شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
لماذا لا توجد رواية خليجية لها؟… الأصول الوثنية للسيرة الهلالية

لماذا لا توجد رواية خليجية لها؟… الأصول الوثنية للسيرة الهلالية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والحقيقة

السبت 25 يناير 202512:56 م

مفارقة عجيبة ينطلق منها فتحي عبد السميع، الشاعر والباحث في التراث الشعبي، لاستقصاء جذور السيرة الهلالية، منطلقاً من عدة أسئلة حول الجذور العميقة لتلك السيرة، وسر اختفائها في موطن نشأتها: لماذا لا توجد رواية للسيرة الهلالية في الدول الخليجية أو بلاد نجد التي خرجت منها؟

هذه السيرة التي جمعها الشاعر المصري الراحل عبد الرحمن الأبنودي في نحو مليون بيت شعري، واستقرت في المخيلة الشعبية كواحدة من أهم السير التي ترصد تحركات القبائل العربية من نجد إلى تونس الخضراء، وتم توثيقها ضمن قائمة التراث الإنساني اللامادي باليونسكو عام 2008.  

يطرح الباحث عدة أسئلة حول مبدع الرواية الأصلية للسيرة الهلالية، وهو مجهول بالطبع، ويتساءل ضمنياً عما إذا كانت هناك جذور وثنية جاءت من الحضارات القديمة عبر الميراث الشعبي ومخياله الحيوي، لتختبئ في تلك السيرة الملحمية التي كتب لها البقاء والانتشار والذيوع والتمدد على أيدي أجيال متتابعة من الرواة الشعبيين، على عكس سير أخرى مثل "سيف بن ذي يزن" و"الأميرة ذات الهمة" و"سيرة حمزة البهلوان" وغيرها من السير التي اندثرت شعبياً ولم يتبق منها سوى أثر بعد عين في المجال البحثي.

غلاف كتاب "التراث الخفي"

يتقصى عبد السميع جذوراً سحيقة للسيرة الهلالية؛ بدءاً من قصة العشق الإلهي التي تنتهي بمأساة بين إنانا وتموز السومريين. ويقول في مقدمة كتابه "التراث الخفي: الأسطورة السومرية والرواية الخليجية للسيرة الهلالية" الصادر عن دار "وعد" بالقاهرة 2024 : "لم يكن تموز وإنانا وجهين مثاليين ونموذجين سماويين لنساء سومر ورجالها فحسب، بل كانا أيضاً رمزين إلهيين للعملية الجسدية التي تهب السعادة والمتعة، وكان نساء سومر يتوجهن للدعاء إلى إنانا بوصفها الإلهة التي تفتح أرحام النساء".

من هذه القصة بما فيها من عشق جسدي وتفاصيل حسية ونهاية مأساوية بانتقال إنانا للعالم الآخر لمحاولة السيطرة عليه ثم عودتها وإرسال تموز مكانها إلى العالم الآخر وعودته من عالم الأموات في مغامرة مليئة بالألاعيب والخيال الشجي، يتوصل الباحث إلى خيط يربط هذه القصة بالسيرة الهلالية، ويقول لرصيف 22: "عثرت على أسطورة إنانا ودموزي (تموز) ذائبة في طيات الهلالية بشكل يكشف عن مهارات مبدع عظيم، وقد وقفت في البداية عند شخصية من شخصيات الهلالية تم تهميشها أو إهمالها بشكل غريب، وهي شخصية عامر الخفاجي ملك العراق في الهلالية، لقد ضاعت تلك الشخصية في ظل اهتمام الدارسين والجمهور بشخصية أبي زيد، والسلطان حسن، ودياب بن غانم وغيرهم، وهكذا رأيت أن شخصية الخفاجي تستحق وقفة عميقة. خاصة أن السيرة الهلالية تقدم أحداثاً تثبت فيها أن الخفاجي شديد الطهر والنقاء، وأقوى من دياب الزغبي والسلطان حسن والزناتي خليفة، الذي هزم معظم فرسان الهلالية لكنه هرب أكثر من مرة أمام الخفاجي، ولم يستطع قتله إلا بالغدر والخديعة. وهكذا قمت بمقارنة السيرة بالأسطورة انطلاقاً من تلك الشخصية المفتاحية".

يتحدث الكتاب عن طبقات من التراث تخفي بعضها بعضاً، مثل جدار قديم يطلى أكثر من مرة، ومع كل مرة يختفي اللون القديم للجدار. من هنا يتتبع كيف تسربت قصة إنانا وتموز بكل ما تحمله من معان ورموز واحتفالات وثنية إلى الحضارات التالية، وكيف اندست داخل الأديان السماوية؛ فمثلاً يعتبر سِفر "نشيد الإنشاد" امتداداً طبيعياً لتلك الأسطورة، وفي التراث المسيحي يشير إلى صلب المسيح وقيامته والعذاب الذي تلقاه من الكهنة، كانعكاس بشكل أو آخر لهذه الأسطورة، وفي الإسلام يعتبر الطقوس التي تقام في ذكرى كربلاء، إحياءً لسيرة الإمام الحسين، امتداداً أيضاً لهذه الأسطورة، إلى أن تسربت في التراث الشعبي.

