في الأول من كانون الثاني/ يناير 2025، وصل وفد سوري يضم وزيرَي الخارجية والدفاع في الحكومة الانتقالية الجديدة إلى العاصمة السعودية الرياض، لتكون المملكة أول وجهة عربية لحكّام "سوريا الجديدة". بعدها بأيام قليلة، استضافت الرياض مؤتمراً بمشاركات عربية ودولية، لبحث مستقبل سوريا، وتزامن مع تصريحات عن إيجابية العلاقات بين البلدين من مسؤولين في كل منهما.
اللافت للانتباه في مسار التقارب بين دمشق والرياض، أنّ الحضور السعودي في المشهد السوري، يأتي في أعقاب متغيّرات واسعة شهدتها المنطقة، يصفها الباحث المصري محمد سليمان، زميل برنامج الأمن القومي في "معهد أبحاث السياسة الخارجية" الأمريكي، بأنها أشبه بـ"سقوط جدار برلين في العام 1989، من حيث التبعات التي لا تتوقّف عند إعادة رسم خريطة سوريا فحسب؛ بل قد تُعيد تعريف ديناميكيات القوة في الشرق الأوسط، لا سيّما بعد أن أصبحت طموحات إيران في حالة يُرثى لها، وتفكّك مشروعها الإقليمي".
عواقب عميقة الأثر
في مقال له نشره المعهد الأمريكي، يقول سليمان، إنّ سقوط نظام الأسد سوف يُخلِّف عواقب عميقةً على المنطقة في السنوات المقبلة، لافتاً إلى أنّ دول الخليج، وكذلك الولايات المتحدة، أصبحت تمتلك نفوذاً جديداً، مالياً ودبلوماسياً، داخل سوريا، ما قد يخوّله التأثير بشكلٍ فاعل في العملية السياسية في سوريا الجديدة.
"أهم دور يمكن أن تلعبه السعودية في الساحة السورية، المساعدة في إعادة بناء دولة المؤسسات السورية على أسس جديدة، ومنع تقسيم البلاد، وعودة اللاجئين والمساعدة في تأهيلهم، وإنهاء ملف التدخّل في شؤون الدول العربية الأخرى، خاصةً لبنان"
وبخصوص الدور الذي يمكن أن تلعبه السعودية في المشهد السوري، يقول الباحث المصري المتخصص في الشؤون العربية، الدكتور مختار الغباشى، الأمين العام لمركز الفارابي للدراسات السياسية، إنّ المملكة تستطيع أن تستحوذ على نفوذ كبير في الساحة السورية، وهي قادرة على ملء الفراغ الذي خلّفه الانسحاب الإيراني من البلاد، منبّهاً إلى أنّ الرياض لديها من الإمكانيات ما يؤهّلها لأكثر حتّى من وراثة تركة إيران في سوريا، بل قد تتخطّى دور تركيا في الساحة السورية.
المكانة الدينية والقدرات المالية تعززان الحضور السعودي
يضيف الغباشي، لرصيف22، أنّ المملكة تتمتّع بمكانة أدبية ودينية في العالم العربي والإسلامي، وليس لدى السوريين وحدهم، كما أنها تمتلك مقومات ماليةً تستطيع من خلالها أن تعوّض سوريا أو غيرها وتغنيها عن حاجتها إلى أطراف إقليمية وأطراف دولية أخرى، ولديها شبكة علاقات إستراتيجية تربطها بالولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والكثير من الدول الغربية أيضاً.
ويصف الباحث المصري ما حدث في سوريا في كانون الأول/ ديسمبر 2024، بأنّه حدث تاريخي صعب تكراره، مشيراً إلى أنّ الانسحاب الإيراني خلّف فراغاً كبيراً، ويجب على القوى العربية الإقليمية أن تسعى لملء هذا الفراغ سريعاً، عادّاً أنّ الرياض تسعى إلى لعب هذا الدور بالفعل، وأنها قد تعزّز جهودها في هذا السياق بمزيد من الخطوات في المستقبل القريب، خاصةً إذا لم تركّز على من يتصدر المشهد في سوريا.
طهران خسرت جل نفوذها
وبخصوص صراع النفوذ الإيراني السعودي في المنطقة، يشرح الغباشي، أن "طهران الآن موجوعة، بعدما خسرت نفوذها إلى حد كبير في لبنان، وخسرته كليّاً في سوريا، خاصةً أن مسؤوليها كانوا حتّى وقت قريب يتفاخرون بأنه لا يمكن حل أي مشكلة في العواصم العربية الأربع (بيروت ودمشق وبغداد وصنعاء)، إلا عبر إيران"، مشدّداً على أنّ طهران "تكبّدت خسارة جيو-سياسيةً كبيرةً".
ينبّه الغباشي، أيضاً، إلى أنّ لبنان الآن يختار رئيسه ورئيس حكومته بعيداً عن التدخلات الإيرانية، كما أنّ طهران لم يعد لها موطىء قدم في الساحة السورية، لأنّ الحكام الجدد في دمشق لديهم موقف معادٍ لإيران، لافتاً إلى أنّ تدخّل السعودية ربما يخدم الأمن القومي العربي في ظل صراع النفوذ الحالي على سوريا.
