في الدورة الرابعة عشرة لمهرجان الأقصر للسينما الإفريقية (9 ـ 15 كانون الثاني/يناير 2025)، سألتُ صديقاً اُعتقل أكثر من سنتين عن طبيعة الاتهام؟ سؤال ساذج بالطبع، فالكثيرون غابوا في المعتقلات فترات أطول، من دون أن توجّه إليهم اتهامات. توجد اتهامات مائعة يسهل إلصاقها بالملايين. الاعتقال ينفي إجراءات طبيعية تنتهي بالمحاكمة، والتعجيل بالمحاكمة يفيد الأبرياء؛ فلا يطول حبسهم الاحتياطي على ذمة القضايا. باختصار، قال العائد إلى الحياة مستعيداٌ تلك الآلام: "ندفع فاتورة يناير"، يعني ثورة 25 كانون الثاني/يناير 2011. وقبل حلول ذكراها، في السنوات الماضية، تتعرى الأعصاب، ولا تحتمل سريان كهرباء بقوة 220 فولت، فيغيب البعض من باب الاحتياط إلى أن تمرّ العاصفة.
ينتهي مهرجان الأقصر، في دورة شعارها "قمر 14"، أراها الأفضل بأنشطتها وأفلامها، فتنطفئ الفرحة بحبس الشاعر أحمد سراج 15 يوماً على ذمة التحقيق. لسراج دواوين شعرية ومسرحيات وكتب تؤرّخ للثقافة والمبدعين. هذا حظه من المتع الصغيرة، يعتصم بالإبداع، وينأى عن السياسة. وفي منصة "ذات مصر" أجرى حوارات مشرّفة مع مبدعين مصريين وعرب. برنامج سراج، الدالّ على استيعابه المعرفي للقضايا والضيوف، ليس له مكان في الفضائيات المصرية، الحكومية الصريحة والخاصة الحكومية. لو أن الأمر بيدي لكلّفته بأن يقدم، في تلفزيون الدولة، برنامجاً يستر عورة الضحالة والتفاهة. بدلاً من مكافأته يُحبس؛ لأنه أجرى حواراً مع الدكتورة ندى مغيث تتضامن مع زوجها أشرف عمر، رسام الكاريكاتير المحبوس.
أحمد سراج مدرّس، خبير تربوي، وليس صحفياً محترفاً. أخشى الإطالة؛ فأنا في الحقيقة خائف، لا أحتمل ما قد يؤدي إليه جنون تعرِّي الأعصاب، قبل ذكرى ثورة توزّع المشاركون فيها، المراهنون عليها، بين الاعتقال والمنفى والموت والصمت اكتئاباً. ولا أملك عزيمة وول سوينكا وفرانز فانون. في مهرجان الأقصر فيلمان، كلاهما فاز بجائزة، كلاهما يتوسل بتاريخ بحْث شعب عن الحرية. أي فرق بين الاستقلال عن احتلال أجنبي، والتحرر من استعمار "وطني"؟ الفيلمان هما"The Man Died" للمخرج النيجيري أوام أمكبا، و"FANON" ذو العنوان الطويل "الحكايات الحقيقية لمستشفى بليدا جوينفيل للأمراض النفسية" للمخرج الجزائري عبد النور زحزاح. الفيلم الأول عن اعتقال سوينكا أول إفريقي يفوز بجائزة نوبل للآداب عام 1986، والثاني عن فترة قصيرة حاسمة في حياة فانون (1925ـ1961).
