غيّرت الحرب الأهلية المستعرة في السودان، منذ منتصف نيسان/أبريل 2023، الكثير من ملامح مدينة الهلالية التي طالما كانت مدينة العلم والمعرفة وكثرت بها "الخلاوي" أو مجالس تدارس الصوفية والعلوم الدينية المختلفة، بل ومنها خرج الشاعر السوداني الهادي آدم (1927–2006) الذي تغنّت كوكب الشرق أم كلثوم بكلماته في واحدة من أهم وأشهر أغانيها "أغداً ألقاك".
وتتكرّر الاستغاثات عبر وسوم من بينها #أنقذوا-الهلالية و#الهلالية-تستغيث، التي تعرّضت لاجتياح من قبل قوات الدعم السريع في 25 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، وبعد ترويعهم ونهب ممتلكات الأهالي، فرضت هذه القوات حصاراً يفتقر إلى أدنى مقومات الحياة على المدينة كاملة، بعد تدميرها 10 آبار مياه بالكامل، وتدمير المستشفى الرئيسي في المدينة، فاضطر بعض الأهالي إلى تناول حبوب قمح ملوّثة وشرب مياه غير صالحة، نظراً لتفشي الجوع والعطش وانعدام الأمن الغذائي تحت الحصار، ما تسبّب في تسمم الكثيرين ووفاة العشرات.
الهادي آدم، شاعر "أغداً ألقاك؟"
ولد آدم في الهلالية قبل أن يرتحل إلى مصر، حيث تخرّج من كلية دار العلوم في جامعة القاهرة، وتحصّل على الليسانس في علوم اللغة العربية وآدابها، علاوة على دبلوم في التربية من جامعة عين شمس المصرية. لاحقاً، حصل على درجة الدكتوراه الفخرية من جامعة الزعيم الأزهري في السودان.
غناء أم كلثوم لإحدى قصائده هو أكثر الأسباب التي ساهمت في شهرة شاعر "أغداً ألقاك"، الهادي آدم. وكانت له مرثية شهيرة في وداع الرئيس المصري جمال عبد الناصر بعنوان "أكذا تفارقنا"
عمل الهادي بدايةً معلماً في وزارة التعليم السودانية، وتنقّل بين مراحل تعليمية مختلفة، واشتهر كمعلم للمرحلة الثانوية تحديداً.
في المجال الثقافي، اشتُهر آدم شاعراً فذاً، وكان ديوان "كوخ الأشواق" باكورة أعماله وأشهرها، ولديه مجموعة شعرية كاملة تضم كل أعماله الشعرية ("كوخ الأشواق"، "نوافذ العدم" و"عفواً أيها المستحيل")، صدرت عن مؤسسة أروقة الثقافية، وفق المجلة الثقافية الجزائرية التي تؤكد أنه "رغم انتمائه لجيل سابق للحركة الشعرية المعاصرة، فإن الهادي آدم يُعد من الشعراء المحدثين".
ومن أهم إسهامات الهادي آدم الأخرى في مجال الكتابة الأدبية هي مسرحية "سعاد". لكن غناء أم كلثوم لإحدى قصائده هو أكثر الأسباب التي ساهمت في شهرة صاحب قصيدة "أغداً ألقاك". وكانت له مرثية شهيرة في وداع الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر بعنوان "أكذا تفارقنا".
بوجه عام، يُعتبر آدم من الرواد الأوائل الذين ساهموا في نهضة الشعر في السودان، وتحديداً عن طريق الجمعيات الأدبية التي كان يشرف عليها في المدارس التي عمل فيها في مناطق مختلفة من البلاد.
ووفق ما نشره عام 1970، الشاعرُ والأديب المصري صالح جودت، الذي ساهم في غناء أم كلثوم كلماتِ الشاعر السوداني، فإن أم كلثوم اختارت "أغداً ألقاك" من بين سبع قصائد لسبعة شعراء سودانيين لتغنيها إبان زيارتها للسودان في عام 1968. وقد أجرى آدم العديد من التغييرات على كلمات الأغنية لحرصه على أن تغنيها كوكب الشرق، وفق جودت.
