصول ليونيل على الكرة الذهبية عام 2010 بعد زيارته لإسرائيل مباشرةً، خاصة وأن بعض اللوبيات الصهيونية لها أذرع تمتد داخل مجلة "فرانس فوتبول"، وتلك حقيقة "وحيدة" أخرى في بحر الأكاذيب السابق.

تلك القصص العجيبة كان لابد لها أن تنتهي نهاية درامية كالتي حدثت فعلاً؛ بذهاب ميسي لأميركا ليكون رفقة أصدقائه الكفّار والصهاينة، ومجيء رونالدو إلى السعودية، بإيعاز من خادم الحرمين الشريفين، شخصياً، وسبحان السميع العليم، ها هو يشهر إسلامه، بعدما جلس على الأرض مرتدياً العقال والشبشب الجلد، وربما تظهر إشاعة أخرى بعد سنوات قليلة، تفيد بأنه اشترى مدفناً في "بقيع الغرقد"، ليدفن بجانب مسجد "رسول الله"... مدد يا رسول الله، ولله في خلقه شؤون.

كريستيانو رونالدو هو النموذج المثالي الذي يحب أن يراه عبد الله رشدي، ومريدو مسلسل "جعفر العمدة"، مُسلم وموحّد بالله، متنمّر وفائز، عضلات وهادئ، مغرور وذكي، يحارب الجميع، ويقضي على الجميع، تستوستيرون فائض عن الحاجة، وشعر كثيف، وعنيف ضد المرأة

المسلم السوبرمان

والآن، أي القصتين أقرب لنفسك؟ بالطبع أنت تعلم أنهما مختلقتان بالكامل، فلا ميسي صهيوني، ولا رونالدو مسلم، ولا أي من ذلك حدث، أو قد يحدث، لكن جمهور رونالدو العربي لم يجد ما يدحض به أفضلية ميسي إلَّا تلك الشائعات، بعد رفضه التوقيع مع ناد سعودي هو الهلال رغم المليار الذي عُرض عليه، والتي تضع الأمور في نصاب واحد فقط، وتخضع المشجع البسيط لمعادلة صعبة للغاية: ميسي الصهيوني مقابل رونالدو الأكثر تشبّهاً بالإسلام، وفي رواية أخرى؛ الأكثر تشبّهاً بالنسخة "الذكورية" الحديثة من الإسلام، المسلم القوي، العنيف، المسيطر، المتفاخر، وهذا لا يعني أن الجمهور العربي لا يتعاطف مع ميسي، الدموع التي أراقتها عيوننا فرحاً بحصوله على كأس العالم شاهد قوي على هذا الحب، نحن فقط لا نريد منه أن يكون المثال الأوضح للإسلام، لأنه ضعيف، و"المسلم القوي خير وأحب إلى الله من المسلم الضعيف".

وللأسف، فقد تغير مفهوم القوة كثيراً في زماننا، حيث انحصر في السعي الدائم والحثيث لإثبات الأفضلية، ومحاولة إظهار الخشونة المفرطة بالردود (الحرَّاقة): "لماذا يكرهك الناس؟ لأنهم أقلّ مني، وأنا أغنى منهم بالطبع". رد بسيط واضح، و"مُشطشط" بما يكفي لانتزاع آهات الجماهير، نفس الجماهير التي تعامل عبد الله رشدي كرجل دين أيضاً، فلا يمكن فصل المجتمع والأحداث عن بعضها البعض، ولو فكرت قليلاً، ستجد أن هناك قاسماً مشتركاً بين محبي كريستيانو رونالدو وعبد الله رشدي، رجل الدين المفتول العضلات، ومحمد رمضان، رجل السينما المفتول العضلات أيضاً، خاصة وأن الثلاثة يروّجون لنفس الخطاب، خطاب القوة الرافض لأيّ نقد، الخطاب الذي يتعامل بسخرية وتهكم على الجميع، ويشعر بتفوقه الدائم لأنه "هو" فقط، ولا شيء غير ذلك.