يتّفق معه الباحث الأردني الخبير في العلاقات الدولية، حازم سالم الضمور، مدير "مركز ستراتيجكس للدراسات والبحوث الإستراتيجية"، إذ يرى أنّ السعودية تستطيع لعب أكثر الأدوار أهميةً في المشهد السوري، وهو يعدّها "الدولة العربية الأولى المرشحة لذلك بحكم مكانتها الإقليمية والدولية"، مضيفاً أنّ من بين الأدوار المنوط بالرياض القيام بها، إعادة سوريا إلى المحيط العربي والدولي، وضمان توازن علاقاتها المستقبلية مع تركيا.
من العوامل التي تساهم في تعزيز الحضور السعودي في سوريا، المكانة الأدبية والدينية للمملكة في العالمين العربي والإسلامي، والمقومات المالية التي تستطيع من خلالها أن تعوّض سوريا وتغنيها عن حاجتها إلى أطراف إقليمية ودولية أخرى، وشبكة علاقاتها الإستراتيجية التي تربطها بالولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والكثير من الدول الغربية
في تصريحات لرصيف22، يقول الضمور، إنّ أهم دور يمكن أن تلعبه السعودية في الساحة السورية، المساعدة في إعادة بناء دولة المؤسسات السورية على أسس جديدة، ومنع تقسيم البلاد، وعودة اللاجئين والمساعدة في تأهيلهم، وإنهاء ملف التدخّل في شؤون الدول العربية الأخرى، خاصةً لبنان، فضلاً عن إمكانية إحياء ملف المفاوضات السلمية على قاعدة المبادرة العربية للسلام، بحيث تُشكّل سوريا الجديدة جزءاً منه، بالإضافة إلى المساعدة في رفع العقوبات الاقتصادية السابقة عنها.
ضبط الحدود ومنع المواجهة مع إسرائيل
وعلى المستوى الاقتصادي، يتوقع الباحث الأردني أن تكون المشاركة السعودية فاعلةً في عملية إعادة الإعمار، وتأهيل الاقتصاد السوري، ودمجه في الاقتصادات العربية والإقليمية والدولية. كما أنها تستطيع، على المستوى الأمني، المساهمة في ضبط الحدود السورية مع الدول المحيطة، وعلى نحوٍ خاص مع الأردن، من أجل القضاء على ظاهرة تهريب المخدرات والسلاح، ونزع فتيل المواجهات المسلّحة مع إسرائيل، ومنع تحول سوريا إلى قاعدة للمجموعات المسلحة العابرة للحدود.
ويرى الضمور، أنّ ملء السعودية للفراغ الحاصل جرّاء الانسحاب الإيراني "سلوك طبيعي"، ويكاد أن يكون "تحصيل حاصل"، حيث أنّ الدور الإيراني في سوريا شكل تحدّياً للإجماع العربي والمصالح القومية العربية، كما أنّ سعي الرياض في هذا الملف يعزّز من الحضور العربي الإقليمي في موازاة الأدوار الإيرانية والتركية والإسرائيلية، مشيراً إلى أنّ السعودية قادرة على فعل ذلك، لكن تلك القدرة وحدها لا تكفي، حيث تحتاج إلى قبول سوري، وتعاون عربي، وتفاهمات إقليمية ودولية.
وعلى الرغم من النظرة الإيجابية إلى العلاقات السورية السعودية في مرحلة ما بعد الأسد، إلا أنّ الضمور، يرى أنّ الرياض ربما تراقب في هدوء الأداء العام في دمشق، خصوصاً في ظل التخوّفات من شكل الإدارة الانتقالية الحالية وخلفيتها الجهادية وسجلها الإجرامي القديم، مشيراً إلى أنه لن يُسمح بتحويل سوريا إلى "أفغانستان جديدة"، لاختلاف الوضع وأهمية موقعها الإستراتيجي، ولأنه في حال سيطرت مجموعات أصولية مسلحة، والتي عادةً ما تتبع تنظيمات إرهابيةً مثل "القاعدة"، عليها فإنّ ذلك تكون له تبعات خطيرة على الأمن الإقليمي، وأيضاً على العلاقات مع دول الجوار. ويستشهد للتدليل على ذلك، بواقعة المصري أحمد المنصور، الذي حارب في صفوف فصائل المعارضة السورية المسلحة ثم انتهز فرصة إسقاط نظام الأسد وأعلن عن تأسيس تنظيم مضاد للحكومة المصرية قبل أن يتم توقيفه.
قلق من الإسلام السياسي
وعلى عكس هذه التوقّعات الإيجابية، ترى وحدة الدراسات السياسية في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، في مقال حديث لها، أنّ السعودية قد تتبنّى نهجاً أكثر حذراً، في تعاملها مع الإدارة السورية الجديدة، خاصةً أن هيئة تحرير الشام كانت في طليعة الجهود الأخيرة التي أطاحت بنظام الأسد، ويتصدّر قادتها المشهد السياسي في البلاد الآن، وهو ما قد يسمح بعودة تيار الإسلام السياسي، لحكم البلد الذي يُعد من أهم دول المنطقة.