في مهرجان الأقصر فيلمان، كلاهما فاز بجائزة، كلاهما يتوسل بتاريخ بحْث شعب عن الحرية. أي فرق بين الاستقلال عن احتلال أجنبي، والتحرر من استعمار "وطني"؟ الفيلمان هما: "The Man Died" للمخرج النيجيري أوام أمكبا، و"FANON"
في فيلم "مات الرجل" يُزجّ بامرأة في زنزانة سوينكا (الممثل البريطاني النيجيري والي أوجو)، يدفعها الحارس بخشونة فتنفكئ. القادمون من عتمة الممر إلى ظلام الزنزانة لا يرون، يبصرون وينظرون ولا يرون. ثم تنهض المرأة، وفي الضوء الشحيح تتأمل ملامح وجه الرجل الصامت في الزاوية. تعيد التأمل ولا تصدق، فتسأله: "أنت الكاتب سوينكا؟". لا يرد احتراماٌ لاسترسالها في الكلام، ولعله لا يجد ما يقوله. تحتمل المواقف العبثية ما يفوق قدرة اللغة على التصوير. تتأسى على نفسها وعلى محنة الكاتب، وتخبره أنها طبيبة، وأنها شاهدت في لندن عرضاٌ لمسرحيته. في العاصمة البريطانية حفاوة بإبداع كاتب نيجيري معتقل، يشهد موت سجناء، ويهدده العسكر بمثل هذا المصير.
فيلم "مات الرجل" مدته 134 دقيقة، وفاز بجائزة رضوان الكاشف التي تقدمها مؤسسة شباب الفنانين المستقلين في مصر، لأفضل فيلم يحمل هوية إفريقية. تسلم الجائزة مخرج الفيلم النيجيري أوام أمكبا، أستاذ الدراما والسينما والتحليل الاجتماعي والثقافي في جامعة نيويورك. عمل أمكبا أكثر من عشرين سنة مساعداً لسوينكا في جامعة نيويورك. وفي هذا الفيلم يتوقف أمام فترة اعتقال سوينكا عام 1967، حتى خروجه بعد 22 شهراً. في عام 1960 نالت نيجيريا استقلالها عن الاستعمار البريطاني، ولم تتحرر من ميراث الاستبداد. طوال فترة اعتقال سوينكا ظل صلباً، يتحدى نظاماً عسكرياً يمارس التمييز العرقي. الكاتب يسمي الأشياء بأسمائها، يقول إن ما يمارسه النظام العسكري ضد أهالي الإقليم الشرقي "إبادة جماعية".
هنا والآن اتهامات حمقاء بالانضمام إلى جماعة إرهابية، قد تمسّ شيوعيين وليبراليين يعادون التنظيمات الدينية. وهناك في نيجيريا، 1967، اُتهم سوينكا بمقابلة "أوجوكو" قائد الإقليم الشرقي. لا ينكر سوينكا ذلك اللقاء، بل يرفض الاتهام بالتآمر على الحكومة، ويؤكد الرغبة في التوسط لإنهاء الحرب الأهلية، بحكم واجبه الإنساني الرافض للتمييز العرقي، بناء على تخمين دلالة ألقاب العائلات، وهي وسيلة مارسها الحكم للانتقام من أهالي الإقليم الشرقي. لم ينكسر في المعتقل، واصل الكتابة على علب السجائر وورق الحمام، وكلماته شقّت الطريق إلى النور، والروح المراهنة على العدل والحرية انتصرت على السجان.
لا نهاية للتاريخ، والمجد للمؤمنين بحريات الشعوب. نسي التاريخ جلادي سوينكا، حتى الحاكم العسكري لنيجيريا عام 1967 لا نتذكر اسمه، ومات فانون وهو يحلم بتحرير الجزائر
أما فيلم "فانون"، ومدته 90 دقيقة، ففاز بجائزة لجنة التحكيم الخاصة. الجائزة مستحقة ومتوقعة، لفيلم إنساني يسلّط كاتبه ومخرجه عبد النور زحزاح الضوء على فترة من حياة الطبيب المناضل الملهم فرانز فانون، حين الْتحق للعمل بمستشفى بليدا جوينفيل للأمراض النفسية، بين عامي 1953 و1956. في المستشفى أطباء نفسيون فرنسيون، وممرضون، ونزلاء جزائريون. يجد فانون، الفرنسي بحكم مولده في جزيرة مارتينيك، ممارسات عنصرية يمارسها أطباء فرنسيون متغطرسون، يرون الجزائريين والأفارقة لديهم نقص في الإنسانية. عنصرية أطباء الأمراض النفسية والعصبية جعلتهم يزعمون أن مخ الجزائري دون مستوى مخ الأوروبي. بموجب هذا التصنيف، غير العلمي غير الآدمي، يحق لفرنسا احتلال الجزائر.