كريستيانو رونالدو هو النموذج المثالي الذي يحب أن يراه عبد الله رشدي، ومريدو مسلسل "جعفر العمدة"، مُسلم وموحّد بالله، متنمّر وفائز، عضلات وهادئ، مغرور وذكي، يحارب الجميع، ويقضي على الجميع، تستوستيرون فائض عن الحاجة، وشعر كثيف، وعنيف ضد المرأة. هذا هو "المُسلم" المثالي، في عالم أصبح فيه هذا النمط هو "الإنسان" المثالي، عالم تتصدر فيه المشاهدات أعمال درامية رديئة وباهتة،  تعجّ بأشخاص غريبي الأطوار؛ جلابيب وعبايات وأسلحة، قتلة وتجار مخدرات ومتنمّرين، "بس رجالة بالصلاة على النبي"، و"لو عدّوا البحر مبيعدوش الأصول"، والكل يلهث لتنفيذ أوامرهم، لماذا؟ لأنهم "أغنى وأكثر شهرة من غيرهم"، وهذا دليل كافٍ لحسم أفضليتهم على بقية البشر. 

ولذلك فكل كلامهم عبارة عن حِكمٍ سطحية، وردود مقتضبة تحمل الكثير من الهراء، وقصف جبهات دائم ومتواصل، "واستعراض للذات بنرجسية لا تخطئها العين، مع تضمين خطاب ذكوري لا يخلو من الإفيهات البريئة، محدودة الخيال، والصالحة لمنصات السوشيال ميديا، حيث الجمهور المتعطش والمتحفز للدخول في أي معركة كانت، والعبث فيها بلا أي مناسبة. بالمناسبة؛ تلك المنصّات ليست مصمّمة لاستقبال الأفكار العميقة والمركبة، بل صُمّمت خصيصاً لأجل الاستهلاك السريع، أن تتعرّض لعشرات الصور والفيديوهات في دقائق قليلة دون أي تفكير منك، حتى لا تشبع، وتظل تنهل منها حتى يُغشى عليك من التعب.

ماذا سيحدث عندما تستيقظ؟ ربما ستفكر في ماذا لو كان كريستيانو مُسلماً، بالتأكيد سيصبح أفضل من ميسي. ميسي خجول، ولن ينفع الإسلام في شيء، لكن أخونا الشيخ كريستيانو، له قصة ملهمة وعظيمة، ولا يخشى في الحق لومة لائم، وسينصر الله الإسلام به حقاً. دقائق قليلة من التفكير، وإعادة التموضع، والتمنيات اللزجة، قبل أن تغرق مرةً أخرى في سيل من الفيديوهات والريلز، إشاعة أخرى "وكأنك يا أبوزيد ما غزيت".

يقلدونه في كل شيء، الشيء الوحيد الذي لا يستطيعون تقليده هو الدين، فيتمنّون أن يتحول هو إلى دينهم، حتى يكون أهلاً لصورة مثالية "ما" في خيالهم، والصورة المثالية عند المسلمين هو أن يكون مسلماً، والمسلم عند "مسلمي السوشيال ميديا"، هو المسلم السنّي، السلفي، ذو البعد الواحد

المسلم ذو البعد الواحد

"الوحيد اللي بيطلع يرد علي الملاحدة ويخرسهم ومفيش حد منهم بيقدر يرد عليه بالعكس دول ينسحبوا من المناظرات قدامه، الوحيد اللي بيقول كلمة حق، ومبيهموش هتعجب الناس ولا لأ،  وعلشان كده معظم (البنات) اللي دين ربنا مش علي هواها وعايزه تفصل دين جديد علي مزاجها بينتقدوه وبيشتموا فيه". أحد  محبّي عبد الله رشدي، عبر فيسبوك.