ونجح المبدع الأصلي "المجهول" للسيرة الهلالية في إخفاء تلك الأسطورة وتخليصها من أبعادها الوثنية داخل جسد السيرة الهلالية. وهنا يترك الباحث الجلد واللحم البادي في السيرة الشعبية، ويتوغل ليتلمس عظامها الخفية. وعن هذا الأمر يوضح عبد السميع: "لقد ناديت بتحرير السيرة من قبيلة بني هلال، لأنها سيرة أمة وليست سيرة قبيلة، ورفضت الدراسات التي تربطها بفترة تاريخية معينة، لأن هذه الدراسات غير مجدية؛ لأننا أمام عمل إبداعي، ويجب النظر إلي السيرة على هذا الأساس وحده، كما يجب الابتعاد عن التعامل معها بشكل حرفي. لأن ذلك يدمرها، وأعتقد أنني قدمتُ جديداً من خلال التعامل معها باعتبارها فضاءً رمزياً فيه من التلميح أكثر ما فيه من التصريح. كما أنني قمت بربطها بتراث الشرق القديم باعتباره الرحم الحقيقي الذي وُلدت منه الهلالية".

وحول امتدادات الأسطورة السومرية في التاريخ، يستشهد الباحث بكتاب "الفلاحة النبطية"، المنسوب لابن وحشية في القرن الرابع الهجري، الذي ذكر الأسطورة ونواح الناس على تموز، إله الماشية والخضار، في أول الشهر المسمى باسمه. كما يستعرض أسماء الشهور السريانية كالتالي: "بحسب ما وجدت في كتب النبط، فتموز اسم رجل له قصة عجيبة قُتل قتلات قبيحة بعضها بعقب بعض، وشهورهم أسماء رجال أفاضل من الذين كانوا يسكنون إقليم بابل، فتشرين الأول وتشرين الثاني اسما رجلين كانا فاضلين في العلوم، وكذلك كانون الأول وكانون الثاني، وشباط رجل نكح ألف امرأة أبكاراً ولم ينسل نسلاً، فجعلوه في آخر شهورهم لنقصانه من النسل، فصار النقصان من العدد فيه".

ثلاث قصص يضمها الكتاب ويربط بينها: قصة إنانا وتموز السومرية، وقصة العقيلي واليازية وهي من السير الخليجية، وقصة أبي زيد الهلالي والأميرة عالية. ويرى الباحث أن القصص الثلاث مرتبطة إلى حد كبير، وبها من الإشارات والرموز ما يجعلها تقترب من التطابق مع إخفاء وتغيير بعض معالم القصة هنا وهناك.

ويؤكد عبد السميع: "السيرة الهلالية عمل إبداعي عظيم، وربطها بقبيلة بني هلال خطأ كبير، وهي عمل إنساني قبل كل شيء، وإن تفاعلت معه الشعوب العربية من الخليج إلى المحيط، لأنها تجسد أزمة إنسانية عامة، وهي أزمة عنف الطبيعة، ومعاناة الناس من ضعف الموارد الطبيعية التي تكفل لهم الحياة، وتقلبات المناخ ومواجهة تحديات القحط والجدب والتصحر، وتعرضهم لمخاطر الموت جوعاً والفناء الجماعي، وتلك القضايا حديث العالم الآن".

السيرة الهلالية في فلسطين تعكس صورة الفدائي في شخصية أبي زيد الهلالي، وفي الأردن تعكس الطقوس والعادات الراسخة لدى فلاحي الأردن، وفي ليبيا تنطبع على البطل صورةُ عمر المختار

ويضيف: "بدأت رحلتي من سؤال حول غياب الرواية الخليجية للسيرة الهلالية، رغم أن أحداث السيرة بدأت في الجزيرة؛ ففيها عاش ومات جيل الآباء، السلطان سرحان  رزق بن نائل وغيرهما، وفيها وُلِد أبطال الهلالية، ومنها رحلوا إلى تونس. وقد ظهرت روايات الهلالية في الأردن وفلسطين وليبيا وتونس، ووصلت حتى نيجيريا. فكيف تختفي في الخليج؟ هكذا توصلت إلى افتراض وجود رواية  خليجية للهلالية لكنها مفقودة، ونظراً لأن الهلالية يمكن أن تتفتت إلى حكايات شعبية صغيرة، فقد بحثتُ في تلك الحكايات، وقمت بمقارنة حكاية خليجية بالهلالية، ووجدتها تتطابق معها وإن اختلفت الأسماء وبعض الأحداث. وهذا طبيعي، لأن الهلالية تتأثر بكل مكان تعيش فيه، وملامحها تتغير كي تناسب طبيعة البيئة التي تعيش فيها. فالهلالية في رواية أردنية، تختلف عنها في رواية فلسطينية أو ليبية، على نحو ما وضَّحتُ في الكتاب".

غلاف كتاب "السيرة الهلالية"

وفي الكتاب ربط ذكي بين الأسطورة السومرية ومجموعة "الشعراء التموزيين"، ومنهم بدر شاكر السياب وأدونيس ومجموعة "مجلة شعر" الذين أطلق عليهم جبرا إبراهيم جبرا هذا اللقب لاستدعائهم أسطورة تموز في أشعارهم.

كما يربط بين الشخصية الرئيسية في السيرة الهلالية والأبطال الشعبيين في الثقافة والمجتمعات العربية، فالسيرة الهلالية في فلسطين تعكس صورة الفدائي في شخصية أبي زيد الهلالي، وفي الأردن تعكس الطقوس والعادات الراسخة لدى فلاحي الأردن، وفي ليبيا تنطبع على البطل صورةُ عمر المختار.

كتاب "التراث الخفي" ليس المحاولة الأولى لفتحي عبد السميع في خوض مغامرة جريئة في عمق التاريخ، فله من قبل دراسة بعنوان "القربان البديل: طقوس المصالحات الثأرية في الصعيد"، و"وجوه شهريار" التي تناول فيها العديد من الرموز والشخصيات التاريخية والدينية المخفية في حكايات "ألف ليلة وليلة".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard
Popup Image