لم أشعر يوماً برغبة ملحّة في "العودة" إلى البلاد. ولدت في الرمثا، شمال الأردن، كلاجئة فلسطينيّة. ولم أشعر بالرغبة، إلا بعد أن أحببت شاباً من فلسطين. تزوجته، وقرّرنا أن نقيم معاً في فلسطين.
فانتقلتُ إلى رام الله قبل نحو أربع سنوات. جئت إلى البلاد بتصريح "زيارة عمل". ومثل أي فلسطينية أو فلسطيني في الشتات، تكون النية الحقيقيّة وراء هذا التصريح، الحصولَ على الإقامة، ثم "لمّ الشمل" أي الهوية الفلسطينية. وذلك تبعاً للقانون الإسرائيلي الذي يعطي الأولوية في الحصول عليها لمن يقيم في الضفة الغربية.
لكن دخول ابن الشتات إلى فلسطين، بتصريح زيارة من السلطة الوطنية الفلسطينية أو بفيزا من إسرائيل، يمنحه إمكانية التنقل في كل فلسطين التاريخية ضمن المدة التي يحدّدها التصريح أو الفيزا. وبعد انقضاء المدة، عليه الرجوع من حيث جاء.
وفي حالتي الشخصية، ليس هناك رجوع أبداً، قبل أن أحصل على لم الشمل. فمغادرة الشخص الذي خالف مدة تصريح الزيارة الصادر عن السلطة الفلسطينية أو الفيزا الإسرائيلية، يمنعه من دخول البلاد مرة أخرى.
وبالتالي، إن أراد البقاء، لا يمكنه التنقل بشكل سهل وآمن بين المدن الفلسطينية، وعبر الحواجر الإسرائيلية التي تطلب الهويات، إلا نادراً، وتحت خطوات احتياطية مقيتة ترصد أحوال الطرق وديناميكيتها.
ربما كان قراري الإقامة الدائمة في فلسطين عاطفياً أو اعتباطياً. لكنه كان، وما زال، وسيلتي الوحيدة لإيجاد حياة "طبيعية" مع زوجي وابنتيّ. وعلى الرغم من تحذير الكثيرين لي من الصعوبات التي سأواجهها في الحركة بعد انتهاء المدة المحددة لي في تصريح الزيارة -وهي شهر واحد فقط من تاريخ الدخول إلى فلسطين- إلى حين حصولي على لم شمل، إلا أن ذلك لم يغيّر في الأمر شيئاً.
ربما كان قراري الإقامة الدائمة في فلسطين عاطفياً أو اعتباطياً. لكنه كان، وما زال، وسيلتي الوحيدة لإيجاد حياة "طبيعية" مع زوجي وابنتيّ
أنا، وكل من يقيم في فلسطين دون هوية فلسطينية، ما زلنا بانتظار أن توافق إسرائيل على طلباتنا للمّ الشمل، فتصبح إقامتنا "طبيعية"، ونسترجع إمكانية السفر من البلاد والعودة إليها.
لكن هذا القهر الذي يسببه انتظار "شرعيتك" والسماح لك بالحركة، يقابله استهجان من العنصرية التي يمارسها الفلسطيني بحقّي، لمجرد كوني لا أحمل هوية فلسطينية، ولا أتحرك بسهولة بين المحافظات. لكن ماذا عن حركة حملة الهوية الفلسطينية؟
كيف يضمن الفلسطيني للفلسطيني حياة كريمة؟
تقدمت لوظيفة في أحد المؤسسات الفلسطينية، التي طالما كانت بنظري ذات رؤية سامية، تتطلّع إلى "حق الفلسطيني في التمتع بحياة كريمة". بمجرد أن قرأت هذه الجملة، تجدد الأمل داخلي؛ أمل في أن نملك مؤسسات تقاتل إلى جانبنا، كأفراد فلسطينيين، من أجل هذا الحق. صرت أبحث في برامج المؤسسة ومشاريعها، إلى أن تأكدت من أن رؤيتها وأهدافها تتوافق مع رؤيتي ومبدأي الشخصي. ثم، كان للمؤسسة رأي آخر.
اجتزت الاختبار الأول للوظيفة، ثم حددت لي المؤسسة موعداً للمقابلة الثانية؛ الأمر الذي رفع احتمال حصولي على الوظيفة، سيما وأني قمت بالبحث اللازم عن المؤسسة وعملها، وعن شكل خطة عملي في حال تحقق الأمر.
استمرت المقابلة مدة ساعة وعشر دقائق. وربما اعتبرتها ساعة مفصلية لما احتوته من نقاش دار بيني وبين اللجنة، والذي بدا أنه ترك على وجوههم انطباعاً جيداً. إلا أن الآمال جميعها خابت حين سألني موظف الموارد البشرية عن لهجتي. ثمّ تحوّل الحديث، وصار الموضوع "لهجتي الأردنية"، ثم طريقة دخولي إلى فلسطين، وإمكانات تنقلي وحركتي في الضفة الغربية. في تلك اللحظة، شعرت أن الهوية الفلسطينية ستكون عائقي الوحيد أمام حصولي على الوظيفة.
ولم أحصل عليها. ليس بسبب ادعاء المؤسسة كثافة المنافسة على الوظيفة. بل بسبب عدم قدرة المؤسسة على تطبيق رؤيتها ورسالتها المعلنة: "حق الفلسطينيين في التمتع بحياة كريمة". كان بوسعها، على سبيل المثال، أن تنادي بهذا الحق لحملة الهوية الفلسطينية فقط، أو لمن لا يعانون من عوائق حركية، أياً كان نوعها. إلا أن ما حدث بالنسبة لي هو جبن لا يغتفر.