في كتابه "الإنسان ذو البعد الواحد"، يرى الفيلسوف هربرت ماركوز، أنّ الرأسمالية القائمة على الاستهلاك والشراهة الدائمة، تجعل الإنسان غير قادرٍ على رؤية أبعاد أخرى لوجوده؛ فلا يستطيع التغيير أو المقاومة حتى، إذ إنّ الرأسمالية لا تمارس القوة والعنف في جعل الإنسان الحديث عبداً لها، بل تعتمد الإغراء المريح، وتمارس وسائل الإعلام دوراً كبيراً في خدمة هذا النظام، بما تبثه من أفكار تمنع مقاومة النظام، وفي عالم السوشيال ميديا، يتحول هذا الإغراء إلى جرعة دوبامين قوية، يلتهمها العقل مع كل ريل أو تيكتوك، يهون عليه مآسي الحياة.

كما أنّ السعي الدائم لتوفير الاحتياجات الاستهلاكية، يجعل من اليوم بالكامل مَلطةً للعمل، والعمل فقط، بلا أيّ مجال للتفكير المنطقي أو التفتيش عن المسارات المختلفة، أو فهم الزوايا المعقدة للأمور. الناس بالكاد قادرون على التواصل الاجتماعي مع بعضهم البعض، ومقدار الكبت يجعلهم فريسةً دائمةً للقلق والخوف، ولذلك يهرعون إلى استهلاك كل ما هو بسيط وغير معقد، من أجل التنفيس، وعندما تُظهر لهم المنصات شخصاً ناجحاً، قوياً، وسيماً، يمتلك أجمل زوجة في العالم، بأفضل "أشياء" في العالم، شخص استطاع الهروب من براثن الضغط، إلى حياة أكثر رحابة وحرية، ومن ثم ينظرون له بتقديس مبالغ فيه: "أصل يعني؛ أكيد هو أذكى مننا فعلاً، عشان كدة قدر ينجو من مآسي العالم بالسهولة دي".

ثم يقلدونه في كل شيء، حتى في قصات الشعر، ولون ربطات العنق، الشيء الوحيد الذي لا يستطيعون تقليده، هو الدين، فيتمنّون أن يتحول هو إلى دينهم، حتى يكون أهلاً لصورة مثالية "ما" في خيالهم، والصورة المثالية عند المسلمين هو أن يكون مسلماً، والمسلم عند "مسلمي السوشيال ميديا"، هو المسلم السنّي، السلفي، ذو البعد الواحد، الأشبه بعبد الله رشدي وإياد القنيبي ووليد اسماعيل، في جسارته وجهله، ولذلك مثلاً، فقد خاض هؤلاء وأتباعهم في الماضي، معارك عنيفة جداً حول اعتبار "الشيعة" شهداء أم لا، لمجرّد أنهم مختلفون عنهم في تفسير بعض الآيات القرآنية، ودون أي اعتبار لقدسية الموت، أو للإبادة التي يتعرّض لها أهلنا وجيراننا من عدو مشترك، هل رأيت ما هو أحقر من تلك النقاشات؟

حسناً، هذا هو مستوى مناقشات السوشيال ميديا، وتلك أيضاً هي الحالة المُجتمعية التي ظهرت فيها إشاعات إسلام كريستيانو رونالدو، حيث ظهرت البارانويا، وتحول الدين من مصدر اعتزاز للفرد، إلى ضاغط آخر على الأعصاب، وفي وقت تُضرب فيه الأمة الإسلامية ضرب غرائب الإبل، ولا تجد لذة الانتصار إلا في اختلاق بعض الأحاديث عن إسلام فلان أو علان، وكأن "دين أبوهم"، سيعيد الشهداء والنازحين إلى بيوتهم، أو سيوقف آلة القتل الصهيونية في فلسطين ولبنان وسوريا واليمن، وسائر بلاد العرب، أو سيجعلنا نشعر، ولو مرةً واحدة فقط، أننا فاعلون، أو لنا أي "لزمة" في هذا العالم المخبول.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image