الهلالية التي تغنّى بها الهادي آدم
إلى ذلك، تُعرف الهلالية بأنها "عروس ولاية الجزيرة"، وقد تغنّى الهادي آدم بجمال الطبيعة فيها قائلاً في قصيدة وصفية بعنوان "قريتي" في ديوانه الأبرز "كوخ الأشواق":
قلب الطبيعة في جنبيك خفاقُ
والنهرُ خلف رُباك الفيحِ دفاقُ
للبدر في رملك التبري عربدةٌ
وللصباح إذا حياك أشواقُ
وللنسيم إذا مرت بواكرهُ
على محياك بالأسحار إطراقُ
تعد الهلالية من أقدم المدن التي قامت على الضفة اليمنى للنيل الأزرق, وتبعد 100 كلم عن العاصمة الخرطوم جنوباً. وقد اشتُهرت هذه المدينة منذ القدم بتلاحم نسيجها الاجتماعي وتعاضد أهلها في السراء والضراء.
أما عن سبب تسميتها، فيقال إنه يرجع إلى سكانها الأوائل، قبائل بني هلال ود حمد ود رافع، أحد فروع قبيلة رفاعة (أو الرفاعيين)، وقد أثبتت الوثائق التاريخية أن الهلالية كانت عاصمة مملكة العبدلاب، تحديداً في عهد الأمين ود مسمار، وهو بطل المعركة المشهورة تاريخياً بمعركة الهلالية.
كما تشتهر المدينة بالنشاط الصوفي، وتتعدد بها الطرق الصوفية، أشهرها الصادقاب مسيد الشيخ الطيب علي المرين، ومسيد الشيخ أبو سقرة، ومسيد الشيخ الطيب أبو صباح ومسيد الشيخ عبد الباسط. علاوة على الطرق الختمية، ومن أبرزها خلوة الخليفة العوض، وخلوة جدي حسن، وخلوة الحضيري. كما تكثر بها المساجد وتزيد عن 16 مسجداً وجامعاً، علاوة على نحو 20 من "الخلاوي" والزوايا المنتشرة في أنحائها.
الحرب تطمس وجه الهلالية المشرق
على مدار الأيام الأخيرة تتعرّض مدينة الهلالية إلى حصار شديد وجرائم وانتهاكات من قبل قوات الدعم السريع بذريعة أنها "الحاضنة" لأحد قادة الحرب المنشقين عنها أخيراً.
تُعرف الهلالية بأنها "عروس ولاية الجزيرة"، وقد تغنّى الهادي آدم بجمال الطبيعة فيها قائلاً في قصيدة وصفية بعنوان "قريتي" في ديوانه الأبرز "كوخ الأشواق"
وبحسب ما خطّه السياسي السوداني ياسر عرمان، في مقال رأي حديث، فإنه بعكس تصوير الهلالية على أنها حاضنة الزعيم المنشق عن الدعم السريع والملتحق بالجيش السوداني أخيراً، كيكل، فإن "الهلالية بيت لكل السودانيين، وأنجبت الأستاذ الجليل والشاعر الهادي آدم الذي تغنّت بشعره سيدة الغناء أم كلثوم (أغداً ألقاك) وستلتقي الهلالية غداً بالنور والثورة والشباب".
ووفق رويترز، يناقش مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة مشروعَ قرارٍ صاغته بريطانيا يطالب طرفَي الصراع في السودان بوقف الأعمال القتالية والسماح بتسليم المساعدات بشكل آمن وسريع ودون عوائق عبر خطوط المواجهة والحدود.
وتسببت هذه الحرب في أكبر أزمة نزوح في العالم، وموجات من العنف العرقي ووجهت معظم الاتهامات إلى قوات الدعم السريع التي ترفض الاتهامات وتشير أحياناً إلى أخطاء فردية من "متفلتين".
كما أن أكثر من نصف سكان السودان، أي نحو 25 مليون شخص، يعانون من انعدام الأمن الغذائي الشديد، بحسب الأمم المتحدة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...