جاء فانون (الممثل الفرنسي من أصل هاييتي ألكسندر ديسان) لإدارة المستشفى، مستنداً إلى وعي بطبيعة الاستعمار، ورغبته في الهيمنة الاقتصادية، والاستلاب النفسي للشعوب المحتلة، كما عبر عن ذلك عام 1952 في كتابه "بشرة سوداء، أقنعة بيضاء". وفي أسلوبه العلاجي للمرضى النفسيين حرص على النظر إليهم باعتبارهم بشراً يستحقون الرعاية لا العقاب. يُعاقب السجناء والمرضى بمحو أسماءهم، وتستبدل بها أرقام أو أسماء أخرى. وجد فانون مريضة تقول إن اسمها كليوباترا، ثم تقول إنها جولييت. رفض التخفي، أو الإخفاء، وراء أقنعة. من الإهانة نزع الاسم عن صاحبه. شجّع المريضة على الاعتزاز بنفسها وباسمها، وأخذها للإقامة في بيته، وهناك استردت آدميتها، وقالت لزوجة فانون إن اسمها "يامينا".
العمل يأخذ فانون، يستهلك وقته واهتمامه، حتى إن زوجته تتبرم من كلامه الدائم عن المستشفى (الذي يحمل حالياً اسم فانون)، لكنه انتمى إلى المرضى، وآمن بضرورة الاعتناء بهم. واستمر التعنت الفرنسي الرافض لأسلوب فانون العلاجي، وقد حطّم قيود الأساليب العنصرية في التعامل مع المرضى. وعلى الرغم من انطلاق شرارة الثورة الجزائرية في نهاية عام 1954، لم يلجأ المخرج إلى رفع نبرة الحماسة، وحافظ على همس يميز الفيلم الذي يوثق صعود الثورة، فكريا وميدانيا. ويوجه الفرنسيون أصابع الاتهام إلى فانون بالانضمام إلى جبهة التحرير الوطني الجزائرية، هناك قنوات اتصال تخفى على المحتل الفرنسي، لكنه يرى آثارها. فانون يغامر بالانخراط في الثورة، ويراهن على النصر، ويضحي بمنصبه، وتعرضت حياته للخطر، وفي اللحظة المناسبة يتلقى نصيحة بمغادرة الجزائر.
لا نهاية للتاريخ، والمجد للمؤمنين بحريات الشعوب. نسي التاريخ جلادي سوينكا، حتى الحاكم العسكري لنيجيريا عام 1967 لا نتذكر اسمه، ونجا الكاتب من محاولة اغتيال بفضل بمساعدة المساجين الذين أحبوه، وجعلته جائزة نوبل رمزاً عالمياً. كما أسقط التاريخ أسماء الحاقدين على فانون، لعلهم عاشوا يتحسرون على أعمار تبددت في أوهام التفوق العرقي، ثم رأوا كيف مضت حياة طبيب عاش ستة وثلاثين عاماً فقط، وألهمت دراساته مفكري ما بعد الكولونيالية. مات فانون وهو يحلم بتحرير الجزائر، والثورة أجبرت الاستعمار على الرحيل، وكرّمته بدفن كريم في مقابر الشهداء، وله في قلوب الجزائريين مكانة تتوارثها الأجيال.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
mahmoud fahmy -
منذ يومينكان المفروض حلقة الدحيح تذكر، وكتاب سنوات المجهود الحربي، بس المادة رائعة ف العموم، تسلم ايديكم
KHALIL FADEL -
منذ 3 أيامراااااااااااااااااااااااااائع ومهم وملهم
د. خليل فاضل
Ahmed Gomaa -
منذ 4 أيامعمل رائع ومشوق تحياتي للكاتبة المتميزة
astor totor -
منذ أسبوعاسمهم عابرون و عابرات مش متحولون
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعفعلاً عندك حق، كلامك سليم 100%! للأسف حتى الكبار مش بعيدين عن المخاطر لو ما أخدوش التدابير...
Sam Dany -
منذ اسبوعينانا قرأت كتاب اسمه : جاسوس من أجل لا أحد، ستة عشر عاماً في المخابرات السورية.. وهو جعلني اعيش...