وتشير الوحدة إلى أنّ السعودية تدرك مدى أهمية سوريا المستقرة والموحّدة، لذا فإنها ستدعم الحفاظ على الاستقرار الإقليمي، وتعزيز نهاية النفوذ الإيراني، وضمان عدم تحوّل سوريا إلى منصة لإثارة عدم الاستقرار الإقليمي، أو منصة لتصدير نموذج إسلامي يهدد استقرار الأنظمة العربية الأخرى، مؤكدةً أنّ الترحيب السعودي بما حدث في دمشق يشير إلى الرغبة في لعب دور محوري في تشكيل مستقبل سوريا.
وبعيداً عن إيران التي انسحبت من المشهد السوري راهناً، يبرز الدور التركي أيضاً، حيث تسعى أنقرة هي الأخرى إلى استغلال حالة الفراغ لتوسيع دائرة نفوذها عبر حلفائها في الداخل السوري، وهو ما قد يصطدم مع أي دور عربي في المستقبل، وهو أحد السيناريوهات المحتملة، وفقاً لجوزيه بيلايو، المدير المساعد لمبادرة سكوكروفت للأمن في الشرق الأوسط التابعة للمجلس الأطلسي.
في مقال له، يلفت بيلايو، إلى أنّ الأنظمة الخليجية كانت قد بدأت التطبيع مع نظام الأسد، ولدى سقوطه تُركت دول الخليج خالية الوفاض، إلا أنّه على الرغم من ذلك توجد فرصة هائلة لتوحيد القوى وممارسة نفوذ كبير -سياسي ومالي- في مستقبل سوريا، لا سيّما إذا ما نجحت في التكيّف مع الدور التركي المتزايد في البلاد.
وينبّه إلى أنّ هذه التحرّكات الخليجية تشكّل إشارةً إيجابيةً إلى أنّ الدول التي طبّعت مع الأسد من المرجح أن تتعامل بشكل عملي مع حقائق سوريا الجديدة، لافتاً إلى أنّ أنقرة قد ترحّب بدور عربي في سوريا كونها لا تستطيع وحدها تحمّل فاتورة إعادة إعمارها، مردفاً أن التعاون مع دول الخليج من شأنه أن يجلب الشرعية والموارد المالية الأساسية لجهود إعادة الإعمار.
بعيداً عن إيران التي انسحبت من المشهد السوري راهناً، يبرز الدور التركي حيث تسعى أنقرة هي الأخرى إلى استغلال حالة الفراغ لتوسيع دائرة نفوذها عبر حلفائها في الداخل السوري، وهو ما قد يصطدم بأي دور عربي في المستقبل. كيف استعدّت السعودية والدول العربية لذلك؟
مخاوف من الصعود التركي و"عودة إيرانية"
إلى ذلك، يرى الباحث في برنامج الأمن القومي في معهد أبحاث السياسة الخارجية الأمريكي، محمد صالح، أنّ البعد الإقليمي للصراع السوري معقّد للغاية، حيث تتنافس العديد من الأطراف على النفوذ في البلاد، وفي مقدمتها تركيا التي تبرز باعتبارها المستفيد الرئيسي من سقوط الأسد، وكذلك دول الخليج التي سارعت إلى التواصل مع السلطة الانتقالية في دمشق.
ويضيف، في مقال له، أنّ المملكة والإمارات والأردن، تنظر بقلق إلى صعود تركيا في سوريا، لا سيّما إذا ما رُبِط ذلك بطموحات العثمانية الجديدة، وصعود جماعات الإسلام السياسي. وبما أنّ تركيا تفتقر إلى الوسائل المالية لتمويل إعادة إعمار سوريا، فإنّ دول الخليج، بمواردها المالية الهائلة، تضع نفسها لاعباً رئيسياً في هذا المضمار.
كما يتخوّف الباحث من محاولات طهران استعادة نفوذها في سوريا من خلال تواجدها على طول الحدود العراقية السورية، لافتاً إلى أنّ وجود فصائل من الحشد الشعبي الموالية لإيران على طول الحدود البالغ طولها 600 كيلومتر، قد يوفّر لطهران مساحةً للمناورة في سوريا على الرغم من النكسات الأخيرة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
KHALIL FADEL -
منذ ساعةراااااااااااااااااااااااااائع ومهم وملهم
د. خليل فاضل
Ahmed Gomaa -
منذ 20 ساعةعمل رائع ومشوق تحياتي للكاتبة المتميزة
astor totor -
منذ 4 أياماسمهم عابرون و عابرات مش متحولون
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامفعلاً عندك حق، كلامك سليم 100%! للأسف حتى الكبار مش بعيدين عن المخاطر لو ما أخدوش التدابير...
Sam Dany -
منذ أسبوعانا قرأت كتاب اسمه : جاسوس من أجل لا أحد، ستة عشر عاماً في المخابرات السورية.. وهو جعلني اعيش...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلماذا حذفتم اسم الاستاذ لؤي العزعزي من الموضوع رغم انه مشترك فيه كما ابلغتنا الاستاذة نهلة المقطري