كيف لفلسطيني يعاني منذ أكثر من سنة من عرقلة إسرائيل لحركته بين محافظات الضفة، أن توجّه إليه رسالة مفادها أن عدم حصوله على لم الشمل من إسرائيل، سيعيق وصوله إلى فعالية ما أو مهمة عمل خارج رام الله؟ ألم تتعطل معظم مشاوير المؤسسات في السنة الأخيرة للسبب ذاته؟ ألا يطلب الجيش اليوم من موظفي الأونروا مثلاً أن يبرزوا هويتهم الشخصية بدلاً من هوية الأمم المتحدة ويمنعهم من التنقل؟
كم فلسطينية منعت من حضور زفافها بسبب جندي إسرائيلي تافه، وقف على الحاجر، وقرر أن يعرقل فرحها؟ وكم مرة في الأسبوع يعلق الفلسطيني على حاجز قلنديا، بين رام الله والقدس، لساعات وساعات، حتى يقرر الجندي له أن يعبر؟ وكم مرة تقرر إسرائيل أن تغلق الحدود البرية بين الأردن والضفة، لأنها هكذا تريد، وهي حرة فيما تريد؟
كل ما أتمناه لنا، كفلسطينيين، أن نحظى بجرأة أكبر من هذه التي نمتلكها الآن، وأن نحدق في الواقع كما هو؛ بسوئه ووحشيته التي يفرضها الاحتلال، وألا نستمر في تقديم أنفسنا كشعب يلتزم بكل ما تقرره آلة القتل والإبادة
لكن الأهم، كم مرة تجرأ الفلسطيني على معاركة مخاوفه التي تتعاظم كل يوم؟ وها هي تجعله بكل بساطة مذعوراً ولا يجرأ على توظيف شخص ينتظر أن يحمل ورقة الهوية الفلسطينية.
فالفلسطيني الذي لا يحمل هوية، تعاقبه إسرائيل، إن أردات، بترحيله إلى بلده التي جاء منها، أو بسجنه ثم ترحيله. لكن هل ستسجن إسرائيل كل من ينتظر موافقتها على لم الشمل؟ هل ستسجن آلاف المنتظرين؟ أم أن الحقيقة أن إسرائيل قلبت معاييرنا وفرضت مخاوف جديدة على المؤسسات؟ فجعلت الأخيرة تفضّل أن تمشي "الحيط الحيط وتقول يا رب الستيرة".
أن نحدّق في أنفسنا
لا أستطيع الاستسلام لفكرة أن الخوف قيّدنا لهذه الدرجة، وأن المقتلة التي حصلت في غزة والضفة، لم تقتل خوفنا، أو تحررنا منه. ولا أعرف كيف يمكن لمن يواجه القمع والتمييز بصورة يومية، أن يمارسه بصورة أخرى تجاه فلسطيني آخر.
تؤلمني فلسطين اليوم، رغم أنني أعاني ما يعانيه كل فلسطيني، وما يعانيه محمود عباس شخصياً؛ لدي موانع حركية تفرضها إسرائيل على كل فرد فلسطيني، أولهم الرئيس عباس حين منعته إسرائيل من دخول غزة، وثانيهم طالب جامعي لن يحضر إلى الجامعة اليوم، أو موظف لا يستطيع عبور الحاجز عند مدخل قريته، وآخرهم موظف يقود سيارة مؤسسة مدنية محمية من جهات عدة دولية وأوروبية، لكن الجندي لن يكترث لأمره، ولأمر أن "يحيا الفلسطيني بكرامة وحرية"، فيأمره أن يعود أدراجه.
ربما تقرر إسرائيل إلغاء قوائم لم الشمل التي تنتظر مصادقتها عليها، وبالتالي تظل الموانع الحركية قائمة. وربما تفرض نظاماً جديداً أكثر تشدداً في ظل خطط ضمّ الضفة أو تغيير الوضع القانوني لساكنيها. لذا، على كل فلسطيني يعيش فيها أن يحدث في هويته الخضراء، ويتذكّر أنها لا تسمح له بالتحرك متراً واحداً بعد الحاجز الإسرائيلي، إن قرر الجندي له أن يعود إلى الوراء.
كل ما أتمناه لنا، كفلسطينيين، أن نحظى بجرأة أكبر من هذه التي نمتلكها الآن، وأن نحدق في الواقع كما هو؛ بسوئه ووحشيته التي يفرضها الاحتلال، وألا نستمر في تقديم أنفسنا كشعب يلتزم بكل ما تقرره آلة القتل والإبادة، سيما وأنها تدوس على قراراتنا البسيطة؛ في بيوتنا، قبل أماكن عملنا. وربما ستتحكم بعد قليل في خيالنا، إن لم يكن قد حدث هذا بالفعل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
mahmoud fahmy -
منذ 4 ساعاتكان المفروض حلقة الدحيح تذكر، وكتاب سنوات المجهود الحربي، بس المادة رائعة ف العموم، تسلم ايديكم
KHALIL FADEL -
منذ يومراااااااااااااااااااااااااائع ومهم وملهم
د. خليل فاضل
Ahmed Gomaa -
منذ يومينعمل رائع ومشوق تحياتي للكاتبة المتميزة
astor totor -
منذ 6 أياماسمهم عابرون و عابرات مش متحولون
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامفعلاً عندك حق، كلامك سليم 100%! للأسف حتى الكبار مش بعيدين عن المخاطر لو ما أخدوش التدابير...
Sam Dany -
منذ أسبوعانا قرأت كتاب اسمه : جاسوس من أجل لا أحد، ستة عشر عاماً في المخابرات السورية.. وهو جعلني اعيش...